نبوءة عرّاف السلام
    السبت 23 يناير / كانون الثاني 2021 - 18:20
    د. ميسون البياتي
    عرّاف السلام الذي نتحدث عنه ليس كواحد من عرّافي الخيبه الذين تزخر بهم محطات التلفزه العراقيه والعربيه , لكنه رجل علم اتخذ من تحليل عوامل الواقع وسيله للتوصل الى حدس الفعل الذي سيقع فيما بعد , وفي حالة توقعه لحدوث أمر ما فهو يصحح مسار توقعه مع توالي أحداث لاحقه مرتبطه بموضوع  التوقع ذاته , وكما سنرى في موضوعة العراق 
    [[article_title_text]]
    يوهان فينسينت غالتونغ

    ولد يوهان فينسينت غالتونغ عام 1930 وهو عالم إجتماع نرويجي حاصل على 13 شهادة دكتوراه ما بين أصليه وفخريه , وهو المؤسس لمركز دراسات السلام والنزاعات في جامعة أوسلو عام 1959 الذي بقيَّ مديراً له حتى العام 1970 وهو المؤسس لمجلة أبحاث السلام في العام 1964 . في العام 1969 حصل على كرسي الأستاذيه في جامعة أوسلو لتدريس مادة ( السلام والنزاعات ) الذي شغله حتى العام 1977 وبعد إستقالته منه حصل على كرسي الأستاذيه في جامعات عديده حول العالم كان من أهمها أستاذيته لدراسات السلام في جامعة هاواي من 1993 حتى 2000 بعدها إستقر في كوالالمبور حيث تم تعيينه في الجامعه الإسلاميه العالميه في ماليزيا لشغل كرسي مهاتير محمد للسلام العالمي بين عامي 2000 _ 2015 

    غالتونغ شخصيه فكريه رئيسيه في ( اليسار الجديد ) منذ خمسينيات القرن الماضي . تشكل اليسار الجديد كحركه سياسيه واسعه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من نشطاء في العالم الغربي قاموا بحملات من أجل مجموعة واسعة من القضايا الاجتماعية مثل الحقوق المدنيه والسياسيه والنسويه وحقوق المثليين والحركات المؤيده للاختيار, وأدوار الجنسين وإصلاحات السياسه الدوائيه في العالم 
     يرى البعض أن اليسار الجديد رد فعل معارض للحركات الماركسيه والنقابيه التي ركزت على الماديه الديالكتيكيه والصراع الطبقي ، بينما يرى آخرون أن اليسار الجديد هو استمرار للأهداف اليساريه الماركسيه ولكنه تحديث لها 
     بينما رفض بعض الذين عرّفوا أنفسهم على أنهم ( يسار جديد ) الانخراط في الحركه العماليه , ونظرية الماركسيه التاريخيه للصراع الطبقي ، في حين هناك آخرين لديهم انجذاب للأشكال الراسخه من الماركسيه مثل ( حركة الشيوعيه الجديده ) في الولايات المتحده التي تطورت عن الشيوعيه الماويه , أو ( كي غروب ) في ألمانيا وهي مجموعة أحزاب يساريه صغيره ذات ميول ماويه ظهرت في ألمانيا مع تفكك الإتحاد الإشتراكي الطلابي في ألمانيا الشرقيه ولعبت ألمانيا الغربيه دوراً فاعلاً في تأسيسها 
     ضمن حركة اليسار الجديد اشتهر غالتونغ بإسهاماته في علم الاجتماع منذ خمسينيات القرن الماضي ، والعلوم السياسيه في الستينيات ، والاقتصاد والتاريخ في السبعينيات ، والتاريخ الكلي والأنثروبولوجيا واللاهوت في الثمانينيات 
    صاغ غالتونغ مصطلح ( أبحاث السلام ) وطوّر العديد من النظريات المتعلقه ، مثل التمييز بين السلام الإيجابي والسلبي ، والعنف الهيكلي ، والصراع وحل النزاعات ,   ومفهوم بناء السلام , ونظرية ( الولايات المتحده كجمهوريه وإمبراطوريه في نفس الوقت ) وغالباً ما كان ينتقد دول الشمال في موقفها من الجنوب . حصل على جائزة ( رايت ليفلهود ) 1987 ( لدراسته المنهجية والمتعددة التخصصات للظروف التي يمكن أن تؤدي إلى السلام ) والجائزه سويديه تمنح لتكريم ودعم أولئك الذين يقدمون إجابات عمليه ونموذجيه على التحديات الأكثر إلحاحاً التي تواجهنا اليوم , كما حصل على العديد من الجوائز والأوسمة الأخرى

    يرى غالتونغ أن هناك 4 طرق تقليديه ولكنها غير مرضيه يتم من خلالها فض النزاعات بين طرفين 
    # يخسر الأول ويفوز الثاني 
    # يخسر الثاني ويفوز الأول 
    # تأجيل الحل لأن الأول والثاني لا يشعران انهما مستعدان لإنهاء الصراع 
    # يتم الوصول الى حل وسط مشوّش لا يرضي كلا الطرفين , مما يساعد على مواصلة النزاع مستقبلاً 
    للعمل كوسيط لحل النزاع بشكل تام بحيث لا يتجدد مرة ثانيه يطرح غالتونغ طريقاً خامساً يتمثل بإشعار كل من الأول والثاني أنهما منتصران وأن كل منهما حصل على ما يبتغيه من الصراع , في هذه الحاله سيبحث الطرفان عن السلام فينتهي النزاع 

