اطفال الفلوجة: اللغز الطبي في خضم الحرب على العراق
    الخميس 18 فبراير / شباط 2021 - 06:54
    لورا جوتسدينر/ترجمة: قصي الصافي
    عقب الغزو عام 2003 ، كشف الأطباء في الفلوجة  عن تزايد مطرد في التشوهات الخلقية بين أطفال المدينة، وحتى يومنا هذا بقي الامر لغزا غامضا.

    ثلاث سنوات عقب  محاصرة الجنود الأمريكان لمدينتها ، بدأت طبيبة الأطفال العراقية سميرة العاني تلاحظ ما يثير الريبة في جناح الولادة. كانت النساء تحمل أطفالًا بأعضاء تتدلى من بطونهم أو بأرجل متلاصقة  مثل ذيول حوريات البحر. بدا البعض وكأنهم مكسوون بجلد الثعبان. بينما كان آخرون يلهثون دون جدوى لاستنشاق الهواء. لا أحد يعرف ما هذا الذي يحدث للأطفال، و لا أحد على ما يبدو يحاول اكتشاف السر أيضًا.
     كان عام 2007 ، ذروة العنف السياسي والطائفي الذي أسهم في تأجيجه الاحتلال الأمريكي. وكانت الفلوجة ، حيث تقطن وتعمل العاني، تعتبر واحدة من أكثر المدن غير المستقرة والتي يتعذر الوصول إليها. تسربت الأنباء عن الأطفال الرضع من أروقة المستشفى إلى الأفنية الداخلية لمنازل المدينة ، وتناثرت الأخبار بين الأقارب والجيران. علمت انتصار حسين ، وهي ربة منزل في الفلوجة، بأمر التشوهات بعد عودة ابنة عمها من جناح الولادة. تتذكر انتصار قول ابنة عمها : "امرأة لديها طفل بذيل، وأخرى لديها طفل بوجه أرنب". وقالت إن المرض تسلل إلى أسرتها أيضا: أنجبت إحدى أخوات زوجها طفلا بدون عظام جمجمة تحمي أنسجة المخ، وقد فارق الحياة عند الولادة. تعرضت زوجة أخ أخرى للإجهاض مرتين ثم أنجبت طفلاً برأس ضخم منتفخ. مات هو الآخر.
    سرعان ما أصبح أطفال الفلوجة موضوع قلق في الاجتماعات العشائرية وفي نقابة الأطباء في المحافظة. اشتبه العديد من السكان في أن الهجمات الأمريكية المكثفة ضد المدينة قد تكون لها علاقة بالتشوهات. الهجوم الثاني، الذي بدأ في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 ، كان من أكثر المعارك دموية في الحرب الأمريكية على العراق - حصار دام ستة أسابيع قتل فيه آلاف العراقيين وعشرات الأمريكيين وتحولت معظم المدينة الى حطام، لكن شكوك السكان بقيت طيّ الكتمان.  فخلف الأبواب الحديدية لمنازلهم  ، يتجول مشاة البحرية الأمريكية بدوريات في الشوارع ، يقول السكان إنهم يخشون ردود الفعل القاسية من الامريكان في حالة البوح  أو التلميح بأنهم تسببو١ في أزمة صحية عامة، مع الأخذ بعين الاعتبار إن الامريكان ليسوا بالطرف الوحيد الذي يخشاه أهالي الفلوجه بل ان حكومة بغداد التي يرونها دمية بيد الايرانيين والامريكان تقوم بحملات الاعتقال والتعذيب والانتقام السياسي ضد منتقديه ، لا سيما في المناطق ذات الأغلبية السنية مثل الفلوجة. في الفلوجة ، كانت مختلف الأحزاب والميليشيات العراقية تتنافس على السلطة السياسية ، و لذا كانوا يحرصون على عدم انتشار المعلومات. حتى وإن لم يكن الناس خائفين ، يقول الأطباء والمقيمون إنه لا يبدو أن هناك الكثير مما يمكن لأي شخص فعله بشأن العيوب الخلقية في تلك الأيام. في جميع أنحاء العراق، أطلق الغزو الأمريكي العنان لموجة من العنف ضد الأطباء ، الذين جعلتهم ثروتهم النسبية ومكانتهم أهدافًا سهلة وسط الصراع الطائفي المتزايد في البلاد. بحلول عام 2007 ، عندما بدأت العاني تلاحظ التشوهات الخلقية في الفلوجة ، قدرت نقابة الأطباء العراقية أن نصف الأطباء المسجلين أجبروا على الفرار من البلاد. أولئك الذين لم يغادروا ، مثل سميرة العاني ، لم يخاطروا باحتمالات الاعتقال أوالاختطاف أوالاغتيال فحسب ، بل ظلوا يعانون أيضًا بالعمل في ظروف قاسية ، حيث نقص الأدوية والمعدات الطبية والمياه والكهرباء. تتذكر العاني "لقد شعرنا أن هناك شيئًا ما خطأ". "لكن لا يمكننا فعل أي شيء."
     كانت  أخصائية طب الأجنة الدكتورة منتهى العلواني تشاطر زميلتها سميرة العاني بان هناك مشكلة في الولادات فعلاً، عملت كلتا المرأتين في المستشفى منذ أواخر التسعينيات ، وقد كان ما ترياه من تشوهات الآن أكثر بكثير مما كان عليه قبل الغزو الأمريكي. بدأت العاني بتسجيل الحالات بهدوء، وقامت العلواني بتصوير المرضى الصغار. وقدمت العاني استمارة لتسجيل العيوب الخلقية وزعتها على أجنحة المستشفى. كان العديد من زملائها متشككين في جدوى عملها هذا. قالت العاني: "اعتقد البعض أنه لا فائدة منه". "بالطبع ، كانوا مخطئين. من خلال وثائقنا ، لفتنا انتباه العالم كله. "
    كان ذلك، بداية لعمل غير مكتمل استمر لسنوات بالتوثيق والتحقيق في اللغز الطبي الأكثر إثارة للجدل في حرب العراق: زيادة مزعومة في العيوب الخلقية التي يقول الأطباء المحليون إنها بدأت بعد غزو الولايات المتحدة للبلاد في عام 2003 و مازال مستمراً في المدينة حتى يومنا هذا. أصبحت الأنشطة العسكرية الأمريكية في الفلوجة واحتمال إسهامها في تلك الاضطرابات الخلقية على المحك -  الأمر الذي أثار جدلاً سياسياً وعلمياً على الصعيد الدولي. لسنوات ، تركز الجدل الحاد حول الفلوجة على أسئلة حول استخدام وتأثير المواد المحرمة في الأسلحة الأمريكية ، وخاصة اليورانيوم المنضب. ومع ذلك ، فقد أغفلت المناقشة إلى حد كبير أسئلة أوسع وربما أكثر إثارة للقلق حول الآثار السيئة  على الصحة العامة لحرب المدن على السكان المدنيين ومخاطر تسييس العلوم والطب في أوقات النزاع.
    لم تستجب وزارة الدفاع الامريكيه الى معظم الأسئلة التي طرحتها صحيفة The Nation حول مزاعم الزيادة في التشوهات الخلقية في الفلوجة نتيجة الحرب. وقد ابلغتنا انها تتبع سياسة المعالجة البيئية خارج الولايات المتحدة" ، والتي تنص على أن "وزارة الدفاع ليس لديها صلاحيات أو تمويل للمساهمة في المعالجة البيئية خارج الولايات المتحدة." وتنص السياسة أيضًا على أن وزارة الدفاع "لا تتخذ أي إجراء لمعالجة التلوث البيئي الناتج عن النزاع المسلح".
    من جانبها ، قالت الحكومة العراقية إن الولايات المتحدة قدمت موارد لا تقدر بثمن في معالجة الانشغالات البيئية والصحية في البلاد في السنوات التي تلت الغزو. قال جاسم عبد العزيز حمادي الفلاحي ، نائب وزير الصحة والبيئة العراقي ، "إن الولايات المتحدة تدعمنا ... ليس فقط في مجال الإشعاع ولكن أيضًا في مجال تغير المناخ وتلوث الموارد المائية".
    ومع ذلك ، بعد أكثر من 17 عامًا على الغزو الأمريكي ، لا يزال لغز أطفال الفلوجة كابوساً يخيم على العراق. تقريبًا كل جوانب قصة التشوهات الخلقية في المدينة  محل خلاف. وعلى الرغم من أن روايات وصور أطفال الفلوجة المشوهين والمرضى قد انتقلت من قاعات منظمة الصحة العالمية وصفحات المجلات ووثائق البنتاغون الداخلية وملصقات المظاهرات المناهضة للحرب ، تواصل سميرة العاني وزملاؤها العمل في مركز صغير  لمعالجة التشوهات الخلقية يعاني من نقص الموارد، ويعالج الآن الأطفال الذين كان آباؤهم صغاراً عندما غزت الولايات المتحدة العراق.
