أ. د. شموئيل (سامي) موريه
مهداة الى اصدقائي العرب الذين ارسلوا اليّ تهانيهم بمناسبة عيد رأس السنة العبرية الجديدة
ما زلت الى اليوم كلما استمعت الى قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي غناها مطرب الاجيال محمد عبد الوهاب في حضرة الملك الهاشمي فيصل الأول في بغداد، أشعر بقشعريرة عميقة من الحنين تسري في كياني، مستشعرا حريقا في شغاف القلب، ونياطه تتقطع حنينا الى ربوع الطفولة والشباب وانا استمع الى الصوت المخملي الحنون يفتت الصخر الجلمود حنينا وأسى:
يا شراعاً وراء دجلة يجري في دموعي تجـنبتك العوادي
سِـرْ على الماء كالمسيح رويداً واجرِ في اليمّ كالشعاع الهادي
وَأتِ قاعاً كرفرفِ الخلدِ طيـباً أو كفردوسـه بشاشـة وادي
قف، تمهل، وخذْ أماناً لـقـلبي من عيون المها وراء السواد
وأسلوب شوقي في اسلامياته وغزله هو إلهام لدني وسحر حلال. وأعود الى سنوات الصفاء قبل هجرتنا حين كنا نشعر بنفحات الخلد طيبا، تهب من دجلة والفرات رافدي الخير والبركة، نسيما عليلا، يوم كان اهله في بشاشة الفردوس ونعيمه، في ايام عز العراق تحت رعاية الملك فيصل الأول، يأتمرون بوصيته الوطنية: "الدين لله والوطن للجميع".
وما زلت أتذكر بساتين العراق وقد كستها الأعشاب الى خاصرتي، تبدو برقة الديباج، "كرفرف الخلد طيبا". وأسائل النفس، ترى لماذا هذا الحنين الطاغي بعد أكثر من ستين عاما على الرحيل؟ واي شيء يشد يهود العراق إليه إلى يومنا هذا؟، فتراهم محافظين على لهجتهم وأغانيهم وعاداتهم وتقاليدهم وذكرياتهم في العراق وذكرى الاصدقاء والجيران الذين عاشوا معهم اياما خصيبة وعصيبة، وهم يتسقطون أخباره ويحزنون لمآسيه؟ ورحت اقلب صفحات التاريخ لعلي اعثر على الجواب الشافي. فأفتح كتاب "رحلة بنيامين التطيلي النباري الاندلسي" (من 1165م-1173م) التي ترجمها عن الاصل العبري وعلق حواشيها وكتب ملحقاتها الاستاذ عزرا حداد، (بغداد، 1945)، لاقف على شهادة شاهد من أهلها. ويسعفني الحظ، فأعثر على حديث هذا الرحالة اليهودي الأندلسي عن بغداد (ص 131-139)، في أواخر خلافة المستنجد بالله العباسي (1160-1170م). فإذا به يتحدث عن عز الخلافة العباسية وعن اليهود وثروتهم واملاكهم والاحترام الذي كانوا يتمتعون به لدى الخلفاء العباسيين الذين كانوا متمسكين بالآية الكريمة: "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة" (الآية 16 ك سورة الجاثية 45). فيحترمون أنبياءَهم واحفاد ملوكهم وأنييائهم ويبجلونهم.
يقول بنيامين التطيلي عن يهود بغداد التي زارها: "يقيم في بغداد نحو 40 ألف بهودي وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهية في ظل أمير المؤمنين الخليفة ... اما رئيس هؤلا العلماء جميعهم فهو الربي دانيال بن حسداي الملقب "سيدنا رأس الجالوت" ويسميه المسلمون "سيدنا ابن داود"، لأن بيده وثيقة تثبت انتهاء نسبه الى الملك داود ... وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر ابناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم. ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلدة. وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين. ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: "اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود". ويكون الرئيس ممتطيا صهوة جواد وعليه حلة من حرير مقصب وعلى رأسه عمامة كبيرة تتدلى منها قطعة قماش مربوطة بسلسلة منقوش عليها شعار الخليفة. وعندما يمثل في حضرة الخليفة يبادر الى لثم يده. وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة ... وجري الاحتفال بنصب رأس الجالوت الجديد بمهرجان مشهور، إذ يبعث اليه الخليفة بأحدى ركائبه الملوكية فيتوجه الى قصر الخلافة، وفي ركابه الأمراء والنبلاء ومعه الهدايا والتحف النفيسة للخليفة ورجال قصره. وعندما يمثل بين يدي الخليفة يتسلم منه كتاب العهد..."
