(الحلقة الخامسة – الأخيرة) شيء من النقد.. هل حَوّلَ النّبيُّ الشّعرَ الجاهليَّ إلى آياتٍ قرآنيّة؟ تحليل نقدي لغوي لنص مدسوس على امرئ القيس
    الأحد 28 نوفمبر / تشرين الثاني 2021 - 22:35
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    الأبيات التي تحدثنا عنها في الحلقات الماضية منسوبة لامرئ القيس، هي، في حقيقة أمرها، أبيات لابن سهل الإشبيلي الأندلسي (605هـ/649هـ) وهو من أصول يهودية. اختلف الرواة في إسلامه. عُرف بجمال الشعر وجودة الكتابة، وكان منصرفا إلى اللهو والغزل, غادر إشبيليه إلى سبتة حين بدأت الأحوال بالسوء وانتهت بسقوط الأندلس.
    وشعره ينضوي تحت قيم الشعر الأندلسي، خفة لفظ، وجمال موسيقى، وله رونق يحظى بالإعجاب، أقرب إلى ظاهر اللغة منه إلى أعماقها. ولسنا هنا في معرض نقد الشعر الأندلسي. 
    ومطلع قصيدته التي مُسخت منها الأبيات المذكورة في الحلقات السابقة:
    دَنَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَر/ عَن غَزَالٍ صَدَّ عَنِّي وَنَفَر
    أحور قَد حِرتُ فِي أوصَافِهِ/ سَاحِر الطّرف بِعَينَيهِ حَوَر
    وعلى الرغم من أن القصيدة لابن سهل فإن الشيخ المناوي الذي جاء بعده بثلاثة قرون (952هـ/ 1031هـ) في كتابه (فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير) قال: (وقد تكلم امرؤ القيس بالقرآن قبل أن ينزل)(2/187) إشارة إلى تلك الأبيات وما إليها. وهذه خرافة أسطورية بلا شك. فالقصيدة لابن سهل وهي صورة من صور البيئة الأندلسية لا من بيئة امرئ القيس.
    ولمّا كانت الجزيرة العربية بأعماقها وحوافّها قد حفلت بعديد الأديان، فليس من الغريب أن يظهر فيها شعر ديني، أو متأثر بالقيم الدينية. كما لا يُستبعد النحل في تلك الأشعار. ولقد سئلت عن الموقف من هذا الشعر، فقلت: إن الموقف يُتّخذ بناء على مقاييس فنية ولغوية وتاريخية معينة. فيُقبل أو يُرجّح قبوله، أو يُرفض، فالنصوص التي تتحدث عن عقيدة التوحيد والموت والبعث يمكن قبول الكثير منها لأنها أمور قد عرفت من قبل ظهور الإسلام، إضافة إلى لغتها وما إلى ذلك. فقول قس بن ساعدة:
    في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائرْ
    لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادرْ
    ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر.. إلى آخره
    يمكن قبوله لأن موضوعه ملحوظ معروف.
    غير أننا نلاحظ نصوصا أخرى نظمت قصص القرآن شعرا مثل قصة نوح ويوسف وغيرهما، كما هو الحال في أشعار أمية بن أبي الصلت الثقفي وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهما.
    ولمعرفة الأصيل من المنحول من أشعار الشعراء، سواء في هذا الموضوع أم غيره، ننظر في لغة شعرهم ومستويات التعبير فيه. فالمعيار الأول في تحديد الموقف هو مستوى التعبير، لا اجتهاد الناقد بإطلاقه الكلام بلا دليل، أو باعتماد رواية باطلة قد علاها التزمير والتطبيل.
    شعر أمية بن ابي الصلت، مثلا، له مستويان متفاوتان تفاوتا فنيا كبيرا. فما أرقى قوله في المديح:
      أأذكر حاجتي أم قد كفاني/ حياؤك إنّ شيمتك الحياءُ
    إذا أثنى عليك المرء يوما/ كفاهُ من تعرّضه الثناءُ
    وقصيدته الجميلة في الغزل:
    كأن المسك تخلُطُه بفيها/ وريح قرنفلٍ والياسمينا
    وقارن هذا التعبير السليم القوي الجميل مع قوله في قصة النبي سليمان:
    من قبله بلقيس كانت عمّتي/ حتى تقضّى حكمها بالهُدهدِ
    أو قوله:
    إن الحدائق في الجنان ظليلة/ فيها الكواعب سدرها مخضودُ
    أو قصة النبي نوح:
    المسبح الخشب فوق الماء سخرها/ خلال جريتها كأنها عوم
    تجري سفينة نوح في جوانبه/ بكل موج مع الأرواح تقتحم
    حتى تسوّت على الجوديّ راسية/ بكل ما استودعت كأنها أُطُمُ
    لاحظ اضطراب القافية فلا يمكن أن تكون (عوم/ تقتحم) قافيتين في قصيدة واحدة. وانظر إلى (السناد) وهو عيب من عيوب القافية في (تقتحم، أُطُمُ). أما عن قوله (تسوّت على الجوديّ) فلا ندري إن كان أحد قد تجرّأ على القول بأنها قراءة في: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)(سورة هود 44).
    ومثل ما في شعر أمية بن أبي الصلت ما روي لزيد بن عمرو بن نفيل، وغيره.
    ضعف التعبير في هذه القصائد، والخلل في مراعاة أوليات قوانين الشعر وقواعده في نظمها، مما لا يلائم مستوى شعر هؤلاء الشعراء في مواضيع أشعارهم الأخرى، مما يدعونا إلى رفضها لا إلى الشك فيها فحسب. وليس القرآن بحاجة إلى تلك القصائد لتزكيته.

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media