    في صباح يوم حار من شهر سبتمبر من عام 2019 ، انتظرت أكثر من ست نساء في مبنى  هرم خارج مستشفى الولادة في الفلوجة على ضفاف نهر الفرات. جلس بعضهن بمفردهن، حاملات أطفالهن أو أحفادهن في الأحضان. وكانت آخريات تحيين بعضهن البعض بالقبلات على الخد. ومن بينهن سميرة أحمد ، التي قالت إن مرام حفيدتها الرضيعة كانت تنازع من أجل أن تستنشق الهواء منذ أن نقلتها الأسرة إلى منزلها من المستشفى قبل بضعة أشهر. وقالت إن مرام هي الطفلة الأولى لزوجة ابنها بعد حملين سابقين انتهيا بالإجهاض. في وقت لاحق من ذلك اليوم ، اكتشف طبيب القلبية ثقباً صغيراً في قلب مرام. في غضون ذلك ، كانت سميرة العاني تقود سيارتها من منزلها في وسط الفلوجة إلى المستشفى. أثناء قيادتها ، مرت على متاجر الملابس ومحلات الخضار ، وركن محل جديد لامع لبيع  الهمبرغر ، وأكشاك الشاي على جانب الطريق حيث كان كبار السن يراقبون الغلايات وأكواب الاستكان اللذيذة. أواخر الصيف هو موسم التمر في العراق ، وكانت الأطباق المكدسة بالفاكهة الحلوة تملأ كل زاوية شارع تقريبًا. وأحاطت السقالات ببعض المساجد الشهيرة التي اخترقت مناراتها ثقوب الرصاص. لم تكن تنقلات العاني اليومية بهذه السلاسة دائمًا. في عامي 2005 و 2006 ، بعد أن احتلت القوات الأمريكية الفلوجة ، كانت الشوارع شديدة الاختناق بسبب نقاط التفتيش العسكرية الأمريكية لدرجة أنها كانت تضطر لقطع مسافة ميلين من منزلها إلى المستشفى سيرًا على الأقدام. في أوائل عام 2014 ، كانت تسير بحالة من التوتر وهي ترى المقاتلين الملثمين من تنظيم الدولة الإسلامية في طريقها إلى العمل. تعرض منزلها والمستشفى للقصف بشكل متكرر. ومع ذلك ، لم تهن عزيمتها لا آنذاك ولا حتى الآن.
    بعد الساعة الثامنة صباحًا بقليل ، توقفت الدكتورة سميرة أمام مركز التشوهات الخلقية. إنها امرأة صغيرة الحجم، تميل إلى الأمام وهي تمشي ، مما يعطيك انطباعاً انها على عجلة من امرها على الدوام. فتحت باب المركز الصحي ثم أسرعت بخطوات قصيرة متعمدة عبر العشب الأصفر ، متجاوزة الرجال الذين يدخنون السجائر في انتظار أخبار زوجاتهم ، ثم إلى جناح الأطفال حديثي الولادة ، حيث انحنت على طفل اسمه محمد. وُلد قبل أسبوعين بكيس كبير يحتوي على جزء من دماغه يتدلى من مؤخرة جمجمته ، وفقًا لصورة المستشفى. هذه الحالة تدعى قيلة الدماغ ويرجح ان تؤدي الى الوفاة ، لكن الأطباء المناوبين قالوا إنه يتعافى من العمليات الجراحية بازالة الكيس و تصفية السائل الشوكي الزائد.
    انحنت العاني على الحاضنة ورفعت ذراعي محمد وساقيه ثم تفحصت رقبته القصيرة وأضلاعه المشوهة. قالت بنبرة المختص "سيصاب بالشلل". كان أحد أربعة أطفال مصابين باضطرابات خلقية ممن وُلدوا في المركز في 28 أغسطس / آب. بحسب سجلات المستشفى والمقابلات مع الأطباء كان هناك توأم - أحدهما منتفخ الرأس والثاني بأطراف مشوهة وأعضاء تناسلية غير طبيعية. وكانت هناك طفلة تعاني من انسداد تام في تجاويف الأنف ؛ قبل أيام ، كانت ترقد في حاضنة بجوار محمد ، تبكي وهي تنازع لتلتقط انفاسها. تحدثت العاني عن الغرفة المزدحمة بجدات محمد ، اللائي مكثن بجانب سريره في المستشفى منذ ولادته. "هناك أربعة أطفال ، واحدة ، اثنتان ، ثلاث ... ثماني نساء هنا" ، تمتمت العاني لنفسها بعبوس"هذا ليس جيدًا للأطفال."
    للدكتورة العاني مزاج حاد يتفاقم بسبب المضايقات المختلفة للحيوانات الأليفة - و كثرة النساء اللائي يتزاحمن في جناح حديثي الولادة ، والأطباء الذين يبيعون حليب الأطفال نيابة عن شركات الألبان ، والأسوأ من ذلك كله ، الزملاء الذين يرفضون المشاركة في تدوين حالات التشوه الخلقي . قبل عقدين من الزمان، وقعت في حب طب الأطفال أثناء تدريبها في كلية الطب في بغداد ، وكرست حياتها للمهنة منذ ذلك الحين. تتوجه خمسة أيام في الأسبوع إلى العمل في مستشفى الفلوجة العام ، رغم فرار الأصدقاء إلى العاصمة أو إلى الخارج أو اختيار العمل معظم وقتهم في عيادة خاصة. ومع ذلك ، بعد أكثر من 20 عامًا في الخدمة ، تتمنى أحيانًا لو أنها اختارت التخصص في الأمراض الجلدية أو الأشعة أو أي شيء آخر غير رعاية الأطفال في مدينة يبدو أنها تعاني من عيوب خلقية غير مبررة.
    بعد فحص محمد ، توجهت العاني إلى أرشيف المستشفى لتعقب ملف مريضة وُلدت قبل أيام قليلة بدون جمجمة ولكن لم يتم تدوين حالتها في سجلها. بقليل من البحث ، عثرت على مستندات الطفلة وسط أكوام الأوراق ذات اللون الوردي والأزرق والأبيض. كانت العائلة من أبو غريب ، على بعد حوالي 20 ميلاً شرق الفلوجة ، حيث السجن الأمريكي السابق الذي اشتهر بالتعذيب والاعتداء الجنسي الذي مارسه الجنود الأمريكيون خلف أسواره. عادت بعد ذلك إلى مركز العيوب الخلقية لفحص طفلة مصابة بمتلازمة بيير روبن ، وهي حالة نادرة يعاني فيها الرضيع من خلل في الفك يسبب له مشاكل في التنفس والتغذية. "هل يمكن أن تصبح بحالة طبيعية؟ " سألت جدة الطفلة ناهدة سامي أغول. قالت إنها المرة الثانية التي تنجب فيها ابنتها مولوداً بعيوب خلقية. في عام 2014 أنجبت طفلاً برأس رخو وقد فارق الحياة، "لا أعتقد ذلك" ، ردت العاني على سؤالها بشكل قاطع ، محذرة من أن الأطفال المصابين بهذا التشوه يمكن أن يموتوا من مشاكل في الجهاز التنفسي. "نخاف من الحمل القادم. هل يمكن أن يحدث هذا مرة أخرى؟ " تساءلت الجدة، ولم يكن لدى العاني إجابة ، فسرعان ما تم استدعاؤها إلى جناح الأطفال حديثي الولادة لفحص طفل حديث الولادة برز عموده الفقري من ثقب أحمر اللون في ظهره. كانت والدته لا تزال في غرفة الولادة ، ولم تكن تعلم بعد بحالة الرضيع؛ وجدته تحوم فوق الحاضنة معبّرة عن قلقها بصوت عالٍ بشأن عدم وجود المال اللازم لدفع تكاليف علاج الطفل. محمد نامق طبيب أطفال آخر ، نظر إلى الغرفة من الردهة. قال: "لدينا حالات كثيرة مثل هذه". كانت هذه سنته الأولى في هذا المستشفى ، بعد فترات قضاها خارج بغداد وفي شمال وجنوب شرق البلاد. قال إنه شاهد تشوهات خلقية في الفلوجة أكثر من أي مكان آخر عمل فيه. سحب هاتفه وأظهر صورة لطفل ولد في المستشفى في ذلك العام ، وفقًا لسجلات عيادة العيوب الخلقية لم يكن لدى الطفل أنف - وهي حالة نادرة للغاية تُعرف باسم أرينيا. نامق قال إنه أجرى عملية جراحية للمريض لكنها لم تنجح. وقد مات الطفل بعد العملية. وفقًا للأدبيات الطبية، لم تسجل سوى بضع عشرات فقط من حالة كهذه في جميع أنحاء العالم.

