الذكرى 130 لميلاد المفكر انطونيو غرامشي
    السبت 13 فبراير / شباط 2021 - 17:11
    موسى الخميسي
    في الوقت الذي كان انطونيو غرامشي1891ــ1937 يعمل على تجديد النظر الى الماركسية، أوإعادة قراءتها وفق شرطها العقلاني النقدي التحليلي، بوصفها " رؤية، وطريقة في التفكير"، كانت العديد من الاحزاب التي تبنت الفكر الماركسي، تعمل على تحويل هذا الفكر الى مذهب مغلق، والى دين جديد، يحل فيه الايمان محل التأمل والتفكير والمراجعة . وقد احدثت طروحات غرامشي اهتزازات فصلت ما بينه وبين عدد من الاحزاب والتنظيمات اليسارية التي تتبنى الفكر الماركسي في عدد كبير من دول العالم، التي كانت تقرأ غرامشي بعين سلبية الى كل ما يمس الثوابت والمسلمات النظرية الماركسية الذي تفّد عليها من منظري المعسكر الاشتراكي، وفق الصورة التي اضفاها هذا المعسكر على النظرية الماركسية كديانة جديدة، وهي صورة طالها كثير من التحريف والتأويل والجمود.                                                                                الحاجة الى ماركس باعتباره " رؤية، وطريقة في التفكير"، اي جوهرا، هي نفسها الحاجة الى المثقف، باعتباره فاتح طرق ومسالك، لامبتدع عقائد وديانات، وهو الامر الذي سيجعل من فكر المثقف،فكرا نقديا متجددا، يتنافى مع فكر" الداعية" او  "الفقيه" أو" السياسي"، المتشبث بثوابته الدوماغوجية العمياء. ففي غمرة التحولات والتغيرات وما يحدث من انقلاب على الفكر الحداثي التنويري، ينفرد الفكر الديني المحافظ، بسعيه المحموم لتغيير القيم، وتوظيف التعليم لخدمة افكاره، ويبقى دور المثقف ملتبسا، او يكاد يكون غائبا، غير قادر على الخروج من سديميته، لينخرط في التغيير، وفي إعادة صياغة التصورات والمفاهيم. أي يبقى المثقف أسير وعي سابق، ويظل خارج السياق التاريخي الذي يعيش فيه، وان يتخلى عن وظيفته، باعتباره "وظيفة ثقافية"، ليصطف في النتيجة مع اصحاب المذاهب العقائدية المغلقة، بعيدا عن المواقف النقدية الابداعية.

    كلنا يعلم بان الوضع الراهن يقتضي من المثقف ان يكون حاضرا في إعادة صياغة المفاهيم وبناء القيم والتصورات وتكريس قيم الحداثة، وهو الامرالذي يفرض على المثقفين ان يكون لهم دور في واقع القرار، ليس وفق برامج الاحزاب، بل وفق منظور ثقافي يكون في صميم عملهم. ومن هنا تأتي أهمية قراءة غرامشي الذي كان ذهابه الى المثقفين، تأكيدا للدور الكبير الذي لعبه  هؤلاء عبر التأريخ في تكريس الوعي، وفي طبيعة الوظيفة الثقافية والاجتماعية لهذه الشريحة او تلك من الناس، وهو أيضا، تأكيد لأهمية المعنى والثقافة في تشكيل المجتمع، وتوجيه صيرورته.                

     بيّن هذا المفكرالكبير بانه يمكن تقيّيم المثقفين اعتمادا على مقدرتهم على ــ او عجزهم عن ــ ان يرتبطوا بالجماهير الصاعدة، فاذا تمكنوا من ذلك كانوا مثقفين عضويين، والا فهم مثقفون إصطناعيون ومزيفون. ينظر غرامشي الى المثقف كونه الغائب الكبير في ما يجري من طعن في قيم الحداثة والتنوير، والسعي المحموم لنقل الدولة من نظام استبدادي دنيويّ، الى نظام استبدادي ديني، يدعو الى التقليد من خلال اجترار الماضي.

