عن انسداد السياسة والبراعة في صناعة الجديد
    السبت 7 مايو / أيار 2022 - 13:11
    د. عقيل عباس
    أستاذ جامعي
    تتسارع خطى السياسة في العراق لإنهاء ما أصبح يُعرف واسعاً بالانسداد السياسي، المتمثل بصعوبة استيفاء النصاب اللازم، ثلثي العدد الكلي لأعضاء مجلس النواب البالغ 220 من مجموع 329 نائباً، لإمضاء جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم تكليف مرشح لرئاسة الوزراء بتشكيل الحكومة.

    مَنحَ اشتراط نصاب ثلثي العدد الكلي لانتخاب رئيس الجمهورية بناءً على تفسير دستوري جديد في شهر شباط/فبراير الماضي للمحكمة الاتحادية قوةً كبيرة للطرف الأضعف والخاسر برلمانياً على ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة في أكتوبر الفائت. أعادَ القرارُ عملياً تعريفَ الفوز الانتخابي لصالح الطرف الخاسر عبر صناعته توازناً برلمانياً غريباً تستطيع بموجبه الأقلية في البرلمان أن تمنع الأغلبية من تشكيل الحكومة!! في الأنظمة البرلمانية في العالم لا تُمنح الأقلية مثل هذا الامتياز لأنه يخالف جوهر الديموقراطية وفحوى المنطق وإرادة الناخبين فللأغلبية، بمعنى النصف زائد واحد، حق تشكيل الحكومة. أقصى ما يمكن أن تُمنحه الأقلية البرلمانية هي حق الفيتو على إمرار قوانين وإجراءات معينة، وهو الفيتو الذي يمكن عادةً تجاوزه بتصويت أغلبية الثلثين أو أقل.

    يتعلق جذر الانسداد السياسي الناتج عن قرار المحكمة الاتحادية بحقيقة ان القرار غَيَّرَ قواعد اللعبة الانتخابية والبرلمانية في أثناء اللعبة نفسها، وليس قبلها، كما ينبغي أن تكون الأمور منطقياً وقانونياً، بمعنى أن اللاعبين السياسيين خاضوا السباق الانتخابي العام الماضي على أساس قواعد اللعبة التي سادت منذ انتخابات 2005. اشترطت هذه القواعد أن يحصل التحالف الفائز على أغلبية مقاعد البرلمان، نصف عدد المقاعد زائد واحد، لتشكيل الحكومة، بما تتضمنه من انتخاب الرؤساء الثلاثة تتابعاً: رئيس البرلمان ثم رئيس الجمهورية ثم رئيس الوزراء. كان عدد الاغلبية المطلوب حينها 167 عضواً. بعد تصديق نتائج الانتخابات الاخيرة، استطاع التيار الصدري ان يشكل تحالفاً، التحالف الثلاثي، بلغت عدد مقاعده نحو 180، وهو ما يعني انتخابا مريحاً للرئاسات الثلاث. استطاعت هذه الاغلبية انتخاب رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، حسب هذه القواعد. لكن عندما حان وقت انتخاب رئيس الجمهورية بعد ذلك بشهر، تغيرت قواعد اللعبة فجأة ليشترط قرار المحكمة الاتحادية أغلبية الثلثين، وليس الأغلبية العادية، أي 220 عضواً كنصاب للجلسة! كان تغيير القواعد كبيراً ومفاجئاً وفي أثناء المباراة السياسية-البرلمانية!! على مضض، وجد التحالف الثلاثي نفسه مضطراً لاحترام القواعد الجديدة التي حرمته من فائدة أغلبيته البرلمانية، ليحاول، دون جدوى، على مدى شهرين تاليين بلوغ الهدف الجديد الأعلى: 220 مقعداً!

    قد يكون الافتراض وراء إصدار مثل هذا التفسير هو دفع الأغلبية والأقلية للتفاوض وإيجاد تسوية ما تسمح للطرفين بالاشتراك في الحكومة. ينسجم هذا الاحتمال مع رغبة الأقلية، الإطار التنسيقي، الطرف الخاسر والرافض للذهاب للمعارضة، ويتعارض مع رغبة الأغلبية، التحالف الثلاثي بزعامة التيار الصدري، المُصِّر، لحد الان، على تشكيل حكومة أغلبية سياسية. اختبر قرارُ المحكمة إصرارَ التيار على التمسك ببرنامجه المعلن عن ضرورة الاغلبية السياسية سبيلاً لحكم البلد، هذا الاصرار الذي يبدو راسخاً وصحيحاً واكسب التيار الصدري الكثير من الدعم الشعبي لموقفه هذا، فيما جعل الإطار يظهر على أنه الطرف الذي صنع الانسداد من أجل مصالحه الحزبية الخاصة، وليس المصلحة الوطنية، إذ يصعب فعلاً في عراق اليوم الدفاع عن اطروحة الحكومة التوافقية بعد الفشل الهائل الذي تسببت به صيغة الحكم هذه على مدى الـ 16 عاماً.