    على مدى القرن الماضي ، أعرب قدامى المحاربين والمدنيين في جميع أنحاء العالم عن مخاوفهم  بشأن الآثار الصحية للحرب على الأجيال القادمة. لطالما شكلت النزاعات الحربيه مخاطر على الصحة العامة، لكن تطور الصناعات العسكريه في القرن العشرين ، مع ظهور الأسلحة الكيميائية والتهديد بهجمات نووية ، أدى إلى احتمالات أكبر للتعرض للمواد السامة والاشعة وإمكانية حدوث عواقب وراثية مرعبة. في آب 1945 ، ألقت الولايات المتحدة قنابل ذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين ، مما أسفر عن مقتل أكثر من 200000 شخص ودفع العالم إلى العصر النووي. في أعقاب التفجيرات " كان الاهتمام العام قد تركز على العواقب الوراثية أكثر من أي نتيجة صحية أخرى غير مرغوب فيها ،" لاحظ عالم الوراثة ويليام شول ، عضو لجنة إصابات القنبلة الذرية التابعة للحكومة الأمريكية. "كان لدى العديد  تصورات عن تفشي حالة وبائية  من التشوهات في المواليد أو الموت المبكر للرضع"
    منذ ذلك الحين ، أثارت قدرة الحرب الحديثة على تشويه الأجيال القادمة اهتمامًا وجدلًا غير مسبوقين. العلم نادرًا ما يكون حاسمًا في هذا الأمر. أكبر دراسة للناجين من هيروشيما وناغازاكي وأطفالهم أجرتها لجنة ضحايا القنبلة الذرية وخليفتها وكالة تأثيرات الإشعاع الأمريكية اليابانية، بعد فحص أكثر من 75000 طفل حديث الولادة في هيروشيما وناغازاكي ، خلصت إلى أنه "لم تُلاحظ أي زيادة ذات دلالة إحصائية في العيوب الخلقية الرئيسية أو نتائج الحمل غير المرغوبة بين أطفال الناجين" -وهي نتيجة عززتها دراسات أخرى. على الرغم من هذه النتائج ، فإن المخاوف من التشوهات الجينية الجماعية سبب صدمة في الوسط العلمي وحث علماء الأوبئة لإنشاء  السجلات الرئيسية الأولى لتوثيق العيوب الخلقية. وقد انتشر هذا الخوف في عموم السكان أيضًا. في العقود التي تلت ذلك ، أثار قدامى المحاربين الأمريكيين الذين شاركوا في تجارب البنتاغون لغاز الخردل خلال الحرب العالمية الثانية مخاوف بشأن العقم والعيوب الخلقية بين أطفالهم. وكذلك فعل قدامى المحاربين الذين أرسلوا إلى جزر مارشال في أواخر السبعينيات لتنظيف النفايات السامة  التي خلفتها التجارب النووية والتي أجراها البنتاغون بشكل مكثف ومستمر ، وكذلك مدنيو جزر مارشال الذين أكدوا إن الآثار الإشعاعية الناجمة عن 67 انفجارًا للقنابل النووية أنتجت ما يسمى بأطفال قناديل البحر. في جميع الحالات الثلاث ، لم تعترف حكومة الولايات المتحدة أن هناك أدلة كافية لربط هذه الشهادات بالاعاقات الخلقية.
     في أواخر السبعينيات ، عرضت على الجمهور الأمريكي برامج  تلفزيونيه في أوقات الذروة تروي قصصاً كابوسية ، حيث بدأ قدامى المحاربين في حرب فيتنام بالإبلاغ عن تشوهات خلقية أصابت أطفالهم. وألقوا باللوم على تعرضهم في زمن الحرب لمادة المبيدات البرتقالية التي أمطر سلاح الجو الأمريكي بها مساحات شاسعة من جنوب فيتنام. أدلى غرين بيريت جون وودز بشهادته في جلسة استماع بالكونجرس عام 1979: "لسنا المحاربين القدامى". "أطفالنا هم المحاربون القدامى". وفي السياق نفسه ، أعلنت الرابطة الفيتنامية لضحايا المبيد البرتقالي إن ما يقارب 3 ملايين مدني عبر أربعة أجيال قد عانوا من أمراض السرطان و الامراض العصبية ومشاكل الإنجاب وأمراض أخرى مرتبطة بتلك المادة الكيميائية السامة. حتى الآن ، يقول المسؤولون الفيتناميون إنهم يشهدون زيادة في عدد الأطفال المولودين بعيوب خلقية - بعد أربعة عقود من نهاية الحرب.
    كما في الحالات السابقة ، رفضت حكومة الولايات المتحدة هذه الادعاءات ، قائلة : الأدلة غير كافية أو غير مقنعة لتثبت وجود عيوب خلقية  ناتجة عن التعرض لمبيدات الأعشاب." لكن عددًا من الدراسات الأمريكية والدولية أشارت الى وجود صلة بين تلك المادة الكيميائية وبعض أنواع التشوهات الخلقية ،  الامر الذي أثار جدلاً  لعقود.
     تعقيد العلم يشكل بعض الصعوبة في هذا الأمر، كما أوضحت ليزلي روبرتس ، عالمة الأوبئة في جامعة كولومبيا والتي عملت مع منظمة الصحة العالمية: "إن العيوب الخلقية يصعب دراستها وفهمها للوصول الى علاقة سببية قاطعه، مما يجعل الجدال ساخناً ولا يمكن حسمه بشكل نهائي، في بعض الأحيان نواجه مشكلة مثل مادة المبيد البرتقالي حيث يمكننا في الواقع قياس معاملات االتلوث الكيميائية، ولكن ليس في جميع الحالات " وما يضاعف من هذه التحديات العلمية تأثير العوامل المالية والقانونية االتي تصادر اي  دليل قاطع. قالت روبرتس: "لدينا آلات دعاية متطورة للغاية تحاول تجنب  الاعتراف بالمسؤولية".
     في قضية المبيدالبرتقالي ، رفع قدامى المحاربين الأمريكيين دعوى قضائية ضد الشركات الكيماوية التي صنعتها ، بما في ذلك Dow و Monsanto ، وفازوا بتسوية بقيمة 180 مليون دولار في عام 1984. كما دفعوا وكالة شؤون المحاربين القدامى لتغطية الرعاية الصحية لأطفالهم المولودين بشلل الحبل  الشوكي، وعدد من العيوب الخلقية الأخرى، حتى مع ادعاء الوكالة أنها لا تتعلق بالتعرض للمبيد البرتقالي. في غضون ذلك ، يواصل المحاربون الأمريكيون الذين تعرضوا للمبيدات وأطفالهم ، وكذلك المدنيين الفيتناميين وأحفادهم ، المطالبة باعتراف رسمي واضح وتعويض عن الأضرار. في عام 2008 ، رفضت محكمة أمريكية دعوى جماعية أقيمت نيابة  عن مدنيين فيتناميين ، بعد أن جادل سيث واكسمان ، الذي كان محاميًا عامًا في السابق -في عهد بيل كلينتون-  ، نيابة عن شركات الكيماويات جادل بأن القضية قد يكون لها آثار سياسية بعيدة المدى. وقال " مثل هذا الأمر قد يؤثر على دبلوماسيتنا في الوقت الحاضر". الدبلوماسية التي كان يشير إليها لم تكن مجردة بل مرتبطة بحرب محددة كانت تدور على بعد حوالي 6000 ميل ، بأسلحة مثيرة للجدل: الحرب في العراق ، التي ترددت شائعات عن استخدام الولايات المتحدة خلالها لليورانيوم المنضب.