ويبدو أن مثل هذا النظام بقي جاريا مع كبار العلماء اليهود والأطباء منهم خاصة، الذين كانوا يتعممون بعمامة لها ذؤابة لعلها شبيهة بعمامة رأس الجالوت في بغداد أيام عزها، بل كان جلوسهم قبالة السلطان أيضا، وعند دخولهم كان المسلمون يقفون لهم احتراما. ويروي ابن بطوطة (1304-1378) الغرناطي والطنجي مولدا والمتعصب في تطبيق أحكام الذمة، في رحلته (بيروت 1964، ص 302)، إنه عند زيارته للسلطان التركي محمد بن آيدين: "أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة، فسلم عليه وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة والقراء اسفل منه، فقلت للفقيه: من هذا الشيخ؟ فضحك وسكت، ثم اعدث السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج اليه، فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له". فأخذ ابن بطوطة الامتعاض، وجعل يهين الطبيب على جلوسه فوق قراء القرآن، وشتمه، ورفع صوته، فأنكر السلطان فعلته، وغضب اليهودي وخرج من المجلس. ألا يذكرنا موقف ابن بطوطة المتعصب من موقف المتعصبين اليوم من الأقليات الدينية في البلاد الإسلامية، فزرعوا الكراهية وقاموا باضطهادها وبتهجيرها وتدمير الكنس والكنائس. ويبدو ان الرحالة المغربي في زمن الموحدين المتعصبين قدم الى العراق في أواخر العصر العباسي الذهبي، وقد صوح غصن الاندلس الرطيب بالحروب الداخلية والأحقاد والتعصب الديني، ولم يكن هذا السائح يعلم بالاحترام الذي كان يكنه المشرق الإسلامي لليهود، فلم يستطع عقله استيعاب ما يراه من عجائب المجتمع العراقي من سماحة الاسلام في العصر العباسي الذي ازدهرت فيه الفلسفات اليونانية وتياراتها الاسلامية من معتزلة ومتكلمين وملامتية ودهريين, ذكرتني هذه الحادثة التاريخية بموقف المتزمتين من كارهي الأقليات والحاقدين الذين يرون ان الديموقراطية والمساواة هي من عمل الشيطان، فيهاجمون كل من ينصف يهود العراق ويحاول رد الاعتبار إليهم من احرار الكتاب اليوم، ويهاجمون في تعليقاتهم على مقالات الكتاب الديموقراطيين، لان ميولهم السياسية لا تروقهم مستخدمين كلمات واسلوب ذكرني باسلوب الموحدي المغربي، فأسلوب الحقد والكراهية يسود ايام غروب مجد الأمم، وفي عز إشراقها يسود فيها التسامح والاخاء والتعاون واكتساب العلوم ونشرها وانفتاح العلماء على علوم الشعوب الأخرى ودراستها والاستفادة منها.
وهذا ما جرى في الأمبراطورية العثمانية التي فتح السلطان العثماني بايزيد الثاني ثغورها أمام يهود الاندلس الذين طردهم التعصب المسيحي مع المسلمين من الأندلس عام 1492، فقد فتح هذا السلطان بلاطه أمام الاطباء والعلماء اليهود ومنهم من كان خبيرا في صنع المدافع الثقيلة وصب ماسوراتها، وهو فن برع فيه يهود الاندلس ويتطلب خبرة خاصة. ويقال ان الامبراطورية العثمانية صمدت أمام الصراع مع أوروبا خمسة قرون إضافية بفضل الصناع اليهود وحكمائهم الذين خدموا العثمانيين باخلاص وصدق وكان منهم المستشار والطبيب والمنجم والصراف باشي وهو بمثابة وزير المالية آنذاك.