    يمكن اعتبار المثقف موجودا في الحزب السياسي، باعتباره، وفق مفهوم غرامشي، مثقفا عضويا، كما يمكن اعتباره، وفق المنظور الديني، مثقفا داعية، او " ملتزما"، اي ان المثقف ليس كيانا منفصلا عن انتماء عقائدي ما، وان هذا الانتماء يجعل من المثقف حاضرا في كل ما يجري، مادام ليس مستقلا، او صوتا مفردا، او ينتمي لمؤسسة ثقافية، او ذات معنى ثقافي، بل باعتبارعضويته السياسية، او الدينية ، مجرد الّعوبة. ان"المثقف العضوي"، رغم ارتباطه، عضويا، بالطبقات الاجتماعية، باعتباره منظم قيادة هذه الطبقات، وسيطرتها على مجمل المجتمع، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، يبقى في مفهوم غرامشي الذي غالبا ما تجاهلته الاحزاب والتنظيمات التي استعملت هذا المفهوم في عموميته، يتمتع باستقلال ذاتي نسبي حيال هذه الطبقات، كون الاستقلالية، تعني الارتباط بهذه الطبقات ولا تعني العضوية في طبقة اجتماعية. 

    اما مشكلة المثقفين فهي اساسية وجوهرية، اذ يرى غرامشي ان كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني، ولكنهم لايملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، وهي وظيفة لايمتلكها الا اصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس. ومن هنا يستخلص الفارق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي. الاول يعيش في برجه العاجي ويعتقد انه اعلى من كل الناس، في حين ان الثاني يحمل هموم كل الطبقات وكل الجماهير وكل الفقراء والمحرومين والكادحين. وعليه، فأن المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا امته.

    "لاوجود لتنظيم بلا مثقفين". هكذا تصور غرامشي العلاقة بين الطرفين، والمثقف هنا، هو من يتكلف بـ( الانشاء الفكري والفلسفي) اي بالعمل النظري لايديولوجية الحزب. فهؤلاء هم من يرشدون خطاب الحزب، ويعملون على وضع تصور الحزب للعالم، ورفع الجماهير الى مستوى هذا التصور. ان يذوب المثقف في الحزب، او يعمل وفق توجيهات القائد، او السياسي، معناه ان يكون الحزب دون فلسفة، او دون عقيدة، بما تعنيه هذه الفلسفة أوالعقيدة من عمل على " تربية" الجماهير، وإعادة صياغة المجتمع وفق صورة تلك الفلسفة او العقيدة. الحزب ليس " الها خالقا" بمعنى انه ليس هو منتج الدلالات، او المحدد لمعنى الوجود السياسي والايديولوجي، بالمعنى الفوقي، او المتعالي على القواعد الحزبية، وهو ما كان غرامشي يسعى لتثبيته من خلال رؤيته الى الحزب باعتباره مثقفا جماعيا، فقد أكد في نص له عن " المادية التاريخية" انه لاوجود لتنظيم بدون مثقفين. غرامشي كان على وعي بحركية الفكر وصيرورته، حتى لو كان فكرا عقائديا، وهو ما يفسر حرصه على الانصات لافكار الاخرين، ولضرورة إعمال الفكر النقدي، في كل ما يتعلق بـ( المناقشة العلمية). يقول غرامشي في هذا المعنى" ان الخصم يمكن ان يعبر عن مطلب ينبغي دمجه، كلحظة تابعة، في بنائه الذاتي، وفهم موقف الخصم واسبابه وتقييمها، واحيانا يكون الخصم هو كل فكر سابق، ما يعني، ان يكون المرء حرا من " سجن" الايديولوجيات بالمعنى المرذول( الهجيني)، اي ان ينطلق من وجهة نظر " نقدية" هي وجهة النظر الوحيدة الخصبة في البحث العلمي. يقول غرامشي" ان يعرف المرء ذاته يعني ان يكون ذاته، يعني ان يكون سيد ذاته، ان يتميز، ان يخرج من السديم، وهو لايستطيع ذلك إذا كان لايعرف ايضا الاخرين، وتاريخهم، وتعاقب الجهود التي بذلوها كي يكونوا ماهم عليه". كان الفكر السياسي لانطونيو غرامشي، يفتح طريقا للسياسة لتعبر نحو المعرفة، لا لتبقى حبيسة أوهام ومغالطات، كانت من اسباب انهيار تنظيمات واحزاب سياسية، لم تعرف كيف تجدد رؤيتها للعالم، او كيف تستفيد من المعنى المعرفي للايديولوجيا التي اكتفت منها بالوهم والضلال.