    بالعودة الى الفلوجة ، بعد مرور أكثر من عقد من الزمان على إنشاء العاني لسجل العيوب الخلقية بالمستشفى ، لم تزل مسألة التشوهات الخلقية مثيرة للجدل سياسيًا ومتنازعًا عليها علميًا. فمن جانب أطباء الفلوجة ، سميرة العاني وزملاؤها بالإضافة إلى الأطباء من جميع أنحاء العراق ، وعلى الأخص في النجف والناصرية والبصرة ، يؤكدون جميعًا أنهم يواجهون أزمة تشوهات خلقية ؛ وعلى الجانب الآخر ، هناك أقوى المؤسسات الطبية والعسكرية في العالم - منظمة الصحة العالمية والبنتاغون.
    تؤكد العاني وزملاؤها أن انتشار العيوب الخلقية في الفلوجة كان مرتفعًا بشكل مقلق في أعقاب الغزو عام 2003. ولإثبات أن الأمر أكثر من مجرد ملاحظات سردية ، شرعت في عام 2009 لتتبع كل حالة عيب خلقي تم إحالتها إلى مراكز الأطفال الثلاثة في مستشفى الفلوجة العام على مدار 11 شهرًا. ووجدت دراستها ، التي نُشرت في مجلة الجمعية الطبية الإسلامية لأمريكا الشمالية ، أن ما يقدر بـ 14 بالمائة من الأطفال الذين ولدوا في المستشفى يعانون من اضطرابات خلقية - أي أكثر من ضعف المتوسط العالمي.
    وقدأصبحت واحدة من أكثر الدراسات التي تم الاستشهاد بها على نطاق واسع ، على الرغم من محددات الحصول على البيانات- كما اعترفت في الورقة - كانت تفتقر إلى معلومات دقيقة عن عدد الحالات المحالة إلى العيادة ، مما أجبرها على التقدير. قالت برناديت مودل ، الأستاذة الفخرية لعلم الوراثة المجتمعية في جامعة كوليدج لندن والباحثة في منظمة الصحة العالمية منذ فترة طويلة ، إن دراسة العاني عانت من الصعوبات التي يواجهها معظم الأطباء العاملين في ظروف شحيحة الموارد أو في مناطق نزاعات: نقص البيانات الوبائية الموثوقة. وقالت موديل: " انه جهد صادق ، لكنه لا يقدم أدلة قاطعة".
    ومع ذلك ، فإن النتائج التي توصلت إليها العاني كانت مدعومة بدراسات صغيرة أخرى أجراها زملائها ، بما في ذلك دراسة قامت بها العلواني. وقال وزراء سابقون في الحكومة العراقية وكبار مسؤولي الصحة والبيئة لمجلة The Nation إن الفلوجة شهدت زيادة مقلقة في انتشار التشوهات الخلقية منذ الغزو الأمريكي (على الرغم من أنهم لم يقدموا دراسات حكومية تدعم تصريحاتهم).
    في عام 2013 ، توصل مسح وطني أجرته وزارة الصحة العراقية وبدعم من منظمة الصحة العالمية إلى نتيجة مختلفة تمامًا عما توصل إليه أطباء الفلوجة. واستنادًا إلى مقابلات مع عينة من سكان في 18 منطقة في العراق ، خلص الاستطلاع إلى أن "معدلات الإجهاض التلقائي و القسري والعيوب الخلقية الموجودة في الدراسة متوافقة مع التقديرات الدولية أو حتى أقل منها". وقررت أن نسبتها في الفلوجة كان نصف ما في الدول الغنية.
    أثار التناقض بين النتائج التي توصلت إليها العاني من جهة والمسح الذي أجرته وزارة الصحة بدعم من منظمة الصحة العالمية من جهة اخرى، عاصفة علمية لا تزال مشتعلة.
    قالت مودل إنها تعتقد أن دراسة 2013 أجريت بشكل جيد ، بالنظر إلى التحديات في إجراء دراسات وبائية واسعة النطاق في مناطق الصراع. وقالت "عندما  تفحصت المنهجية ، كانت رائعة للغاية". لكن خبراء آخرين - عراقيين ودوليين - انتقدوا الاستطلاع لكونه ملئ بالنواقص، بما في ذلك الاعتماد على التذكر ، لأنه استند إلى ذكريات الوالدين عن حالات الإجهاض والعيوب الخلقية ، بدلاً من سجلات المستشفى. (اعترفت الدراسة "بإمكانية حدوث خطأ في التذكر" )
    " لابد أن يكون هناك نقص في الإبلاغ. قال جون بيدرسن ، المستشار المستقل الذي عمل على استطلاعات وفيات الرضع مع الأمم المتحدة والوكالات الدولية الأخرى ، لا سيما في الشرق الأوسط ، "هذا واضح تمامًا". (شاركت موديل و بيدرسون في اجتماع عام 2013 مع مسؤولين عراقيين في جنيف لمراجعة بيانات المسح قبل نشر التقرير). كان الجدل ساخناً حتى امتد إلى صفحات The Lancet ، إحدى المجلات الطبية المرموقة ، حيث كان هناك عدد من الأطباء ، بمن فيهم العاني ، قد انتقدوا الدراسة بكل تفصيلاتها من منهجيتها إلى محدودية نطاقها إلى الفشل في توفير المعايير المعروفة في مثل هكذا دراسات احصائية.
    كان الجدل ذا طابع سياسي بقدر ما كان علمياً. عندما شككت العاني وأطباء آخرون في مستشفى الفلوجة في منهجية الدراسة قبل إصدارها ، اتهمهم أعضاء في الحكومة العراقية المدعومة من الولايات المتحدة باستغلال الطب لخلق مشاعر معادية لأمريكا. من جانبهم ، زعم أطباء المدينة وعدد من المسؤولين الحكوميين المحليين والوطنيين أن وزارة الصحة العراقية زورت المسح الإحصائي أو قامت بتحريف البيانات في محاولة لتبرئة واشنطن. قال الدكتور جاسب علي ، وهو مسؤول رفيع المستوى في وزارة الصحة العراقية في وقت إجراء المسح المدعوم من منظمة الصحة العالمية: "أنا متأكد من أن العمل لم يكن دقيقًا أو كان هناك ضغط لتغيير الأرقام". "ما أنا متأكد منه هو أن البيانات غير صحيحة." (لم ترد وزارة الصحة العراقية على طلبات التعليق على مزاعم الدكتور علي).
    تساءل عدد قليل من المسؤولين السابقين في منظمة الصحة العالمية عما إذا كانت المنظمة يمكن أن تكون طرفاً محايداً حقاً وهي العالقة بين الايفاء بواجباتها لخدمة الصحة العامة و بين ارضاء الدول الأعضاء. قال كيث بافرستوك ، الرئيس السابق لبرنامج الحماية من الإشعاع في المكتب الإقليمي لأوروبا التابع لمنظمة الصحة العالمية: "منظمة الصحة العالمية منظمة بيروقراطية ، تمارس عليها ضغوط سياسية معينة من الدول الأعضاء". وقد رفضت منظمة الصحة العالمية التعليق على هذا الامر، لكن في عام 2013 ، رد الرئيس السابق لبعثة منظمة الصحة العالمية في العراق ، جعفر حسين ، في مجلة The Lancet على انتقادات للدراسة. وقال إن بياناتها خضعت لمراجعة "مكثفة" من قبل خبراء دوليين وأن منهجيتها تستند إلى مقاييس " معتمدة عالميًا.
    مع استمرار الجدل الطبي والأخذ والرد ، تعمق اللغز المتعلق بأطفال الفلوجة ليقود الى لغز آخر عن السبب المحتمل لسلسلة العيوب الخلقية. ولطالما كان هذا السؤال محفوفًا بالمخاطر بسبب إرث استخدام الولايات المتحدة لليورانيوم المنضب خلال حربين في العراق. اليورانيوم المنضب هو معدن ثقيل كثيف للغاية وذو نشاط إشعاعي معتدل استخدم لأول مرة خلال حرب الخليج عام 1991، عندما قام الجيش الأمريكي بإطلاق ما يقرب من مليون طلقة من اليورانيوم المنضب في جميع أنحاء العراق. في حين إن اليورانيوم المنضب يعمل بشكل أساسي على إكساب الرصاص قوة خارقة للدروع ، إلا أنه   معروف بالأضرار التي يخشى بعض الناس أن يسببها بعد المعركة: السرطان وأمراض الكلى والاضطرابات العصبية والتشوهات الخلقية.

