العراق بلد الفرص الضائعة
    الثلاثاء 28 يونيو / حزيران 2022 - 08:24
    أ. د. عبد علي سفيح
    مستشار وباحث لوزارة التربية والتعليم الفرنسية
       اكتب هذا المقال بعد أن شاهدت فيديو يتحدث فيه الاستاذ عبد الحسين شعبان عن الحزب الشيوعي العراقي فيقول "من العوائل الدينية التي في حضرة الامام علي كانوا من الشيوعيين ومحسوبين على الخط اليساري ومنهم آل الحكيم، وآل الرفيعي الكليلدار، وآل بحر العلوم وكذلك في الكاظمية وكربلاء من عوائل دينية". هذه المشاهدة فتحت لي باباً من الأسئلة التي لم أكن أفكر بها سابقاً وولدت لدي أفكار ليست بالضرورة أن تكون حقيقية لكني رغبت بمشاركة أصحاب الاختصاص والفكر في هذه المعطيات ومنها اخترت هذا العنوان الذي هو في الوقت نفسه سؤال وجواب، أو بتعبير آخرمشكلة وحل.
       نحاول هنا تقويض عرى ودعائم الشمولية من اعتبارها نفياً للخصوصيات. أي إننا هنا لم نبحث في فهم الأحداث ضمن سلسلة غائبة، أو في مسار أملته الضرورة المثالية، بل قراءة تمكننا من معرفة مراكز الحدث وهوامشه، والتفاعلات والصراعات الموجودة فيها.
       تكمن دراسة التاريخ في أخذ العبرة والاستفادة من الماضي وتجنب الوقوع في الأخطاء التي كانت في الماضي، ومحاولة البحث عن حلول لهذه الأخطاء.
      من خلال هذه القراءة نستطيع معرفة حقيقة الأحداث والوقائع ومدى صحتها، ومعرفة حال العراق من قوة وضعف، ومن جهل وعلم، ومن نشاط وركود.
       إن السؤال المحوري في هذا المقال هو:   
       لماذا رفض وقاوم العراقيون الوجود البريطاني في أوائل القرن الماضي الذي سعى لاخراج العراق من دهاليز الظلام العثماني الذي خيّم على العراق قرابة 400 سنة ؟                                        
    لماذا رفض العراقيون الحداثة القادمة من الغرب، وعادوا الى رجعتهم وتقوقعوا في مفهوم الشرق؟        
    لماذا ارتفع الصوت المعارض للتحول المفاجىء إلى نظام شبيه بأنظمة الغرب؟
    لماذا رفض العراقيون المشروع الحداثي البريطاني الذي يضع العراق في صفوف الدول التي يشار لها بالبنان؟
    كل هذه الأسئلة شرعية وتحتاج إلى أجوبة واقعية بعيدة عن العواطف.
       كانت هناك فرصة تباين المصالح البريطانية مع المصالح العراقية من موقع العراق الاستراتيجي الذي يربط الهند ببريطانيا، كذلك امكانية الزراعة الواسعة ووجود مصدر للطاقة وهو البترول. مقابل هذا تؤمّن بريطانيا حماية العراق لاسيما من تركيا وايران، مع تحديث العراق كدولة عصرية وذلك ببناء كيان جديد اسمه العراق، مع مجلسين  نيابي وأعيان، وفتح المدارس والمشافي.
       نرجع إلى الاجابة على الأسئلة أعلاه. هناك  عدة عوامل تحدد الخطاب العراقي وكتابة التاريخ وقراءة الأحداث وهي:
        العامل الأول: عند الكتابة والخطاب، المشاعر هي التي تتحكم وليس العقل. العراقي يقدس الثورة وينتقص من الدولة. العراقيون يحتفلون بثورة العشرين، بينما لم يحتفلوا بيوم تاسيس الدولة العراقية.
       إن الثقافة التي تمثل الأكثرية هي التي تعد اليسار وطني، بينما ترى في اليمين الليبرالي عنوان العمالة للغرب.في حين كتابة التاريخ تستلزم الانفعال بشكل موضوعي ومحاولة وضع مسافة للذات العارفة عن الأحداث والتراث لاتخاذ موقف فكري نظري من أجل البحث والتقصي والاستكشاف. فالذي يكتب التاريخ يمثل في الوقت نفسه، ذاتاً في الصيرورة التاريخية، ومنتجا للمعرفة التاريخية. وهذا مع الأسف غير متوفر في ثقافة المجتمع العراقي.
      العامل الثاني: نلاحظ هيمنة السياسة على التفسير للتاريخ وتدوينه. السياسة في العراق مهيمنة وصبغت كل شيء. هيمنت على قراءتنا للتراث، وللمجتمع، وللأحداث. وهذا ما نراه حتى عند أصحاب الاختصاص. إن التفسير السياسي لديهم هو الأكثر شيوعاً وحضوراً، وان هذا التفسير يعبر عن حالة مرضية للمشاعر أكثر من تعبيرها عن روح علمية أكاديمية.
       في هذه القراءة سوف نركز على القراءة المبنية على التاريخ الاجتماعي، وهذا العلم مستقى من مدرسة الحوليات الفرنسية، الذي ترك أثراً  في أوروبا وأميركا، ويسميه الألمان (قصة المجتمع).