    اما على الصعيد الفني، فانه قد اولى مسألة الادب الشعبي أهمية كبيرة على ضوء كيفية تحقيق الارتباط بين الادب والشعب، وكيف يمكن وضع أدب النخبة بمتناول الشعب والامة. وهاتان المسألتان تفسران اهتمام غرامشي الدقيق بواقع الامة التاريخي، ذلك الاهتمام الذي لايمكن عزله عن الاهتمام النظري.ومن هنا يأتي دور المثقف العضوي، بان لايكون مثقفا تقليديا ماضويا، مرتبط عضويا بالطبقات الاساسية، ومتشبث بالماضي ، منقطع عن الحاضر، يبرر وجوده بالتقاليد، ويكون السلف هو المرجع والحجة، كما يريده اصحاب المّد الاصولي الذي يجتاح  اليوم واقعنا، برؤيتهم للثقافة باعتبارها قيمة زائدة.

     

    أكد غرامشي على ضرورة امتلاك الجماهير كمّا من الثقافة يختلف شكلا ومضمونا عن الثقافة المحترفة، فالثقافة الشعبية يجب ان توجد الموقع الذي على الانسان العادي ان يحتله من اجل اعادة صياغة المجتمع والعالم، وفي هذه الحالة، من وجهة نظر غرامشي، بالامكان انتاج معرفة جديدة تغيب فيها الفروق بين الثقافة المحترفة والثقافة الشعبية.  وللوصول الى هذا الطموح يفرض غرامشي ضرورة الغاء الشكل التقليدي لفهم الفلسفة التي يصورها المحترفون من رجال الثقافة على انها امر بالغ الصعوبة ومقتصرة على فئة محددة من العلماء المختصين والفلاسفة المحترفين، والحقيقة هي ان الفلسفة الحقيقية هي فلسفة البشر( فكل انسان فيلسوف)، فلسفة رجل العفوية، فالجماهير الشعبية لها فلسفتها الخاصة بها، وهو يقول " لانستطيع ان نتصور وجود انسان لايستطيع التفكير حتى وان لم يكن فيلسوفا، لان فعل التفكير من خصائص الانسان من حيث هو كذلك".

    والفلسفة الجماهيرية التي تحدث عنها غرامشي مزيج من اللغة والحس العام والحس السليم والفلكلور" باعتباره انعكاسا لشروط حياة الشعب الثقافية" وكذلك المعتقدات الدينية الشعبية. ولا يمكن ان تتحقق هذه الثقافة وتتكامل الا من خلال المنظم لها وهو الحزب السياسي، اذ من دون هذا المنظم الذي يطلق عليه اسم " الامير الجديد" فان هذه الثقافة هي بشكل او بآخر جزء من الثقافة المحترفة المتسلطة التي تقف ضد الثقافة الشعبية التي هي انعكاس حقيقي للشروط المادية والروحية والفكرية للشعب وما حضور الثقافة الشعبية الا الحضور السياسي للقوى الشعبية وتجسيدها في استقلال سياسي.