ويبدو ان هذا الصفاء والوفاء بين المسلمين واليهود في العصر العثماني بقي الى بعد سقوط الامبراطورية العثمانية ودخول البريطانيين الى بغداد يوم 11 آذار/ مارس، 1917. وعن الحياة الرغيدة التي سادت بين المسلمين والاقليات الدينية في العراق. حيرني تفسير هذه الظاهرة في حب يهود العراق لأرض السبي حيث علقنا اعوادنا على صفصافها الغض تتدلى اغصانها كسواد فروع النائحات على ضياع الملك، واليوم ينوح العراق على ماض مجيد انتهى بمصرع العائلة المالكة الهاشمية بكل وحشية حاقدة تكتسح أمامها كل من اراد خير العراق، حتى الزعيم الخيّر عبد الكريم قاسم الذي اراد خير الشعب العراقي بقلبه طاهر، أعدموه بغدر تعف عنه الوحوش الكاسرة. ثم عثرت بين اوراقي المبعثرة على مقال لاحد محبي العراق كتبه الصحفي الكبير الأستاذ منشي زعرور، الصحفي العراقي الذي خدم الصحافة اليسارية في العراق والذي غمط حقه حتى زعيم الحزب الذي خدمه بكل اخلاص، الى ان اضطر الى مغادرة مسقط رأسه مع الهجرة الجماهيرية لليهود عام 1950-1951. يروي لنا الأستاذ منشي زعرور، الصحفي العراقي الذي خدم الصحافة اليسارية في العراق وحوزي جزاء سنمار، الى ان اضطر الى مغادرة مسقط رأسه مع الهجرة الجماهيرية لليهود عام 1950-1951. انار هذا المقال حلكة الحيرة واشار الى احد الاسباب الرئيسية لحلول الخير والبركة في وادي الرافدين في الماضي، ألا وهو التسامح الديني وحب ابناء العراق بعضهم لبعض دون حزازات طائفية أو دينية أو مذهبية، وعملهم الدؤوب لخير العراق واهله.
كتب الأستاذ الصحفي المرحوم منشي زعرور، أبو ابراهيم الذي كان يرتاد حلقات جامع الحيدرخانة ويوقع مقالاته باسم السَمَيْدع العربي، مقاله الذي يحن فيه الى ماضي العراق حين عاش المسلمون مع غيرهم من الملل بالتآخي والحب والصفاء، في مقال له بعنوان: "خواطر عن ليالي بغداد"، نشره في مجلة "المصور" [تل ابيب – يافا، العدد 125، السنة 6، 25 مايو/أيار 1966، ص 26] فتحدث عن: "ذكريات جميلة عدت عليها السنون وكادت أن تطمس معالمها مع ما فيها من عبر وعظات وشواهد على أن القوم في العراق كانوا يعيشون متعاونين متحابين على اختلاف مللهم ونحلهم بما كانوا عليه من خصال حميدة وتقاليد موروثة هي من القيم الروحية في الصميم ومن الضوابط الخلقية في مدى بعيد..."
ويواصل الاستاذ منشي زعرور قوله: "ذكرتنا "المصور" بما نشرته في عدديها الأخيرين من عرض لكتاب "المقام العراقي" [للشاعر ابراهيم عوبديا، رابطة الجامعيين النازحين من العراق، 1999] والتعقيب عليه، ذكرتنا بأيام حلوة وليال أحلى ، ذكرتنا بعهد في بغداد كانت أغانيها ومقاماتها في لياليها البيض قاسما مشتركا بين مسلميها ويهودها. ذلك العهد الذي كانت السياسة فيه لم تخضع تلك الأغاني والمقامات لخدمة أبالستها وشياطينها، وكان أصحابها أرفع من أن يقبلوا على أنفسهم أن يكونوا آلات مسخرة لأي طاغية من الطغاة يسبحون بحمده ويحرقون له البخور...
