أ. د. شموئيل موريه
لم تبق لي كتابة ذكرياتي وقراءة تعليقات القراء الكرام وقتا للتفرغ لأبحاثي التاريخية، ولكي أتخلص من ذكرياتي عن العراق، قلت لزوجتي: والله يجب أن أغادر دارنا هذه التي يذكرني كل شيء فيها بالعراق، صور الوالدين الراحلين من العراق وهما في مرحلة الخطوبة والزواج وولادة الاطفال، وصورنا في البتاويين وقد وقفنا مع الوالدين في الحديقة حسب سني ولادتنا قرب شجرة التوت الأنثى التي كانت تضيف هيبة لحديقتنا وإن لم تكن مثل هيبة فحل التوث، والشادروان السداسي الشكل قربها الذي تتكرر صورته في كل الصور التي يرسمها أخي مراد في باريس والتي اصبحت جزءا من الحنين الغير واعي لوجداننا وشوقنا لبغداد. وحين أجرى معه أحد الصحفيين مقابلة عن فنه ولاحظ تكرار صورة النافورة في الحدائق التي يرسمها، قال له مراد: "هذه نافورة حديقتنا في البتاويين، إن دجلة والفرات يجريان في دمي منذ الفين وخمسمائة سنة، فاين يمضي هارب من دمه". دهش الصحفي لهذا القول من فنان ترك مسقط رأسه قبل أكثر من خمسين عاما وهو يعيش في مدينة الانوار والفن والحرية.
قلت لزوجتي، خلص، بس الى هنا حد اصطباري، سأسافر الى جامعة بوخوم بألمانيا لكي أتفرغ الاتمام ابحاثي، وهناك سيغرقني الأستاذ رايخموث مدير المعهد الشرقي بأكداس من الكتب لا توجد عندنا في الجامعة العبرية تنسيني ذكرياتي التي تبكي قرائي والتي تثيرها مكالمات العائلة والأصدقاء الهاتفية باللغة العربية، وتثيره لوحة شارع نهر الفرات كلما غادرت دارنا وتثيرها النخلة التي نمت في وسط حديقتنا تزهو كالشاب المدلل، فإذا داعبها النسيم بدت كأنها تدعوني الى مشاركتها حنينها الي والدي، فقد شعرتُ بأنها صارت تحن الى هدوات والدي الراحلين حين كانا يزوراننا ويناغيانها بأغانيهما العراقية المحببة بعد أن أصبحت عندهم كسدرة المنتهى وكعبة ذكريات شبابهما في العراق وماضيهما الراحل، ولاسـيما الأغنية التي كانا يغنيان لها في صغرها، هدوات تقطع نياط قلبي، كأنها هدوات طفولتنا التي تجسمت في هذه النخلة المدللة. ولما كبرت النخلة بعد عشر سنين، صاروا يغنون لها:
فوك النخل فوك، يابا فوك النخل فوك، ما ادري لمع خدّه مادري الكمر فوك
وعندما يمر النسيم العليل تبدو سعفات النخلة كأنها تتجاوب مع ألحان الحنين هذه، وترقص على ايقاع هذه الأغنية التي أصبحت عند يهود العراق في إسرائيل النشيد الوطني العراقي الذي يختتمون به كل حفلة وكل اجتماع، ثم يستدركون، "والله ما اريده، باليني ابلوه!" هل هو حبهم للعراق اللي باليهم أبلوه؟ أم الشوق اليه هو البلوى؟ وتحيرني لازمات عديدة في الشعر العراقي يناغون فيها الحبيب ثم يرفضونه بقولهم "والله ماريده". كما في أغنية :
جلجل علي يالرمان، نومي فزعلي، هذا الحلو، ما اريده ياب، ودوني لهلي!
فالعراقيون يرفضون كل حلو وكل غالي، ومن هو هذا الحلو؟ هل هو العراق؟ فاستدرك وأقول لنفسي: لعل السبب هو أن العراق مثل كل محبوب مدلل يبلي ببلواه كل من يحبه! فهو كالغانية التي تقتل عشاقها، وترسلهم "طشار، تحت كل نجم ال بالسما"، كما قالت احدى المعلقات الحصيفات على فصل من فصول مذكراتي هذه.