    وفي تراجع هذه القوى، تغدو الثقافة الشعبية والاشتراكية والحزب عبارة عن مفاهيم مجردة ليس الا. اما كيف يمكن تحقيق التقدم الثقافي للجماهير فهذا الامر، من وجهة نظر غرامشي، يعتمد بالدرجة الاولى على الحياة اليومية التي في جوهرها تحول الفلسفة الى تصور متناسق، متجانس وواضح للمعالم، ولا يأتي هذا من خلال استيراد وتلقين خارجي لان العملية ستقع في المطب نفسه الذي هو امتداد للتلقين الديني والمدارس الرسمية، بل يتحقق من خلال التعليم والتعليم الذاتي، وتحقق من خلال الفعل اليومي المبدع الذي يرتقي بالحس الجماهيري العام الى مقام الفلسفة" ان نقد كل فلسفة اعدت حتى اليوم، انما هو على قدر ما تركت في الفلسفة الشعبية من طبقات مرصوفة. ان بداية الاعداد النقدي هي الوهي بحقيقة الذات، اي" اعرف نفسك" من حيث انك حصيلة سير تاريخي تم حتى الان، وهذا السير ترك في كل واحد منا عددا لانهاية له من آثار لم يتوفر لنا احصاؤها، فيجب البدء باحصاء هذه الآثار ووضع قائمة بها".التفكير النقدي لدى غرامشي يسعفنا في الاستنتاج لأنه يجعل من المساءلة والمراجعة والخلخلة أدواته وألياته، بغية محاكمة الافكار والنصوص والواقع والتراث والسياسة والوجود. فهو يرى بان التفكير النقدي نشاط عقلي يفترض دوما الانتقال من الاسطورة الى العقل، ومن الإدراك اليى الفهم، مع ما يصاحب هذا الانتقال من ارادة تهدف الى كشف المستور وزعزعة الثوابت ومراجعة اليقينيات. فالنقد الماركسي الذي تبناه في عمله الفكري يشدّد على تعبئة قدرات العقل لتشخيص الواقع التأريخي والاجتماعي والسياسي وكشف أليات السيطرة والاستغلال المتخفية في ثناياه وفي سياقاته المتعرجة.

    ولد انطونيو غرامشي في 23 كانون الثاني( يناير) 1891 في مدينة "اليس" في جزيرة سردينيا.

    عام 1908 اضطر الى الانقطاع عن الدراسة بسبب فصل والده من عمله، فعمل في مكتبة صغيرة لاعالة العائلة، ثم عاد في ما بعد لمواصلة دراسته بسبب اصرار امه. وفي عام 1911 حصل على منحة دراسية حكومية لدراسة الادب في جامعة تورينو.

    عام 1913 سجل في منظمة الشباب الاشتراكي، وساهم في كتابة نشرة " صرخة الشعب" التي كانت تصدر عن ذلك التنظيم.

     عام 1916 انضم الى الحزب الاشتراكي الايطالي في مدينة تورينو، وبدأ الكتابة في جريدة" افانتي"(الى الامام) الناطقة بلسان الحزب، حيث كتب مقالات فنية وثقافية، وبعد عام اصبح مسؤولا عن نشرة" صرخة الشعب" وظهرت تأثيرات فلسفة هيغل وماركس في كتاباته، وفي سنة 1917 انتخب سكرتير لفرع الحزب في تورينو, وفي 1919 بدأ مع رفاقه، تولياتي وتوسكا وترنجيني باصدار المجلة الاسبوعية" الاوامر الجديدة". وكان يصدر العدد الاول من تلك المجلة في الاول من ايار( مايو). بعد ذلك كتب غرامشي برنامج الحزب الاشتراكي الايطالي الذي اعتبره لينين في وقته يلتقي كليا مع المبادىء الاساسية للكومنترن.

     وفي عام 1921 تحولت مجلة "الاوامر الجديدة" الى جريدة يومية، ومن ثم بدأت التهيئة لتأسيس الحزب الشيوعي الايطالي, فعقد الاجتماع الاول في مدينة ليفورنا في مقاطعة توسكانا وتشكلت اول لجنة مركزية للحزب الشيوعي الايطالي.

