قراءة في رواية ( الليل في عليائه ) المقارنة بين الإرهاب والثقافة للأديب زيد الشهيد
    السبت 17 يوليو / تموز 2021 - 14:45
    جمعة عبد الله
    هذه الرواية هي الجزء الثاني ورباعية الليل على ضفاف ليالي مدينة السماوة , ولكن أو ما يلفت الانتباه , بأن لوحات عناوين هذه الرباعية ( الليل في نعمائه . الليل في عليائه . الليل في بهائه . الليل في نقائه ) هي عناوين استفزازية  , بهدف شحن عقل القارئ وتركيز تفكيره وذهنه  الى صياغة الحدث السردي  , وكذلك في شحن  الاغراء في هذه العناوين المبهرة , بلا شك هناك اختلاف متناقض  بين محتوى المتن  الروائي وهذه العناوين الساحرة في الليل في أقمارها الساطعة  . بينما  نجدها هذه الليالي مليئة  بالحزن والاسى والإحباط  المخيب بأثقاله , انها  حكايات الحزن العراقي المدورة  من حكاية الى الآخرى . ترسم بواعث الحزن ومرارته , نلمس الحب المقموع رغم عذريته وشغافه الشفافة  في الروح والوجدان في نقاوة قلب النسوة , يحملن الطيبة الريفية والقروية الى حد السذاجة المتواضعة ,  يحملن قلوب كبيرة . في هذه الرواية في حكاياتها الحزينة والمريرة , لكنها تشدد على الرؤية الفكرية ومضاربها الدالة بالمغزى العميق . الذي يحرث بأن القوة الجبروتية الطاغية والمتسلطة في تسلطها في نهج  الإرهاب  الفكري , غير قادرة على قمع الثقافة الإنسانية والإبداع الادبي , قادرة على خنق القلوب بالحزن , ولكن غير قادرة على موتها وقتلها   . مهما بالغت في تشديد طوق الحصار   . وعندما يتوقف الارهاب الفكري ,  يتوقف  والاضطهاد  والقوانين الارهابية , تنهض الثقافة  والفكر من رماده  متوهجاً أكثر من السابق .وتعوض سنوات  الخنق والحصار  . لذلك يطرح الاديب ( زيد الشهيد ) رؤية فكرية خلاقة في الابتكار في المغزى الفكري الدال على هذه الثيمة وموضوعها الأساسي الثقافة والإرهاب  .  في  الصياغة الفكرية التي تعتمد على  الابتكار والتناص واستلهام والمقارنة المدهشة ,  بين حزن الشاعرة الروسية ( أنا أخماتوفا ) وهي من أشهر شعراء الروس , انبثقت موهبتها الشعرية وهي صغيرة السن ( بعمر 12 عاماً ) بشكل مرموق ودأبت في صعود نجمها الشعري في السنوات اللاحقة الى الشهرة العالية والواسعة  , لكنها توقفت  عندما وقفت بقوة في  وجه الإرهاب الفكري  الستاليني المتسلط . نتيجة لموقفها الإنساني  والوطني , عاقبها ستالين . في إعدام زوجها , بسجن ابنها الوحيد في منافي سيبيريا . وكانت تقف مع الطوابير  لساعات وساعات طويلة  تحت الصقيع القارص  , وفي الاذلال في المعاملة الخشنة من حراس السجن  , من أجل زيارة ابنها السجين , ولم يكتف ستالين بهذا القدر من القسوة , وانما ايضاً أمر  بسجنها ومنعها من الشعر , وطردت من اتحاد الكتاب والادباء الروس , بل سجنت في بيتها . هي محاولة سلبها من حق الحياة والموهبة الشعرية . أن  تكون تحت طائلة الحزن والتعذيب النفسي . وهذه بعض المقاطع من ديوان ( قداس جنائزي ) كتبته في سنوات العجاف والحصار  . وافرج عنه بعد عشرين عاماً من الحجر الابداعي :
    لقد جلبت لنفسي هلاكاً محبباً ...