    لطالما قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إن اليورانيوم المنضب لا يشكل مخاطر صحية جسيمة، ومع ذلك فقد تصاعد القلق بشأن هذه الأضرار بمجرد انتهاء حرب الخليج. عندما بدأ الأطباء في المنطقة بالإبلاغ عن زيادات مروعة في معدلات التشوهات الخلقية والسرطانات، أرجع بعض المتخصصين العراقيين هذا الارتفاع إلى تعرض المدنيين لليورانيوم المنضب. وأشار آخرون داخل وخارج البلاد إلى عوامل إضافية ، مثل القرابة (الزواج بين الأقارب ، وهو أمر شائع في أجزاء من العراق) أو لتطور آليات تشخيص الامراض ومتابعة العيوب الخلقية. رفض البيت الأبيض بشكل قاطع احتمال وجود صلة بين الأمراض وأسلحتها. ومع ذلك، توصلت بعض الأبحاث التي أجراها البنتاغون في التسعينيات إلى وجود روابط بين اليورانيوم المنضب والسرطان والاضطرابات الخلقية. في الواقع ، قبل حرب الخليج ، حذر تقرير للجيش الأمريكي من "مخاطر صحية على السكان الأصليين والمحاربين القدامى" من اليورانيوم المنضب ، بما في ذلك "الآثار الإشعاعية والسمية المحتملة".
    في السنوات التي تلت ذلك ، ازداد التركيز على اليورانيوم المنضب. طوال التسعينيات ، كانت الحكومة العراقية تبثّ صورًا لأطفال مصابين بعيوب خلقية على التلفزيون الوطني وفي الصحف الكبرى ، وألقت باللوم على استخدام الجيش الأميركي لليورانيوم المنضب في الاضطرابات. عادة ما تقرأ مقالة في إحدى الصحف مصحوبة بصورة لطفل مشوه بشكل مروع: "انظروا ما فعلته قنابلهم بأطفال العراق". لقد حوّلوا أطفال العراق إلى أهداف [لأسلحة] اليورانيوم المنضب. في الوقت نفسه، عندما أصيب قدامى المحاربين في حرب الخليج بمجموعة من السرطانات والأمراض غير المبررة التي أصبحت تُعرف باسم متلازمة حرب الخليج، بدأ البعض في الولايات المتحدة في توجيه أصابع الاتهام إلى اليورانيوم المنضب أيضًا. وعلى المستوى الدولي نظم نشطاء وخبراء ندوات طالبوا فيها بإجراء تحقيقات ودعوا إلى حظر ذلك العنصر المشع المشتبه به.
    وسط هذه الدعوات ، أجرى المجتمع العلمي عدداً من الدراسات لمحاولة تحديد مدى سمية اليورانيوم المنضب. وقد بقي هذا الأمر مفتوحًا و موضع خلاف. قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إن مراقبتها المستمرة لقدامى المحاربين في حرب الخليج الذين تعرضوا لليورانيوم المنضب لم تجد "أي آثار إكلينيكية ضارة" في القوات السابقة ولا عيوب خلقية لدى  أطفالهم. خلصت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أيضًا إلى أن العنصر لا يشكل تهديدًا كبيرًا بكميات صغيرة. لكن الدراسات الأخرى لا تزال تطلق تحذيراتها، بما في ذلك بعض الدراسات التي وجدت أن التعرض في المختبر لليورانيوم المنضب يمكن أن يتسبب في أضرار جينية أو طفرات وراثية. (في هذه الحالات، يُعتقد أن السمية الكيميائية للمعدن، وليس نشاطه الإشعاعي، هي سبب الضرر.)

    ساهمت الدراسات المتنافسة في إثارة الكثير من التكهنات، وبحلول أواخر العقد الأول من القرن الحالي، عندما بدأت العاني وأطباء عراقيون آخرون بملاحظة العيوب الخلقية ، أصبح اليورانيوم المنضب أحد أكثر المواد إثارة للجدل على وجه الأرض. في العراق وعلى الصعيد الدولي سارع الكثيرون إلى النظر إلى تقارير الاضطرابات الخلقية كدليل على أن الولايات المتحدة قد استخدمت اليورانيوم المنضب في الفلوجة أثناء الغزو الأمريكي وما تلاه.

    كان التحدي بالنسبة لأولئك الذين يدرسون هذه المسألة هو أن الجيش الأمريكي رفض الكشف عن معلومات حول مكان وكمية اليورانيوم المنضب الذي استخدمه خلال الحرب. لقد حجبت هذه التفاصيل رغم تحذير بعض المسؤولين في البنتاغون من مخاطر عدم الاستجابة لأدراكهم سخونة الموقف واشتداد الحملات الإحتجاجية. كما حذرت إحدى مذكرات البنتاغون التي حصلت عليها مجلة The Nation ، " عدم إقرار أو نشر وزارة الدفاع أي معلومات تتعلق بكمية ومواقع اليورانيوم المستنفد المستخدم خلال [عملية حرية العراق]. في بعض النواحي كان ذا عواقب سيئه علينا ".
    لم ترد وزارة الدفاع على الأسئلة المتعلقة بأسباب عدم نشر هذه المواد علنًا. لكن المنتقدين يقولون إن صمت واشنطن لم يؤجج سوى التكهنات - وفي حالة الأطباء العراقيين الذين يتطلعون لمساعدة مرضاهم الصغار، فإن سميرة العاني قد نقلت انشغالاتها عام 2013 إلى الولايات المتحدة في مؤتمر نظمه مركز كارتر في جورجيا "بالنيابة عن نساء الفلوجة أود أن أدعو حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للكشف عن المعلومات المتعلقة بجميع أنواع الأسلحة المستخدمة أثناء الاحتلال واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الحق في الحياة و صحة السكان المحليين في حالة أكتشاف مصدر التلوث ".
    لم ترد حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على مطالب العاني. لكن على مدى السنوات القليلة التالية ، قدم البنتاغون إجابات من نوع ما إلى ويم زفيجنينبيرج ، قائد المشروع في مجموعة باكس  الهولندية للسلام  الذي قضى ما يقرب من عقد من الزمان في التحقيق في استخدام الجيش الأمريكي لليورانيوم المنضب. في عام 2014، انضم إلى مركز الحقوق الدستورية ومقره نيويورك لتقديم طلبات وفق قانون حرية المعلومات إلى 10 وكالات حكومية أمريكية فيما يتعلق بالمواد التي استخدمها هذا البلد  خلال حرب العراق. لم ترد معظم الوكالات، بعضها ادعت بانها لا تمتلك مثل هذه السجلات ، والبعض الآخر دون سبب واضح. ولكن بمساعدة الوثائق التي نشرتها القوات الجوية في عام 2015 ، بالإضافة إلى الوثائق التي تضمنها أرشيف الأمن القومي ، تمكن زفيجينينبرغ من البدء في تجميع صورة لمكان إطلاق اليورانيوم المنضب. وفي يونيو 2019 ، زفيجينينبرغ  و CCR مجموعة من الوثائق من القيادة المركزية الأمريكية التي ساعدت في توضيح الصورة.