     في عام 1921 دعي الى موسكو ممثلا عن الحزب الشيوعي الايطالي في مؤتمر الاممية الشيوعية، ولم يكن يتمتع بصحة جيدة مما حمله على دخول احدى المستشفيات السوفياتية، وتعرف اثناء مكوثه في المستشفى الى فتاة موسيقية وتزوجها واسمها جوليا سكوكت, وانجب منها ولدين، ديليو وجوليانو يعيشان حتى الان في مدينة موسكو. وفي عام 1924 غادر غرامشي الى ايطاليا، وانتخب كنائبا في البرلمان الايطالي عن مقاطعة " الفينيتو" الشمالية، وفي الوقت نفسه تسلم مهام سكرتارية الحزب الشيوعي الايطالي, وفي عام 1926 حضر المؤتمر الشيوعي في مدينة " ليون" الفرنسية، ونال خطه السياسي 90 في المئة من المؤتمرين.

    ولكن في 18 تشرين الثاني( نوفمبر) من العام ذاته تم اعتقاله في روما من قبل قوات الحرس الفاشي، وقدم الى محكمة خاصة بتهمة القيام باعمال تخريبية وتعريض امن البلاد للخطر، فحكم عليه بعشرين سنة واربعة اشهر وخمسة ايام. وفي 1929 بدأ كتابة مؤلفه الكبير" دفاتر السجن" الذي يعكس المساهمات الفكرية التي لاتزال تحظى باهتمام المثقفين والسياسيين في جميع انحاء العالم، وتتمتع بتقدير كبير لدى عدد كبير من المع المؤرخين وعلماء الاجتماع . والمعروف ان " دفاتر السجن" عبارة عن رؤوس اقلام وملاحظات حددت الظروف الخاصة التي سجلت فيها طابع هذه المواد غير المكتمل بعض الشيء وكان المؤلف يعتزم انجازها، ومما لاشك فيه ان عدم اكتمال وانجاز مؤلفه الكبير هذا، خصوصا في المرحلة الابكر على حد سواء، يمكن ان يفسر بالظروف التي عاشها وعمل فيها، ومع ذلك لايقل اهمية ان نرى ونؤكد شيئا اخر، فقد عكس بفكره المتنور هذا رفضه الخطوط البيانية المغلقة والجمود العقائدي، وسعيه الى التكيف مع الظروف القائمة، وسير الاحداث بصورة منسجمة.

     لقد تحاشى غرامشي فكره السعي الى بناء انظمة مصطبغة، وناهض منذ البداية الجمود العقائدي, فقد كتب يقول" لم يكتب ماركس انجيلا، وهو ليس رسولا ترك بعد غيابه عددا لايحصى من الوصايا المفعمة بتوجيهات قطعية وقواعد مطلقة غير قابلة للنقاش, ان ماركس بالنسبة الينا، مثال روحي واخلاقي، وليس راعيا يمسك بسوط".

    ومع نهاية العام 1935، انهى غرامشي 33 دفترا، الا انه كان يحمل الى المستشفى لمعالجته باستمرار، وظلت صحته تتدهور حتى مات في احدى مسشفيات روما في 27 نيسان ( ابريل) 1937, وقد اتهم" اومبيرتو كارديا" احد اقطاب الحزب الشيوعي الايطالي في عام 1988،زعيم الحزب الشيوعي الايطالي "بالميرو تولياتي 1883ــ1964" بالتهاون مع ستالين في عدم دعم الحملة العالمية لفك حصار العزلة القاتلة التي عاشها غرامشي داخل السجون الفاشية، اذ يعتقد كاديا بان تولياتي لم يفعل شيئا من اجل انقاذ غرامشي ويعزي السبب في ذلك" الى ان غرامشي تميز بمواقفه الواضحة من الممارسات الستالينية داخل صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي ضد المعاضة من اعضاء اللجنة المركزية، وكذلك فان غرامشي كان يطالب باستمرار بعدم التنكيل بالمعارضة الداخلية داخل الحزب وضرورة احترام مواقفها، ولهذا فان غرامشي دفع ثمن مواقفه تلك بان بقي وحيدا منعزلا داخل السجون الفاشية حتى وفاته.