    تصور غالتونغ بناء السلام من خلال الدعوه إلى أنظمه من شأنها أن تخلق سلاماً دائماً وتعالج الأسباب الجذرية للنزاع مع التأكيد على دعم القدره المحليه على إنتاج السلام وحل النزاعات , لأن الحلول المفروضه بالقوه الدوليه أو الأمميه توقف الحروب ولا تنهي أسبابها 

    العنف الهيكلي كما يعرّفه غالتونغ هو الطرق المنهجيه التي يمنع بها نظام المجتمع بعض من أفراده من تحقيق إمكاناتهم الكامله , من أمثلة ذلك التمييز العنصري والتمييز الجنسي , التمييز الذي يمنح لعنصر أو جنس معين في المجتمع الحق في شيء بينما يحرم العنصر أو الجنس الآخر منه 

    أما مفهوم غالتونغ للسلام السلبي والسلام الإيجابي فهو يؤكد على أن السلام لا يتحقق بمجرد غياب الصراع العنيف العلني لأن هذا سيكون سلاماً سلبياً ، السلام الإيجابي والحقيقي يجب أن يتضمن مجموعه من العلاقات تصل فيها الدول أو مجموعات الصراع الى علاقات تعاونيه داعمه لبعضها
    [[article_title_text]]

    نصل الآن الى نبوءة غالتونغ فهو يرى أن الولايات المتحده جمهوريه وإمبراطوريه في آن واحد معاً . الولايات المتحده محبوبه كونها شعب وأمه لصفاتها الجمهوريه ، ومكروهه كإمبراطوريه من أعدائها في الخارج بسبب اعتداءاتها العسكريه المتكرره على شعوب ومناطق مختلفه من العالم 
    صفات الولايات المتحده كجمهوريه تشمل أخلاقيات عملها وحيويتها ، إنتاجيتها وإبداعها ومناداتها بالحريه , وروح الرياده التي تتحلى بها . لكنها كإمبراطوريه مكروهه بسبب تلاعبها العسكري والسياسي بالعالم وعدوانيتها وغطرستها وعنفها ونفاقها وعدم استقامتها فضلاً عن جهل الرأي العام الأمريكي بالثقافات الأخرى للعالم , وماديه المواطن الى حد الجشع والتطرف في تقييم أي عمل بمقدار الربح المادي فقط 
    في عام 1973 ، انتقد غالتونغ الولايات المتحده والدول الغربية الاخرى التي تشن حرباً لتأمين المواد والأسواق لأن نظامها الاقتصادي الرأسمالي حين سينتشر في بلدان اخرى سيتحول الى امبرياليه عالميه . أما في العام 1999 فصرح غالتونغ أن الولايات المتحده ( دولة قاتله )  مذنبه بارتكاب ( إرهاب الدولة الفاشي الجديد)  وشبّه الولايات المتحده بألمانيا النازيه لأنها قصفت كوسوفو بواسطة حلف الناتو عند قصف يوغوسلافيا 1999 

     برأيه تسبب الإمبراطوريه الأمريكيه ( معاناة واستياء لا يُحتملان )  لأن ( المستغِلين / القتله / المسيطرين / المتحالفين أولئك الذين يدعمون الإمبراطوريه الأمريكيه بسبب ما يعتقدونه من فوائد متخَيَله )  ينخرطون في : أنماط تعاون غير متكافئه وغير مستدامه
      
     بعد غزو العراق في 2003 نشر غالتونغ مقالاً عام 2004  تنبأ فيه أن إمبراطورية الولايات المتحده سوف تبدأ بالإنهيار والسقوط بحلول عام 2025 لأن تداعيات الأزمه العالميه التي سيخلفها غزو العراق ستسحب الجميع بمن فيهم الولايات المتحده الى الهاويه  , ثم توسع في هذه الفرضية في كتابه الصادر عام 2009 بعنوان سقوط إمبراطورية الولايات المتحدة - وماذا بعد ؟ خلفاء أم أقلمه أم عولمه ؟ فاشية الولايات المتحدة أم ازدهارها ؟ 
    في العام 2016 مع وصول دونالد ترامب الى سدة الحكم , قام غالتونغ بتعديل فرضيته حول تاريخ سقوط الإمبراطوريه الأمريكيه فأعطاه تسارعاً أكبر حين جعل بداية السقوط تكون منذ العام 2020 وبالفعل فإن اشتداد الصراع مع الصين وازمة كورونا وتفشي البطاله وإحتجاجات السود والتفرقه العنصريه بين المهاجرين وغيرها من الأزمات على رأسها ما قام به ترامب وانصاره للتشبث بالحكم هي مؤشرات بما لا يقبل الشك على بداية ذلك الإنهيار 
    ومع ذلك ، فإن تراجع إمبراطورية الولايات المتحده لا يعني ضمناً تراجع جمهورية الولايات المتحدة ، لأن التخفيف عن كاهل الدوله أعباءها الإمبراطوريه  سيؤدي الى صيانة الجمهوريه وإزدهارها . ثم صرح غالتونغ في برنامج ( الديمقراطية الآن) الإذاعي والتلفزيوني أنه يحب الجمهوريه الأمريكيه ويكره الإمبراطوريه الأمريكيه وأكّد في جولات محاضراته أن العديد من الأمريكيين شكروه على هذا التصريح لأنه ساعدهم في حل الصراع بين حبهم لوطنهم واستيائهم من سياسته الخارجيه

    د. ميسون البياتي 

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media