    لكن يمثل الاختلاف بخصوص أطروحتي الاغلبية السياسية والتوافقية إحدى الفوائد القليلة الناتجة من شيء سيء، إذ أن هذا الاختلاف هو الشكل السياسي العلني لصراع شرس بين الأحزاب التقليدية الرئيسية على معنى السلطة في العراق وموقعها فيها. إذا نجح التيار الصدري في إمضاء جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، فسيكون بذلك في طريقه لإخراج معظم الأحزاب الإسلامية الشيعية من دائرة السلطة، وهو ما يعني نهايتها عملياً، بسبب عجز هذه الأحزاب على العيش خارج السلطة بما تعنيه من موارد ونفوذ. أما انتصار التوافقية، التي يطلق عليها الإطار التنسيقي الان تسمية "الأغلبية الوطنية الموسعة،" فهي تعني بقاء كل منظومة الأحزاب التقليدية في الحكم، وبالتالي عدم حصول أي تجديد في الطبقة السياسية التي خرج المجتمع ثائراً عليها في احتجاجات تشرين 2019. يتلخص المأزق الذي يعيشه الطرفان هو ان كل واحد منهما لا يملك ما يكفي من مقاعد برلمانية لإمضاء إرادته: تشكيل الحكومة بأغلبية الثلثين لصالح التحالف الثلاثي، او تعطيل مرورها بأقلية الثلث لصالح الإطار التنسيقي. الطرف الحاسم في هذا الصراع المفتوح هو طرف ثالث: أقلية اخرى يمثلها من أصبح يُطلق عليهم "المستقلون،" وهي أقلية غير واضح لحد الان حجمها الحقيقي.

    يكمن هنا بالضبط الذكاء في مبادرة التيار الصدري مؤخراً التي عرضت على "المستقلين" منصب رئيس الوزراء والمقاعد الوزارية للتيار الصدري في الحكومة، بحدود 12 وزارة، إذا استطاعوا تشكيل كتلة من 40 نائباً فأكثر خلال 15 يوماً ودخلوا في التحالف الثلاثي. بإمكان كتلة المستقلين هذه التي دعا لتشكيلها السيد مقتدى الصدر ان تنهى الانسداد السياسي لصالح اطروحة حكومة الأغلبية. التحدي الكبير هنا هو تحديد من هم المستقلون وإثبات قدرتهم على العمل سويةً. لم يحدد الصدر من هؤلاء، لكن واضح أن الرجل ترك التحديد واسعاً، مشترطاً ألا يكون هؤلاء من الإطار التنسيقي. عملياً، يضم "المستقلون" كل النواب الفائزين في الانتخابات الأخيرة من الذين لا ينتمون للطبقة السياسية التقليدية التي تشاركت في السلطة ومواردها وخطاياها منذ 2005. يعني هذا نواباً تشرينيين خرجوا من رحم حركة الاحتجاج وآخرين مستقلين سياسياً لكن متعاطفين مع حركة الاحتجاج التشرينية، ومجموعة أخرى قريبة من أحزاب السلطة التقليدية، رشحت كأفراد في الانتخابات وفازت فيها، وأحزاب صغيرة حديثة نسبياً لم تشارك في الحكومات السابقة، كما في حركة "الجيل الجديد" الكردية. بمجموعهم المتناثر هذا، يمكن لهؤلاء أن يشكلوا كتلة من 40 نائباً على الأقل.

    يبقى سؤالان مهمان ينتظران الإجابة في حالة النجاح في تشكيل هذه الكتلة المستقلة وامرار انتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم تشكيل الحكومة. يتعلق الأول بالأجندة الإصلاحية التي تمثلها هذه "الكتلة المستقلة." بشكل أساسي، يتضمن الاتفاق الشعبي والتشريني العام بخصوص الإصلاح، وهو يتسق مع البرنامج الذي أعلنه التحالف الثلاثي، تفكيكَ الميليشيات ومكافحة الفساد، وإكمال بناء المؤسسات المنصوص عليها دستورياً، كما في تشريع قانون المحكمة الاتحادية وتشكيل مجلس الاتحاد، وإجراء تعديلات دستورية. يتعلق السؤال الثاني، وهو الأهم، بقدرة كتلة المستقلين هذه على الانسحاب من الحكومة إذا ظهر لها أن التحالف الثلاثي ليس جاداً في دعم هذه الأجندة الإصلاحية. يكمن هنا اختبار الشجاعة والمبدئية في عراق ما بعد 2003: القدرة على الاستقالة ومغادرة مواقع السلطة والنفوذ إذا كان البقاء فيها لا يخدم مصلحة عامة. قول "لا للسلطة" هو أصعب الأشياء في "العراق الجديد،" وإذا عجز المستقلون والتشرينيون عن قولها وتنفيذها، فهم ليسوا مناسبين للإصلاح ولا لصناعة التغيير الإيجابي في قصة هذا البلد التعيس بساسته.

    "سكاي نيوز عربية"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media