    واي كان الامر فان لغرامشي مكانة دائمة ومنزلة اساسية في الفكر الماركسي خلال عقود طويلة من الزمن، بل  ربما يعاد اليه الفضل حين يدور الحديث حول رياح التحرر التي طبعت مسيرة الاحزاب الشيوعية وعلى رأسها الحزب الشيوعي الايطالي، والتي جعلته الاقوى والاكثر ديمومة بين الاحزاب الشيوعية الاوربية الغربية، كما جعلته على الدوام قادرا على مواكبة حركة التاريخ، فهو يعتبر احد ابرز المنظرين الاساسيين للفكر النضالي في القرن العشرين. يبقى فضل غرامشي الكبير على الفكر الماركسي في كونه اعتمد وحدة النظرية مع الممارسة كمحور وكمركز ارتباط استراتيجي لتحليلاته، وعارض بشدة اية محاولة للفصل بينهما، بل كان فكره عبارة عن سبيكة متينة من النظرية والممارسة، اذ تتميز مقالاته ومؤلفاته الاجتماعية قبل الاعتقال بطرح المسائل بجرأة وغزارة وبعناصر التحليل النظري التي تجلت حتى في كل مقالة قصيرة تعالج حدثا آنيا. وقد تطور هذا الاسلوب تطورا عضويا لاحقا في فترة سجنه التي تعمق فيها فكر غرامشي وتغلغل في مجالات جديدة.

    كتب غرامشي مؤلفه الكبير " دفاتر السجن" التي تشمل ستة مجلدات موزعة اصلا على 32 كراس يعالج كل واحد منها موضوعا في حد ذاته، سواء أكان هذا الموضوع سياسيا ام فلسفيا ام اقتصاديا، ام يعالج مسائل التاريخ الثقافي، ام الاجتماعي ام الفني ام الادبي، وهذا النصوص لاتمتلك طابع اليوميات، بل ارتدت طابع الدراسات العلمية الخالصة، بحيث ان كل كراس اتى على شكل بحث علمي، مثل"ملاحظات على ميكافيلي" و" الدولة الحديثة وسياستها" و" الانبعاث" الذي يعتبر دائما اقوى الدراسات التي تناولت تطور البرجوازية الايطالية ونموها " بين الماضي والحاضر" ثم خصوصا " الادب والحياة الوطنية" الذي لازال ينظر اليه دارسو غرامشي وكاتبو سيرته على انه النص الافضل والاقوى بين كل نصوص هذه المجموعة، و" الكوميديا الالهية" و" المادية التاريخية وفلسفة بنديتو كروتشى" وصولا الى دراسته المميزة التي تناول من خلالها الادب واللهجات المحلية ودور الثقافة حولها من مجرد جزء من " بنية فوقية" في المجتمع، بحسب الفهم الماركسي السائد في ذلك الحين، الى ان يرى دورا خاصا لها، حتى وان ارتبطت ببنية المجتمع واولويات هذا المجتمع، فهي ترتبط ارتباطا خاصا يجب البحث دائما عن هويته وجذوره.

    وغرامشي هو ذلك المفكر المناضل الذي ظل يتساءل باستمرار عن كيفية تحقيق الانتقال من النظرية الى التاريخ. وفعلا لقد اجتهد كي يحقق وحدة الممارسة بين التاريخ والفلسفة، وعلى الصعيد الثوري السياسي عمل بثبات على تحقيق الوحدة بين العفوية والقيادة الواعية ممثلة بحركة المجالس العمالية، وطبيعة علاقة الحزب بالجماهير وبين القيادة والقاعدة، الحزب/ يساوي التثقيف/ يساوي المثقف الجماعي. اما على الصعيد النظري، فقد اكد بانه من الممكن ان يحدث تعارض النظرية المعاصرة مع المشاعر العفوية للجماهير، ولكن" هذا التعارض هو تعارض كمي وليس تعارضا نوعيا" المهمة كما يراها غرامشي تتمثل في تحقيق ارتباط الماركسية بالحكمة الشعبية فتستوعبها وتتجاوزها في آن معا.