كتبت لتنشر في جريدة إيلاف الغراء، جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
ذكريات عراقية في وثائق منسية– يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (الحلقة 3) ما هو لغز حنين يهود العراق الى ماضيهم في وادي الرافدين (ب)
ويواصل الاستاذ منشي زعرور حديثه عن بغداد بقوله: "وبغداد هذه التي نتكلم عليها، هي بغداد قبل الاحتلال البريطاني وبعده بقليل، يوم كانت مدينة صغيرة تمتد على حافتي دجلة من جانبيها الشرقي والغربي- الرصافة والكرخ- ولم يكن عرض كل جانب أكثر من أربعة كيلو مترات، أما في الطول فهي ممتدة من باب المعظم إلى باب الشرقي لا أكثر من بضعة كيلو مترات ... وصفوها هذا هو الذي كان يساعد ساكنيها على سماع أي مغن في الليل في أي مكان منها، خاص وأنها كانت خالية من وسائل النقل لهذا العصر من محركاته الميكانيكية ومن مصانعه الآلية... فليلها ساكن هادئ ولا يعكر صفو هذا السكون إلا دوي اطلاقات نارية بعض الأحيان ينبعث من بساتين ضواحيها ومن بعض طرقاتها حين يطارد العسس اللصوص فيتبادل الطرفان إطلاق العيارات النارية ... كان أهل بغداد يومذاك شغوفين كثيرا بالمقام العراقي، وكانت مدينتهم لا تخلو في لياليها من أفراح كثيرة، وقد اعتاد الموسرون منهم أن يحيوا حفلات ساهرة في بيوتهم تمتد كل ساعات الليل حتى الصباح يعزف فيها جوق الجالغي ويغني مغنون كثيرون هم على أصناف من حيث مرتبة فن المقام. وكان هؤلاء المغنون يكادون يشنفون أسماع أكثر سكان المدينة لصفوها وهدوئها، ومن هنا يقول الشيوخ، إن احمد زيدان مثلا كان يغني في جانب الرصافة فيسمعه أهل الكرخ، وكانوا يحسبون خطأ أن ذلك يعود إلى قوة صوته! ... وأعود إلى ليالي بغداد يومذاك فأكثر مسلميها كانوا يفضلون في أفراحهم وأعراسهم إقامة المواليد النبوية وهذه المواليد تحييها أجواق عديدة من منشدي التسابيح والحمد للخالق العظيم ونبيه الكريم، وكان يغشى هذه المواليد أناس كثيرون من غير دعوة فيعمرون صدورهم من الروحانيات فتزداد مروءاتهم وتخفق قلوبهم بحب الخالق وبمصافاة خلقه طرا، ويتناولون كل ما لذ طعمه وطاب شربه فيحمدون ويشكرون وأكثرهم يرددون في دخائل نفوسهم: "إن شكرتم لازيدنكم"، وتمتد السهرة حتى الفجر غير أن أناسها يمضون ساعات بعد منتصف الليل بعد اختتام قراءة قصة المولد الكريم بإقامة الذكر، والذكر أيضا فيه امتداح للخالق ولأنبيائه ورسله جميعا، ففيه يؤلف نفر من الحاضرين دائرة وهم وقوف ماسك احدهم بيد الأخر فيتحركون حركات منظمة رتيبة وكلهم بأصوات منسجمة منغمة يرددون: "لا أله إلا هو"، بينما يواصل ضاربو الدفوف نقر دفوفهم وفق تنغيم أهل الدائرة، وبين حين وأخر يغني احدهم مقاما بالاماديح النبوية فيتساوق تماما مع النقر والتنغيم ويكون في وسط الدائرة شاب وسيم الطلعة يغطي رأسه "بقاووغ" طويل منقوش بألوان زاهية ويرتدي "تنورة" فضفاضة من النسيج الحريري ويسمون هذا الغلام "ملوي"، يظل يدور بخفة كاللولب وسط الدائرة طيلة مدة الذكر فلا يتعب ولا يكل خلال ساعة أو أكثر وترى الناس من حول الدائرة سكارى وما هم بسكارى ولكن الخشوع الروحاني قد أغرقهم بفيضه المقدس فراح كل منهم يمدح ويسبح ويستغفر ويتضرع إليه تعالى أن يمد خلائقه بالخير والبركات والإيمان.
وفي وسط وهج هذا الجو الروحاني يرتفع صوت احد ضاربي الدفوف وكان صاحبه كالقمر وسط هالة من زملائه يغني مقاما بصوت عريض رخيم فيه بحة محببة، وكان أهل بغداد عامة يعرفون هذا الصوت وصاحبه فيطربون له أكثر مما يطربون لغيره وكل منهم يقول "الله يطول عمرك يا احمد شعبان". وكان هذا أكثر ما يغني من شعر التزهد لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم العباسي من ذلك مثلا في الذكرى الحسنة بعد الموت:
كـل حـي عند ميتته حظه من ماله الكفن
إن مال المرء ليس له منه إلا ذكره الحسن
في سـبيل الله أنفسنا كلـنا بالموت مرتهن
وكان أهل بغداد يحبون مغنيا أخر يهوديا هو واحمد شعبان في مستوى رفيع واحد عندهم من حيث أغانيهما الدينية والروحانية وهذا المغنى اليهودي هو "إفرايم بابايي"، بلغ الان من الكبر عتبا ويعيش في إسرائيل بعافية وصحة، أتمنى على الله أن يكون زميله احمد شعبان لا يزال حتى الان حيا معافى يرزق في بغداد.