    وثائق Centcom،التي زودتها CCR زفيجينينبرغ  حصريًا لمجلتنا The Nation والتي صادقت عليها وزارة الدفاع ، تقدم صورة أولية، إن لم تكن نهائية، في نطاق ومدى استخدام اليورانيوم المنضب خلال كلتا الحربين في العراق. وهي تتألف من حوالي 200 صفحة من المذكرات والتقارير إضافةً الى الخرائط التي توضح أماكن إطلاق ذخائر اليورانيوم المنضب وكذلك الكميات. هناك 28 صفحة مفقودة مما تم تنقيحها أو حجبها لأسباب تتعلق بالأمن القومي. علاوة على ذلك، تقر المستندات نفسها بأنه "كان من الصعب تحديد استخدام اليورانيوم المنضب أو مواقعه بدقة." ومع ذلك فان الاكتشافات التي تتضمنها مهمة، وتشكل رداً على الافتراضات القائمة منذ فترة طويلة حتى أنها تثير أسئلة جديدة.
    حسب الوثائق تم الكشف عن أن الولايات المتحدة نشرت يورانيوم مستنفد أقل بشكل ملحوظ في الفلوجة وحولها مقارنة بمناطق أخرى من البلاد. على وجه التحديد ، تكشف الوثائق أنه في مارس وأبريل من عام 2003 ، أطلق الجيش الأمريكي حوالي 4000 طلقة 30 ملم ، أو 1.3 طن ، من ذخائر اليورانيوم المنضب في الفلوجة - وهو جزء صغير من إل 69 طنًا التي  أطلقها الجيش الأمريكي في عموم العراق. تم إطلاق معظم ال 1.3 طن خارج مناطق الفلوجة السكنية. كما تشير الوثائق إلى أنه بعد نيسان (أبريل) 2003 ، لم يستخدم الجيش الأمريكي أي يورانيوم مستنفد في العراق وأن اليورانيوم المنضب لم يستخدم خلال أعنف معركة في الفلوجة عام 2004. كما تشير الوثائق إلى عدم استخدام يورانيوم مستنفد في الفلوجة خلال 1991 - حرب الخليج عندما أطلق الجيش الأمريكي 322 طنًا منها في أنحاء العراق.
    بالنسبة إلى زفيجنينبيرج ، وهو ناقد صريح لاستخدام ذخائر اليورانيوم المنضب، تقدم الوثائق حجة مقنعة ضد النظرية القائلة بأن اليورانيوم المنضب هو المسؤول عن أزمة أطفال الفلوجة. وقال إن من الجدير بالذكر أن مناطق العراق التي شهدت تعرضًا أعلى لم يكن بها عدد كبير من العيوب الخلقية المبلغ عنها. وقال "بالنظر إلى الاستخدام المحدود ، أجد صعوبة في ربط اليورانيوم المنضب بالعيوب الخلقية في الفلوجة في الوقت الحالي".

    توصل دوغلاس بروج ، رئيس قسم علوم الصحة العامة في جامعة كونيتيكت وخبير الصحة البيئية ، إلى استنتاجات مماثلة رغم انه حذر من أن الوثائق لا يمكن أن تكشف الصورة الكاملة. (ولذا، قال ، سيكون من الضروري إجراء دراسة للحالة.) "إذا أخذت الوثائق من حيث القيمة الاسمية فيما يتعلق بالفلوجة تحديدًا، فإن كمية ذخيرة [اليورانيوم المنضب] التي تم إطلاقها وتفجيرها بالفعل تبدو متواضعة.
    وأضاف " عادة يتم التركيز فقط على اليورانيوم المستنفد لأنه مرتبط بشيء مقلق ومخيف للغاية"( إشارة إلى النشاط الإشعاعي للعنصر ، مهما كان ضعيفًا. "لكنني سأتفاجأ إذا ما كان هو فقط الأكثر انتشارًا أو الأكثر سمّية في حرب من هذا القبيل."
    قال زفينجنينبرغ إن هذه المعلومات الجديدة ليست نهاية القصة ولكنها مجرد بداية لغز أكثر تعقيدًا. وقال إن عدم وجود كميات كبيرة من اليورانيوم المنضب لا يعفي الولايات المتحدة أو أي جهات عسكرية أخرى من أدوارها المحتملة في أزمة صحية في الفلوجة. وقال إن الافتقار إلى الشفافية غذى المخاوف بشأن مادة معينة (اليورانيوم) ، مما صرف الانتباه عن الحاجة إلى تحقيق علمي أوسع نطاقاً لأكثر من عقد.
    قال زفيجنينبيرج: "هناك حاجة إلى تركيز أكبر على المخلفات السامة للحرب من غيرالذخائر لفهم مخاطر الصحة البيئية".

    في مقابلات مع ذي نيشن  The Nation ، اتفق عدد كبير من العلماء والأطباء ونشطاء مكافحة اليورانيوم المستنفد مع زفيجنينبيرغ. ، قائلين إن التركيز الضيق على هذا العنصر قد حال دون تحليل الآثار الشاملة على الصحة العامة والبيئة للنزاعات العسكرية في الفلوجة، و كيف يمكن ربطها بالعيوب الخلقية. وكررت منتهى العلواني أخصائية طب الأجنة التي قامت بتصوير الحالات وتسجيلها مع العاني هذا القلق. قالت العلواني: "أعرف أن كل صحفي يركز على نقطة واحدة، وهي الأسلحة". "الأسلحة ليست مشكلتي.المشكلة أكبر من هذا ".