    ابرز ما يميز هذا المفكرـ المنضل تأكيده على ضرورة الانطلاق من خصوصية الواقع المحلي الايطالي في حالته لايجاد الطريق الخاص الى بناء الاشتراكية، وكانت الكيفية التي يتم بواسطتها تحقيق الانتقال من النظرية الى التاريخ سؤالا دائما لديه.

    كرس غرامشي بحوثه النظرية لمفهوم " الهيمنة" الذي نبعت صياغته الاولى من خلال دوره في المجالس العمالية التي كان وراء تأسيسها في مدينة تورينو الصناعية عام 1919 وشهدت هذه المدينة في احدى مراحلها تجربة سيطرة عمالها على مصانعها فراحوا يديرونها بانفسهم في ظل قيادة غرامشي نفسه. وتتكون عناصر هذا المفهوم من :

    1ـ بسط الطبقة العاملة هيمنتها على مرافق المجتمع كافة، قبل استلامها السلطة.

    2ـ منح المثقفين العضويين ( اي المرتبطين بهموم المجتمع) دورا في عملية التغيير.

    3ـ تحالف العمال مع جميع القوى الاجتماعية ذات المصلحة في عملية التغيير.

    4ـ الحفاظ على خصوصية العملية الثورية، وعدم استيراد اشكالها واساليبها من الخارج.

    ورغم ان تنزيل هذا المفهوم على ارضية الواقع، او لنقل الاسلوب السياسي الشامل، سيصطدم بعقبة السيطرة الثقافيةــ المادية التي تحوز عليها عادة الطبقات السائدة سياسيا فانه وجد صداه في المجتمع الايطالي حتى اليوم، فيسار الوسط الايطالي الذي يحكم البلاد حاليا يملك ثقلا كبيرا، كما ان التاريخ الانساني حمل تجارب عبرت عن امكان تحقيق هذا الاسلوب نتاج محسوسة، ومنها تاريخنا العربي، اذ امتلكت ثقافة المعارضة على الدوام نفوذا جماهيريا اوسع من نفوذ السلطات. واعطى غرامشي أهمية خاصة لمسألة الدين ومكانته في المجتمع. وقد قسم الدين الى رسمي وشعبي، واعتبر المجالس العمالية داخل المصانع مفتاحا رئيسيا لحل المعضلات، وحلا وحيدا لامكان ضمان العمال تجاوز حال الضياع والاغتراب الاقتصادي، النفسي، الثقافي، والشعور بمسؤوليتهم ومستقبلهم.

    وابرز مساهمات غرامشي النظرية كان في مجال المعرفة وكيفية انتاج معرفة جديدة تتلاشى فيها الفروقات بين الثقافة الشعبية والثقافة المحترفة. يقول" ان نشر نمط متجانس من الفكر والفعل انطلاقا من قيادة متجانسة، هو الشرط الاساسي، لكنه ليس الشرط الوحيد، فمن الاخطاء الشائعة، الاعتقاد بان كل فئة اجتماعية تصوغ وعيها الذاتي وثقافتها الذاتية بطرق متماثلة بالمناهج، اي بمناهج المثقفين( المحترفين) وهذا المفهوم يرتكز على ثلاث نقاط اساسية هي:

    -         لاتحقق الطبقات الاجتماعية ثقافتها الذاتية بطرق متماثلة.

    -         لايمكن ارجاع الانتاج الثقافي الى جهود المثقفين المحترفين.

    -         ضرورة تأمين شروط ومبادرات متعددة، والمبادرة تعني هنا، الاقتراح الذي يستلزم التجريب والفعل وتحرير الامكانات. فالمطلوب كما هو واضح ليس تثقيف الجماهير بالمعنى التقليدي، بل المطلوب هو اطلاق حركة الجماهير التي هي المنتج الحقيقي للثقافة الجديدة.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media