وإفرايم هذا كان يرأس جوقا يغني أفراده تسابيح واماديح لله بكلمات عبرية شعرية من نظم الحاخامين البغداديين، وهذا الجوق يكاد يشبه احد أجواق قراء المولد النبوي عند المسلمين. ولا تدهش يا أخي القارئ حين أقول ذلك، أن تسابيح واماديح أغنيات بابايي وجوقه تكاد لا تخرج عن نطاق مثيلاتها الروحانية عند أجواق المواليد النبوية، وأكثر من ذلك أن سكان أي حي من إحياء بغداد المختلطة بسكانها تجد مسلميها فرحين مسرورين بليلة يحيى فيها جوق بابايي حفلة في احد بيوت يهودها وكان أكثر اليهود يفضلون - كالمسلمين- إقامة مثل هذه السهرات التسبيحية الروحانية على الجالغي. وكثيرا ما كان يدعى مسلمون ومسلمات من الجوار إلى حضور هذه السهرات فيحضرونها بشوق وفرح، ويقاسمون أهلها اليهود أطايب أطعمتهم على أساس "طعامهم حل لكم وطعامكم حل لهم" .
أما تلاحين أغنيات التسابيح والاماديح الروحانية فهي واحدة في النغم والأداء والمقاطع والقفلات عند المسلمين واليهود.
وجوق افرايم بابايي هذا كان مؤلفا برئاسته من طلاب ثانويات يهود من أصحاب الأصوات الرخيمة والحناجر القوية المرنة، أما صوته هو فكان "داووديا" كما يصفه أهل فن الغناء البغداديون، أي انه صوت فيه رخامة وفيه نبرة حلوة وقوية، وكان صاحبه يدرب أفراد جوقته على الغناء والأداء ويترجم لهم كل عبارة وعبارة من المنظومات الشعرية العبرية ومعانيها وما تتطلبه هذه المعاني من الأداء ليستقيم المعنى والنغمة، وكان أفراد أجواق قراء المواليد المسلمون يعجبون بوحدة أصوات افراد جوق بابايي، وأهل بغداد كما أسلفت، على اختلاف منازعهم ومذاهبهم، وكانوا يقدرون جوق بابايي فينصتون لتراتيله وتنغيماته كإنصاتهم لتراتيل وتنغيمات اجواق المواليد، وكانوا حين يذكرون احمد شعبان يقرنونه بافرايم بابايي فيطرون الاثنين معا، لان صوتهما كانا يجلجلان في أجواء بغداد أكثر لياليها والدعوات المتبادلة بين المسلمين واليهود إلى حضور الأفراح والأعراس عند الفريقين كانت تقليدا اجتماعيا يحرص عليه الكل، فعندما كان روبين رجوان احد مغنى المقام العراقي البارزين يشترك مع جوق الجالغي في سهرة ببيت احد المسلمين كان يحلو لهم الرجاء إليه أن يغني عند الفجر المقام الخَلـْوَتي بكلمات اعتاد مؤذنو جوامع بغداد في تمجيدهم بصحن المئذنة قبل صلاة الجمعة أن يقولها بنغم هذا المقام ومطلعها:
"سبحانك ما حمدناك حق حمدك، يا موجود"،
وكان الحاضرون يهللون للمغني رجوان ويشكرون على أدائه هذه الكلمات الروحانية كما يؤديها أي مؤذن، ولكن صوت رجوان كان أرخم وتمكنه من المقام كان يجلو هذا التمجيد للخالق جلاء نورانيا مقدسا."
إلى هنا ما رواه الاستاذ زعرور، وما زال يهود العراق الى اليوم ينشدون باللغة العربية في صلواتهم الصباحية بصوت رخيم الرباعيات التي مطلعها:
قوموا صلّوا الفجر بيّن أدي فرضك لا تـديّن
واليـقول القـبر هـيّن فـيه عقرب ثم حية
تُرَى هل تسري مثل هذه الذكريات الصافية في لا وعي اليهود العراقيين الى اليوم أبا عن جد، ويبقى الحنين؟ كنا في اجتماع تكريمي في يوم 30 آب من هذا العام، للأديب والصحفي باروخ مئيري لمناسبة صدور مجموعته القصصية "حب الرقي" (رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، 2011) يروي فيها باللغة العبرية حكايات طفولته وهجرته وعمله مراسلا ومديرا لمكتب جريدة "معاريب" في اورشليم-القدس, فإذا باحد الحاضرين البصراويين يقدم نفسه باسم فريد، يطلب إلقاء قصائد حنين الى مسقط رأسه. ومن يستطيع في مثل هذه الاجتماعات رد مثل هذا الطلب، وقف على المنصة وأنشد:
أيا دجلة والفرات ما للشوق يدفعني؟
ليته لربى بغداد والبصرة يرجعني
أذوب حنينا إليكم فهل الصبر يرحمني
أمْ ترى لا رجع للصدى، فليس من يسمعني
صفق له الحاضرون، سألت السيد موشيه هنجبي، المعلق للشؤون القانونية في صوت اسرائيل باللغة العبرية الذي شارك في الأمسية، كيف يفسر حنين اليهود الى العراق؟ وهل سمع بشأعر من يهود أوروبا ينشد شعر حنين الى اية دولة من دولها؟ فقال في حيرة مما سمع، بانه لايدري كيف يفسر هذا الحنين، ولم يسمع عن من كتب قصائد حنين الى دول أوروبية.
