النهى عن المعروف!
    الأربعاء 8 ديسمبر / كانون الأول 2021 - 12:43
    سحر الجعارة
    كاتبة مصرية
    كنت فى العشرين حين ذهبت لأول مرة لأداء العمرة، على مدخل أحد المولات بجدة رأيت لأول مرة «مطوع» ينادى للصلاة ويضرب المارة بالـ«مقرعة»، وهى أداة خشبية خفيفة لزجر المتقاعس عن دخول المسجد!.. لم أتصور أن أحداً جاء من أقصى الأرض ليصلى بالحرمين الشريفين ويترك الصلاة.. علمت فيما بعد أن بالمملكة السعوية هيئة لـ«الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».. تقلصت صلاحياتها الآن.

    فى عام 2009 بدأت هيئات لـ«الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» تطارد المجاهرين بالإفطار، من خلال القبض على عدة مواطنين فى بعض المحافظات، وفى مايو 2010 داهم رئيس حى العجوزة أحد المقاهى فى نهار رمضان، وقام بتشميعه وسحب المعدات منه!.

    بعدها تم إلقاء القبض على الصحفى المسيحى «هانى شمشون»، صحفى بجريدة التحرير، لأنه يحمل زجاجة مياه فى شنطته!. ورغم أنه لا يوجد قانون فى مصر يجرِّم الإفطار فى نهار رمضان، فإن الشرطة تستند إلى الدستور المصرى الذى يكفل حماية الأخلاق فى المجتمع، ويصنف الفعل كـ«جنح» مثل عقوبة الفعل الفاضح فى الطريق العام!.

    هكذا تم تدشين الحرب على «الآخر» لمجرد أنه يختلف عنا، الدولة لم تفرض «حظر الإفطار» على مسيحييها بتشريع قانونى، لكن هيئات «النهى عن المنكر»، العشوائية، أصبحت كياناً رسمياً يبيح لها ضرب المجاهرين بالإفطار بـ«الفلكة» وإقامة ما يسمى الحد الشرعى عليهم إن وجد!.

    فى زحام الإجازات يفاجأ رواد المقاهى بمشهد غير معتاد، من قلب صخب التليفزيون والحديث عن كرة القدم ودخان الشيشة والسجائر يظهر دخول شيوخ من الأزهر الشريف بزيهم التقليدى!!.

    الوعاظ لم يضلوا طريقهم إلى المسجد، إنهم مكلفون من مجمع البحوث الإسلامية، التابع للأزهر الشريف، بالانتشار فى جميع المحافظات على مستوى الجمهورية، فى قوافل تستهدف الشباب على المقاهى، بل مراكز الشباب والمدارس والجامعات. لا تقل إن الوجود فى مؤسسة تربوية وتعليمية خطأ يرقى لمرتبة الجريمة فى حق الطالب الذى يفترض أن يتلقى الوعى الدينى بالتثقيف والتنوير، وهذه مهمة أساتذته وليست مهمة الدعاة.. ولا إن قوافل الوعاظ يمكن أن تحول الجامعات إلى ساحة صراع بين التيارات الدينية!.. لتعود الجنازير تمنع المسرح داخل الحرم الجامعى.. وتتكرر كارثة الإخوان والتكفيريين فى الجامعات: «هكذا فهمنا تجديد الخطاب الدينى»!!.

    بهذا الزن المستمر على المواطن بفكرة «الوصاية على المجتمع» وتقويم الآخر وتربيته وفقاً لما يعتقد أنه «الصواب».. تم تكريس فكرة «الاستعلاء الدينى»: المنتقبة أتقى من المحجبة، والمحجبة محترمة أكثر من المحتشمة.. والسافرة فى نار جهنم «دنيا وآخرة»!.

    لهذا خرج علينا حراس «الفضيلة والأخلاق» يزايدون على النجم المصرى «محمد صلاح»، هدَّاف فريق ليفربول الإنجليزى، بسبب رأيه فى شرب الخمر: (أنا نفسى مش عايز أشرب خمرة مش عايز أجرب).. أمَّال لو جرب؟!.

    يتخيل المؤمن الهش أنه القائم بأعمال حماية الذات الإلهية من الأصنام التى تنافسه فى العبادة على الأرض، وأنه بالصراخ والعويل يفرض «شريعة الله» ويعاقب المتذبذين الذين لم يحرموا الخمر بجملة قاطعة.. وأنه جاء إلى الحياة لاقتحام خصوصية البشر ومراقبتهم وفرض أفكاره المتشددة على سبيل «أضعف الإيمان»، وإن تمكن لن يتردد من تفجير نفسه فى شعب كافر بعضه يتناول الخمر ودولته تحصل عنه الضرائب.. رغم أنه هو نفسه بل ووعاظ الأزهر ورئيس حى العجوزة جميعم يتلقون رواتبهم من نفس المنبع: الحرام هو التلصص والنميمة ومتابعة عورات الناس «حُرمت عليك عيشتك».
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media