    بلايا واحدة تلو أخرى
    فيا لمصيبتي
    إن هذه القبور
    هي نبوءة لكلماتي
    ---------
     الى  ......  الموت
    ما دمت ستأتي , فلمَ ليسَ  الآن ؟
    أنني أنتظرك ..... أنني متعبة
    لقد أطفأت النور ..... وفتحت لك الأبواب ....
    --------
    لا تبكي عليَ يا أمي
    أنا هنا في القبر
    -----------
    يدخل القمر بقبعة مائلة
    ويرى ظلاماً
    هذه امرأة  وحيدة ,
    الزوج في القبر والابن في السجن
    صلوا لأجلي أذاً
     هذه محنة الشاعرة ( أنا أخماتوفا ) مع ارهاب ستالين وكل على شاكلة ستالين من الطغاة   , ضد دعاة الثقافة الانسانية الحرة والابداع الاصيل , لان غطرسة الطغاة المتعالية  , يريدون كل الادب والابداع لوحدهم فقط لا لغيرهم  , في التمجيد والتعظيم لشخصياتهم المجنونة والمتهورة بحماقات لا تغتفر  . يضع الاديب ( زيد الشهيد )  هذه حكاية الحزن  مع حكاية ( نبيلة ) القروية طيبة القلب التي هجرت قريتها وجاءت الى مدينة السماوة  , وهي تحمل في خيالها  موهبة فطرية في الابداع الفني بشكل ملهم , اذا كانت الشاعرة ( اخماتوفا ) في موهبة الابداع الشعري ووجدت الثعبان ستالين امامها  يطاردها بالقمع والارهاب الفكري  . فأن ( نبيلة ) في موهبتها الفنية الملهمة في حياكة الازر والنقش عليها برسوم بخيال ملهم , لكنها  وجدت أمامها ثعبان ستالين ولكن بشكل آخر . في استغلال طيبتها وحبها في سرقة جهدها الفني  , هكذا استغل  الرسام ( جلال ) فكان يستنسخ الرسوم الموجود  على  الازر  التي تحيكها , وتحويلها  الى لوحات رسمية يدعي بأنها من إلهامه ومن خياله الفني .  هذه الرسوم لروعة خيالها الملهم ,  نالت الشهرة والاضواء والمال , فأصبح فنان عصره في الابداع التشكيلي  , بهذا شكل صعد على قمة الشهرة والمجد والاضواء بواسطة سلم ( نبيلة ) في حبه المخادع . لهذه الفتاة الطيبة التي تعيش  من جهدها وكدحها في حياكة الازر , وكانت تحيك كل سنة ازاراً مدهشاً في رسوم الغزلان , حتى حاكت الازر بعدد سنوات عمرها . وكانت طيبة المعشر عند سكان الحي وحظيت بحبهم  واحترامهم ومحبتهم . ولكنها أمنت بصدق بهذا الحب المقموع والمخادع . رغم أن حبها  عذري غير مدنس  . وكل قلبها يطير فرحاً بهذا العشق الصادق من ناحيتها, ولكن بما تملك من موهبة فنية ملهمة ,  أصبحت من حصة الآخر وحرمت منها , بينما الرسام المخادع  صعد على سلم الأضواء والشهرة والمال . بسلب موهبتها الفنية , مثلما سلب ستالين موهبة ( أخماتوفا ) الشعرية . وجعلهما تعاني فداحة معاناة الحزن ومرارته . هكذا القدر يسلب المواهب بطرق اللاشرعية ويقمعها بكل أشكال القمع , فمن يستطيع أن يعيد مسار الامل الذي غرق بالحزن  ( صدى روحها يردد . لا حد للصحراء يا صغيرتي , أن الصحراء كانت عصياً, لا أحد يتنبأ برأفتها فيعيد لقلب الفتاة مسار الامل ) ص 16 .. فكانت أمرأة مقموعة بالحب رغم  جوانحها الصادقة , وكانت تعتقد أن  حبها سينقذها من العتمة والوحشة , لكنها كانت على   وهم كبير . فقد تحول حبها الى سكاكين تنهش احشاء قلبها . وكان صديق الرسام ( نديم )  يلعب دور الوسيط والتواصل بين الجانبين , في إصلاح  البين والخلل , لكنه وجد المفارقة