ولكن هذا الحنين يشوبه ألم لما يحدث في العراق اليوم وما جنته دول الجوار من شيعة وسنة على الفراتين الخالدين. واليوم لم تُجدِ دموع أمير الشعراء ولا دعاء الشاعر ابراهيم عوبديا قبل وفاته بأيام: "يا ربّ نجِ العراقَ من محنِه"، من تجنيب دجلة والفرات من العوادي، ولم تجد دموع الايتام والأرامل ومحبي العراق ومغتربيه في تجنيبه المصائبه، وتذكي نيران اللوعة في جوانحنا مآسي العراق المتتالية، منذ ان دخلت النظريات الغريبة وفلسفاتها فشوهت اخلاق الشرقيين بإثارة الاحقاد والكراهية والاطماع وانكار الآخر وتجريده من حقوقه الوطنية من مساواة وحرية وتسامح وديموقراطية، هذه النظريات القومية الشوفينية المتغطرسة كانت السبب في تشريد واعتقال وشنق خيرة الشباب العراقي.
واليوم أرهف السمع لعلي أسمع اصداء أغاني العراق في مقاهي شارع أبي نواس والرشيد وعلى مياه دجلة والفرات حين كانت الزوارق تتهادى بعشاقها وبالاصدقاء والعائلات السعيدة من سمار الليالي المقمرة والاسماك تمرح حولها في قفزات سرور ومرح وقوانيس الزوارق تعكس اشعتها المزغردة المهللة لأفارحهم على صفحات النهر الخالد، والندامى في سمرهم تحت قمر العراق الضاحك، ينطلقون بالأغاني عن ظلم الحبيب وجراحاته وآهات الغرام؟ فلا اسمع اليوم سوى دوي المفخخات وأنين الجرحى وبكاء الأرامل والأيتام، وقد صمت ايقاع نقر الدرابك في ليالي العراق المقمرة ايام طفولة السياب. كان ذلك في ايام عزّ العراق، واليوم يا عراق، حنيني إليك يكوي اضلعي ومصائبه حرائق في دمي، فقد أصبح العراق اليوم شماتة للاعادي، فتقطع عن دجلة والفرات المياه من الشرق فتاوى العمائم واللحى، ومن الشمال يقطعها وريث السلطان الأحمر الغاشم، الذي ما زالت البلاد العربية تعاني من آثاره، وما زالت ساحات دمشق تحمل اسماء الثوار العرب الذين شنقهم جمال باشا السفاح، وسفاح دمشق الجديد يقتل خيرة شبابها في شوارع سوريا التي تحمل اسماء شهداء العرب ضد العثمانيين، ونرى هذا الوريث يصبح أسدًا على شعبه وهو في الحروب نعامة. ولسان الحال يقول:
يا جراحاً وراء دجلة تدمى في دموعـي تجنبتـكِِ العوادي
تأتي قاعا قد كان بالامس روضا صار قـفـرا شماتةً للأعادي
قف، تمهل، وخد أماناً لقلبي من دموع الأيتام تحت السواد
شموئيل سامي موريه، 1 اكتوبر، 2011
كتبت لتنشر في جريدة إيلاف الغراء، جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
ذكريات عراقية، سلسلة جديدة يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (3) - أ. د. شموئيل (سامي) موريه
13/06/2011 - 00:19:45 حقوق الإنسان
ذكريات عراقية، سلسلة جديدة يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (2) مقدمة: التدمير الذاتي في العراق - أ. د. شموئيل (سامي) موريه