    عشية الغزو عام 2003، كان العراق بالفعل في أزمة صحية عامة. تضافرت  الحروب في العقدين الماضيين مع العقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن الدولي في إحداث تدمير كامل في بيئة البلاد وبنيتها التحتية. خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات ، قامت الحكومة العراقية بتصنيع ونشر أسلحة كيميائية ، مما أدى إلى تعريض عمال المصانع العسكرية وبعض المدنيين فيها للغازات السامة. دمرت الهجمات الجوية التي شنها التحالف بقيادة الولايات المتحدة عام 1991 أنظمة الطاقة والصرف الصحي. كما أعاقت عقوبات الأمم المتحدة، التي فُرضت عام 1990، إعادة بناء المحطات الكهربائية الأساسية ومرافق معالجة مياه الصرف الصحي. وكان حظر استيراد الكلور قد جعل تنقية المياه شبه مستحيلة.
    كما دمرت العقوبات نظام الرعاية الصحية في البلاد، والذي كان يعتبر من بين الأفضل في المنطقة. تم تخفيض ميزانية النظام الصحي بنسبة 90 في المائة خلال التسعينيات حيث أدى الحظر إلى شل الاقتصاد. على الرغم من أن الأدوية كانت مستثناة ظاهريًا من الحظر، إلا أن الأدوية منتهية الصلاحية أو غير المعتمدة طبياً أغرقت السوق السوداء. مع ندرة الغذاء، انخفض مدخول الفرد من السعرات الحرارية للعراقيين إلى  1093 سعرة يوميًا في عام 1995، وفقًا لتقرير اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية عام 1996 ، "الغالبية العظمى من سكان البلد يتبعون تقشفاً في الغذاء يقترب من المجاعة لسنوات ".
    وخلصت منظمة الصحة العالمية إلى أن "جودة الرعاية الصحية في العراق، بسبب حرب الأسابيع الستة عام 1991 والعقوبات اللاحقة المفروضة على البلاد، قد تراجعت فعليًا إلى ما لا يقل عن 50 عامًا الى الوراء".
    عمر الديوه جي، الطبيب العراقي وعالم الأنثروبولوجيا الطبية الذي كان يوثق الآثار الصحية للنزاع في البلاد منذ عقود، عاصر آثار العقوبات عندما كان يعمل في مستشفى عام في بغداد سنة 1997. "لدينا حالات من سوء التغذية أعلى بكثير مما كنا قد تجاوزناه في الستينات". 
    نظام الحصص الغذائية الذي فرضته الحكومة استجابةً للعقوبات ، منع حدوث مجاعة محتملة ولكنه ترك الناس يعانون من نقص في العديد من الفيتامينات والمعادن، بما في ذلك العناصر الغذائية الأساسية لنمو الجنين. وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية لعام 1996، انخفض توافر مركبات الحديد - التي تساعد في منع الاضطرابات الخلقية الخطيرة المعروفة باسم عيوب الحبل العصبي - بأكثر من 77 بالمائة. خفضت حمية الحصص الغذائية الزنك والريبوفلافين إلى النصف ، ويرتبط نقصهما ببعض العيوب الخلقية أيضاً، وكذلك الثيامين، الذي يمكن أن يؤدي نقصه إلى زيادة احتمالات الإجهاض. حسب اليونيسف: بحلول عام 2003، كان ما يقرب من 60 بالمائة من سكان العراق يعتمدون بشكل كامل على الحصص الغذائية ، مما يعني أن نقص التغذية أثر على أكثر من نصف السكان. سجلت وزارة الصحة ارتفاعا على مستوى البلاد في أمراض القلب الخلقية ، أحد أكثر أنواع العيوب الخلقية شيوعا، بين عامي 1991 و 1998.
     قال د.عمر الديوه جي: "من المعروف أن العوامل الغذائية تسبب تشوهات خلقية وعيوبًا، ولم يتم البحث في تلك العوامل جيدًا في دراسة التشوهات الخلقية في العراق".
    أدى الغزو الأمريكي في الفلوجة إلى تفاقم هذه المشاكل الصحية والبيئية الأساسية. في عام 2004 كانت المدينة مسرحًا لأكثر المعارك دموية في الحرب الأمريكية على العراق. في تشرين الثاني وكانون الأول، أمعنت تسع بتاليونات تابعة للجيش ومشاة البحرية الأمريكية تدميراً في الفلوجة، ودمرت عشرات الآلاف من المنازل، ومحطات معالجة المياه والطاقة، ونظام الصرف الصحي في المدينة. قتل في المعركة آلاف العراقيين و 82 أميركياً. غمرت مياه الصرف الصحي الشوارع. وتناثرت جثث الكلاب المتعفنة في أنحاء المدينة. نشرت القوات الأمريكية الفسفور الأبيض، وهو سلاح كيميائي قادر على حرق الجلد والعضلات بل حتى العظام. لقد كانت معركة خاضتها القوات الأمريكية بروح الانتقام لأنه، كما صرح وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وكبار القادة الأمريكيين الآخرين ، "أصبحت الفلوجة رمزًا لمحاربة الاحتلال الأمريكي للعراق.
    تتذكر لقاء وردي، العضوة السابقة في البرلمان من الفلوجة، كيف نُقل زوجها المهندس إلى المدينة على متن مروحية عسكرية وكلف بمسح الأضرار عقب الحصار العسكري الامريكي. وقالت: "أخبرني أن المدينة مغطاة تماماً بالمياه، وأن الجثث منتشرة في كل مكان، وهناك الكثير من العقبات والتحديات أمام إعادة الإعمار". خلال الأشهر التي تلت ذلك، عاد السكان النازحون - بمن فيهم العاني وعائلتها - إلى الفلوجة وشرعوا في إعادة بناء مدينتهم. لكن الوضع الأمني غير المستقر في ذلك الوقت جعل من المستحيل على أعضاء وزارة البيئة أو برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) دراسة حجم الأضرار.

    شكل عدد كبير من المصانع والمستودعات الكيميائية والمباني الصناعية العسكرية في الفلوجة و ضواحيها مخاطر جمّة على السكان القريبين. سلط برنامج الأمم المتحدة للبيئة الضوء على العديد من هذه المواقع في ثلاثة تقارير نُشرت بين عامي 2003 و 2005. أحد أكبر مستودعات المواد الكيميائية في البلاد، في خان ضاري، على بعد حوالي 20 ميلاً من الفلوجة بالقرب من أبو غريب، تعرض للنهب في أعقاب الغزو الأمريكي. (لا يحدد التقرير الجهة التي نهبت وأضرمت النار في أجزاء من المجمع). تم تسرب أو حرق أو سرقة مئات الأطنان من المواد الخطرة في هذه المستودعات، بما في ذلك المواد الكيميائية عالية السمّية مثل إيثيل الرصاص ، والفورفورال، وميثيل إيثيل كيتون، وهيدروكسيد الصوديوم. هناك مواقع أخرى لم تدمّر ولكنها تشكل مصادر خطره للتلوث. أحد مواقع التصنيع العسكري بالقرب من الفلوجة يحتوي على السيانيد والمعادن الثقيلة ، وما ينفثه مصنع للأسمنت من مواد ضارة بما في ذلك الزرنيخ والديوكسين (مادة كيميائية تدخل في صناعة المبيد البرتقالي)، وكلاهما مرتبطان بالتسبب بعيوب خلقية. (لم ترد وزارة الدفاع على أسئلة حول هذه التقارير عن انتشار التلوث البيئي).
    من المحتمل أن تختلط جميع هذه المواد الكيميائية مع الملوثات التي خلفتها الحروب السابقة. في عامي 1991 و 1998، على سبيل المثال، قصفت الولايات المتحدة مجمع أسلحة كيماوية ومصانع لإنتاج المبيدات الحشرية في المنطقة - المعروفة باسم الفلوجة 1 و 2 و 3 - مما أدى إلى تلويث التربة في الموقع. في الثمانينيات من القرن الماضي، ربما تعرض سكان الفلوجة لسموم خطيرة من خلال الخدمة في الجيش العراقي أو العمل في المصانع العسكرية حيث كانت تدابير الصحة والسلامة شحيحة.

    لم يقتصر هذا التلوث على الفلوجة. في عام 2005 قدرت الأمم المتحدة أن العراق مليء بعدة آلاف من المواقع الملوثة. بعد خمس سنوات، كشف تحقيق أجرته صحيفة "تايمز أوف لندن" أن الجيش الأمريكي أنتج أكثر من 10 ملايين رطل من النفايات السامة وأنه كان يتخلى عن مواد خطرة في مكبات النفايات على طول الطرق الرئيسية. في العام نفسه، اكتشفت دراسة أجرتها الحكومة العراقية من قبل وزارات البيئة والصحة والعلوم أكثر من 40 موقعًا في جميع أنحاء العراق، بما في ذلك موقع واحد على الأقل في الفلوجة، ملوث بالإشعاع أو الديوكسين. كان حسن برتو، مدير برنامج فرع إدارة الأزمات في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ضمن فريق التقييم البيئي في أعقاب الغزو. صرح لمجلة The Nation أن "التلوث البيئي في العراق هو أحد أخطر حالات تلوث في مناطق النزاعات التي حقق فيها برنامج الأمم المتحدة للبيئة" ، مشيرًا إلى "أسباب التلوث المزمنة والمتعددة والواسعة الانتشار".
    ومع ذلك، حتى في خضم الأزمة البيئية على مستوى البلاد ، كانت  الفلوجة هي الابرز في مستوى التلوث السمّي. قال عبد الكريم السامري، وزير التكنولوجيا والعلوم العراقي من 2010 إلى 2014 ، لصحيفة The Nation: "كانت الفلوجة المدينة الأكثر تلوثًا في العراق". معرباً عن قلقه من التقارير التي تتحدث عن ارتفاع معدلات التشوهات الخلقية والسرطان في الفلوجة، قال إنه سعى إلى إنشاء مراكز محلية لدراسة الأمراض والتلوث خلال فترة عمله وزيرا، لكن المبادرات لم تكتمل قط. وقال إن التمويل المتعلق بالصحة غالباً ما يلتهمه الفساد أو يتم تحويله إلى الميزانية العسكرية. ولم ترد الحكومة العراقية على إستفساراتنا حول سبب عدم اكتمال عمل المراكز البحثية الهادفة إلى دراسة التشوهات الخلقية والسرطانات في الفلوجة. ومع ذلك، قال جاسم عبد العزيز حمادي الفلاحي، نائب وزير الصحة والبيئة العراقي في مقابلة إن سنوات النزاعات العسكريه بشكل عام ، بما في ذلك حرب 2014-2017 ضد تنظيم الدولة الإسلامية، قد أجبرت الحكومة على سحب الموارد من البرامج الاجتماعية. وقال الفلاحي أيضاً إن الزيادة المزعومة في التشوهات الخلقية في الفلوجة يمكن ربطها بهذه الأزمة البيئية العامة، وكان حريصاً على عدم ذكر علاقة سببية محدّدة، وكرر قول المسؤولين الآخرين إن التحسينات في نظام التشخيص والتسجيل للتشوهات الخلقية تفسر جزءًا من الارتفاع المبلغ عنه. ثم أضاف "لكن في بعض الأحيان ربما – وأركّز على كلمة ربما- نربط التشوهات الخلقية بالتلوث: تلوث الهواء، وتلوث المياه، وتلوث التربة بالمعادن الثقيلة، والإشعاع، و السموم الكيمياوية، لأننا كما قلت، نشهد عقودًا من الحرب"٠