    أعلن العراقيون رفضهم للاحتلال البريطاني من أول يوم دخولهم الأراضي العراقية، واستمر هذا الرفض ومن ثم أندلعت ثورة العشرين التي تزعمها رؤوساء القبائل ورجال الدين.
    وبعد ما يقرب من 15 عام من تنصيب الملك فيصل الأول حصل أول انقلاب عسكري في تاريخ العراق الحديث، وكان بقيادة بكر صدقي في عام 1936. تلت ذلك مدة من عدم استقرار لنظام الحكم.ووصل الأمر ذروته في العام 1941 مع ظهور حركة رشيد عالي الكيلاني المؤيدة للنازية والفاشية وضد الولايات المتحدة وبريطانيا. بعدها استمر التوتر وعدم الاستقرار حتى عام 1958 الذي طوى صفحة مهمة من تاريخ العراق الحديث.
    السؤال هو: هل هذه المعارضة والرفض لبريطانيا كانت عفوية أم وراءها تنظيم وعقلية مدبرة؟
    إن كان الجواب عفوياً، عجبا لماذا لم يحتج ويثور العراقيون ضد الاحتلال العثماني الذي طال أكثر من اربعة قرون كما اسلفنا؟. اما اذا كان الأمر منظماً ومدبراً، اذن ماهي الأسباب التي تختفي وراء هذه الاحتجاجات المستمرة؟.
       لاشك بأن الحركة اليسارية العراقية وقفت بوطنيتهم المشهودة ضد الاستعمار وضد الاحتلال، مستخدمين كل الوسائل للوصول إلى غاياتهم ومنها استثمار المناسبات الدينية والاجتماعية والجهادية. هل كانت هذه الحركة تتوافق مع قوة غير مرئية تشجع هذا الاتجاه ضد البريطانيين وضد الحداثة؟
    ولدت لدي فرضية وهي: إن روسيا كانت وراء هذا الحراك والتنظيم اليساري، لأنها لا تقبل أن تكون بريطانيا على حدودها، كذلك فهي ترفض التجربة الليبرالية الديمقراطية لأن ثقافتها الاجتماعية تتجه نحو مركزية الدولة ورجل امبراطور. فاستخدمت اليسار الايراني الموالي لها لاداء هذا الدور في العراق وتشجيعهم على طرد البريطانيين.
    سوف أدعم هذه الفرضية ببعض الشواهد وما على أصحاب الاختصاص إلا أن يتعمقوا في البحث.
      ففي بداية القرن العشرين تشكلت في بلاد فارس لاسيما بين المهاجرين من العمال الايرانيين العاملين في باكو ومدن روسية أخرى، منظمات يسارية متأثرة باليسار الروسي، هذه المنظمات في عام 1905 ساهمت بصورة  فعالة في الثورة الوطنية الايرانية التي عرفت بالمشروطة. 
        ساهم المفكرون والمثقفون والنخب الايرانية ومنهم على سبيل المثال، سيروز برهام، وعلي مسيو، وادوا دورا في الأممية الشيوعية العالمية التي تأسست عام 1919. وتشير الوثائق أن هذا التنظيم العالمي لاسيما في أوروبا، نبع بالاساس من النخب الايرانية. 
    خشيت بريطانيا من قوة اليسار الايراني مما اضطرها الى دفع وزير الدفاع الايراني آنذاك رضا شاه الى قيادة انقلاب عام 1925 وانهاء الحكم القاجاري.
    هذه الحركة اليسارية الايرانية قد يكون لها دور فعال في تشجيع العراقيين بالثورة ضد الوجود البريطاني، لأن هذا الوجود مرفوض من روسيا وبلاد فارس .
    صدرت في العراق عام 1924 مجلة باسم "الصحيفة"،كانت ذات أفكار يسارية. وفي عام 1927 تشكلت المجموعة الماركسية الأولى في البصرة، ومن بعدها في الناصرية عام 1928. ثم انعقد اجتماع تاسيسي في بغداد للحزب الشيوعي العراقي عام 1934.
    السؤال هو: هل فشلت روسيا وايران من طرد البريطانيين خلال ثورة العشرين، الامر الذي أدى إلى اتباع استراتيجية جديدة وهي عن طريق تنظيمات يسارية منظمة تقود الجماهير للهدف المرسوم مسبقا؟. 
    أعود إلى مقابلة الأستاذ عبد الحسين شعبان الذي أكد بوضوح على أن الدين كان الحضن المثالي للحركة اليسارية الشيوعية العراقية. وأنا باعتقادي بأن المذهب الشيعي  لاسيما في المدن الشيعية المقدسة التي تحتضن المرجعيات والحوزات الدينية هي بيئات مشجعة للفكر اليساري لماذا؟
    لأن التشيع كنز روحاني ممزوج مع الفكر الاسلامي. على الرغم من أن التشيع هو نظرة مأساوية وليست تصالحية للعالم، لأنها نظرة العودة للامام المنتظر. وهذه النظرة تعطي حرية للفكر وللتحليل، وهي التي تفصل بين الدين والدولة. 
    إن حرية ايران تحصل داخل المرجعية الدينية لأنها حرية صوفية عرفانية ، هذه الحرية ناتجة من اعادة تقطير الممارسات العرفانية التي هي صناعة ايرانية بامتياز. هذه الحرية هي التي شجعت على نمو الحركات الفكرية اليسارية سواء في ايران أو في العراق، وقد يكون سببا أساسياً في نمو الحركات اليسارية عند العوائل الدينية في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media