كبيرة في التناقض بين  طيبة في حبها , والآخر مخادع في الحب . وكان ( نديم ) ينجرف بشوق ولهفة الى الديوان الشعري ( قداس جنائزي ) للشاعرة ( أخماتوفا)  ولا يفارقه ولا يمل من قراءته . ويدرك أن  أحلام ( نبيلة ) بالحب الاخضر ماهو إلا حب أسود معتم  . لانه يستغل العاطفة المتوهجة في روح ( نبيلة ) ليكون سلماً صعوده على سلم نشوة الاضواء والشهرة . في عقلية مخادعة بالغرور والتعالي , رغم ظاهره في البهرجة المزيفة من جانب الرسام ( قالت له : أسمي نبيلة , فرد في سره , بل أسمك ِ غزالة . وقال لها : أسمي جلال فهتفت في قلبها . بل أسمك بستان ) ص55 . وتصاعدت ضغوط الاهل أن ترجع الى قريتها من أجل الزواج . وهذه يعني عليها ان  تودع الحب المقموع الى القبر , بعدما انقطع عنها الرسام بحجج واعذار واهية   وغاب كلياً عنها , لانه اخذته الشهرة والاضواء بعيداً عنها . شعرت ان حياتها وصلت الى هاوية الجحيم . كأنها سقطت من مرتفعٍ عالٍ . لذلك فكرت برمي نفسها في النهر , لانها جزعت من المعاناة والحزن ولم تعد تتحملها ( يا الله . ما هذا العذاب ) ص90 . ولكنها اكتشفت خداع الرسام المزور في الحب والموهبة  , حين وجدت المجلات تنشر رسوما على أغلفتها , وهي رسومها من بنات أفكار موهبتها الفنية  ( أيكون حضوره لبيتي قصد جمع أحجار فني ليعرضها على أنها من بنات  أفكاره وتوهج موهبته ؟ ..  أتراه يتجنب وجودي معه , وما يبعث من كلام ترج واعتذار إنما من باب جبر الخواطر ) ص100 . لذلك تيقنت بأن حبه لها طواه النسيان وكان بهدف سرقة جهدها الفني , وينسبه الى نفسه , انها سقطت في فخ الخداع والغدر . مما سبب جرحاً عميقاً غائراً في الحزن  , وتمنت الموت , مثل ( اخماتوفا ) تمنت الموت والقبر . بأنها أصبحت تعيش في غمرة الحزن الذي سلبها أعز الاشياء . زوجها انعدم ابنها الوحيد سجين  , هي محاصرة في بيتها ممنوع عليها كتابة الشعر . انها في بلوى مجروحة . قال صديق الرسام ( نديم ) ينصح ( نبيله )  ان تهجر حبها لانه مقموع وعقيم ولا فائدة ترجى منه , ان تتركه افضل لها  ( ما هكذا يكون الحب يا نبيلة , ولا هكذا تكون الثقة به .... لقد غاب عنكِ ونسيكِ , فواجب عليكِ نسيانه ) ص100 . لكن بالمقابل مصابح الشهرة واضواء المجد بدأت  تخفت وتنطفي انوارها . وبدأ كالملك العاري من الثياب ,   بأنه لا يملك الابداع والموهبة فهجرته الأوساط الفنية والثقافية , وشحت العطاءات المالية. ووجد نفسه  بدون هوس الأضواء والشهرة . فقد ذهب كل شيء عنه  وسقط في الوحل . كما سقط ستالين وارهابه في الوحل  , وهذه نهاية الطغاة في انطفأ بريق مجدهم وشهرتهم , ويسقطون الى قاع  الحضيض . فقد انتظرت الشاعرة هذه اللحظة التاريخية  . واعادت  نفسها الى الحياة مجدداً  المقارنة  من رماد الحزن , ونشرت ديوانها الشعري ( قداس جنائزي ) . الذي  كتبته في زمن الحصار والحزن   , كذلك ( نبيلة ) فقد جاءها الفرج من  ( حزين /  عشيق حمامة في الجزء الأول من الرباعية ) ومد طوق الإنقاذ لينتشلها من  الحزن . لكي تعود  مجدداً للحياة , لتنتهي حكاية عذاب الليل في مدينة  السماوة .

    جمعة عبدالله

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media