    أوضح الديوه جي أن التحدي المتمثل في دراسة العيوب الخلقية في الفلوجة وفي جميع أنحاء العراق يعود إلى حقيقة أنه لا يمكن أن تنسب التشوهات بسهولة إلى سبب واحد. قال: "أنت تتعامل مع نظام إيكولوجي معقد من ناحية السمّية والتفاعلات". "أعتقد أن هناك نوعًا من الهوس لإيجاد جواب سحري لشرح العيوب الخلقية في العراق…. الناس يحاولون أن ينسبوا ذلك إلى سلاح معين مثل اليورانيوم المنضب، الجميع يريد أن يكون اليورانيوم المنضب هو المسؤول، وأشعر أن البحث عن سبب واحد كمن يبحث عن شجرة فيهمل الغابة. نحن نفتقد الصورة الأكبر لكيفية حدوث إنتاج منهجي للسمّية على مدى عقود في الحياة اليومية للعراقيين ".
    بالنسبة إلى الديوه جي والآخرين، الحديث عن الصورة الأكبر لا يستبعد مسألة تحديد المسؤولية. لكنها تفضي الى ذات النتيجة، على الأقل في حالة الفلوجة، فتلك الرؤية تجبر المرء على إعادة النظر في البحث عن مادة سامة واحدة وبدلاً من ذلك يكون التفكير باحتمال أن حرب المدن في القرن الحادي والعشرين، في حد ذاتها، قد تطلق العنان للمخاطر على الأجيال والتي بدأنا تواً ندركها. وقال "هذا جزء من اللغز الذي لم يتم حله بشأن هذه العيوب الخلقية". وهو ما يجعلنا نسأل: كيف نمضي قدماً وكيف يمكننا حقًا التفكير في تحديد المسؤولية في مثل هذه القضايا؟ ".

    بعد سبعة عشر عامًا من غزو الولايات المتحدة لبلدهم، ما زالت سميرة العاني وزملاؤها لا يعرفون بالضبط كيف أو حتى ما إذا كانت الحرب لها علاقة بالتشوهات الخلقية التي تقول إنها تشهدها في المستشفى يوميًا. في صباح آخر حار من أيام سبتمبر من العام الماضي، جلست في مكتبها الصغير ذي الإضاءة الخافتة قبل جولاتها في جناح الولادة. كانت منزعجة من حركة المرور في الصباح، وبدت متعبة. على مر السنين، ألفت أو شاركت في تأليف أكثر من اثنتي عشر دراسة، وتحدت منظمة الصحة العالمية، وسافرت إلى الولايات المتحدة لمناشدة الرئيس السابق جيمي كارتر للسعي من أجل الحصول على معلومات حول المعارك التي تقودها الولايات المتحدة في مدينتها. وقد نجت من الضربات الجوية واحتلالين عسكريين أجنبيين. وقد فقد أفراد عائلتها أطفالهم بسبب العيوب الخلقية التي سعت إلى علاجها.
    سحبت نسخة من طلب رسمي،  كان يرسله -على حد قولها- المستشفى إلى وزارة الصحة في بغداد كل شهر لطلب معدات جديدة، بما في ذلك جهاز لمعالجة الدم بأشعة غاما، ومحلل Cobas E 411 لإجراء فحوص مختبرية لغرض التشخيص، و جهاز فحص حديثي الولادة لتحديد الاضطرابات الوراثية والتمثيل الغذائي. قالت: حتى الآن لم تصل المعدات  لكنها تنوي الاستمرار في طلبها. وقالت: "إننا نتطلع لإيجاد حلول لهذه العائلات".
    عندما كانت العاني تستعد لرؤية مرضاها ، دخلت منتهى العلواني إلى المكتب. تذكرتا عندما بدأتا في تسجيل الحالات منذ حوالي عقد من الزمان، حيث التقطت العلواني  صوراً بالكاميرا فلم يكن لديهما موبايلات بعد. قالت العلواني إنها لم تكن تنوي استخدام الصور لأغراض سياسية. وقالت: "لا أحب أن أشهر مأساة الناس". "كنت أفكر في حل المشكلة ، وليس إعادة إنتاجها." لكن بمرور الوقت، تحولت صور أطفال الفلوجة القتلى والمشوهين إلى رموز لعواقب الحرب المروعة التي طال أمدها. أصبحت الصور الملصقة على لوحات الملصقات والمواقع الإلكترونية المناهضة للحرب رموزًا للآثار المدمرة و المتوارثة بين الأجيال للحرب التي يصفها الاميركان الآن بأنها كانت خطأ. لكن أطفال المدينة – تقول العاني و العلواني- لم ينالوا الاهتمام العالمي المطلوب .
    بعد أسابيع قليلة، نشرت العاني دراسة أخرى في المجلة الآسيوية  للتقارير الطبية والصحية. في الورقة التي راجعها الزملاء، قامت بتحليل التوأم اللذان ولدا في مستشفى الفلوجة ولديهما اضطرابان شديدان مختلفان. كتبت أن الطفل الثاني ، كان ذكراً وقد  ولد ميتاً وأمعاءه الزرقاء متدلية من بطنه. أول طفل دخل العالم حيا. كانت العاني تعلم أنه لن يعيش طويلاً،طالما أن ساقيه الصغيرتين ملتصقتان معًا. ذكّرها كلا الطفلين بالتشوهات الأخرى التي رأتها وسجّلتها في المستشفى،لكنها لم ترَ المتلازمتين النادرتين معاً في نفس الحمل من قبل.
    أنهت العاني دراسة الحالة بملاحظة محبطة،  فكتبت أن "الانتشار الواسع للعيوب الخلقية في الفلوجة يؤثر على صحة السكان وقدرتهم على رعاية الأطفال الباقين على قيد الحياة". وأضافت أن المشكلات تفاقمت بسبب قلة الرعاية السابقة للولادة، ونقص دعم الأسر المصابة بعيوب خلقية، و "عدم وجود خطط مستقبلية جادة وواضحة لتحسين النظام الصحي أو اتخاذ إجراءات جادة لتنظيف البيئة الملوثة بعد الحروب".
    ما لم تكتب عنه هو كيف أصبح والد التوأم في حالة هستيرية بعد الولادة ورفض السماح لها بإجراء الأشعة السينية أو الموجات فوق الصوتية عليهما. لقد أخرج الطفل الأول ببساطة من المستشفى ليموت في المنزل، تاركًا العاني لتدوين المعلومات المحدودة التي تمكنت من جمعها، على أمل أن يفيد السجل يومًا ما مرضاها، وإنْ كان غير مكتمل.

    بقلم: لورا جوتسدينر
    عن مجلة ذي نيشن THE NATION
    ترجمة: قصي الصافي




    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media