ويقول العالمون باسرار الغناء العراقي إن النومي (الليمون) هو رمز الإمبراطورية البريطانية التي ساندت الهاشميين في حربهم ضد الأمراطورية العمانية، والتي كان ملاحوها الجبابرة الذين أنشئوا الإمبراطورية التي كانت الشمس لا تغرب فوقها، يزرعون النومي على سفنهم لكي يتلافوا نقص فيتامين سي في غذائهم ويمنع عنهم بعض الأمراض الجلدية، وإن الرمان هو الإمبراطورية العثمانية التي " ناءت بكلكلها " على صدور أحرار العرب كما ناء الليل الطويل بكلكله على صدر أمير الشعراء الجاهليين امرئ القيس حامل راية الشعراء إلي جهنم لفسقه بنساء العرب في الجاهلية، وإجباره ابنة عمه عنيزة على الخروج اليه عارية، بعد أن فاجأها تسبح مع زميلاتها في الغدير، فجلس على ثيابهن ولم يرض بردها لهن حتى يقمن بعرض " سترب تيز بلاش " خاص به وإجبارهن على الإقبال والادبار أمامه وهو يتمتع بالنظر الى جمال قوامهن الممشوق العاري وهن بين ضحك خجول ودموع الغيظ المتساقطة كالآلي على تفاح خدودهن، لتسقيه بماء اللهب، أو يغزو خدر حبيبته حتى يكاد يعقر بعيرها، فتطلب منه أن ينـزل عنه غير مطرود.
أما تعليقات قراء "إيلاف" على الفصل 23، ليوم 18 يوليو، 2007، فـقد أحزنـتني. فأربعة قراء، من بين 33 قارئا اعترفوا بان ما أكتبه " أبكاهم "، وفي يوم 25 يوليو، صبت قارئة الزيت على النار حين عاتبني الدكتورة عائشة حسين من جنيف متسائلة: من أباح لك قتلي؟ وتتهمني بأني أدميت قلبها وأدمعت عينيها. ألا تعلمين يا أختي لماذا؟ لأننا شريكان في حب العراق، وإني لأطلب من الله، يا ناعسة الطرف، ألا تذوقي مثلي هوى العراق العذري ابدا، فقد أسهر مضناه في حفظ الهوى، أما انت فكفكفي دموعك ودعيني وذكرياتي وشجوني، آني وحدي أتغاصل وياها!". وقلت لنفسي، " هاي كل يوم حوالي ماية عزا في العراق للأعزاء الذين يسقطون من جراء السيارات المفخخة والانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم بين المصلين والذاهبين إلى أعمالهم والى الأسواق من اطفال ونساء وشيوخ وشباب في عمر الزهرات اليانعة، يرسلونهم الى جنان الخلد بقصف العمر، شهداء تمسكهم بتراب العراق، فقد جربناها هنا عندنا في القدس. والعجيب أنهم يقولون إن الانتحاري المسلم هو شهيد، له الخلود في جنات النعيم مع الحور العين، زين هذوله الأطفال المسلمين الأبرياء ألم يسقطوا شهداء، فأين سيكون مقامهم، أليس في جنات النعيم؟ ولكن لماذا تستعجلون إرسالهم إلى هناك ولا تدعوهم يتمتعون بخيرات العراق؟ وتملكني تأنيب الضمير وأسأل نفسي، اليس يعدّ بكاء قراء ذكرياتي هذه ذرا للملح على الجراح؟ ومن أباح لي قلوبهم ودموعهم؟ أو كما لمح أحد المتخصصين بالحروب النفسية في تعليقه الحصيف على مذكراتي بأن كتاباتي " تنوم القراء العرب تنويما مغناطيسيا وتجعلهم يؤمنون بكل الصلوخ الأشكها!"، يا سلام على مثل هذا التحليل الذكي، هاي وين وبأي سرداب من سراديب قصر النهاية اتعلمته يابا؟ ثم أقول للنفس: ألا يوجد في ذكرياتك يا ترى ما يسلي الحزين ويمسح الدموع، لماذا لا تفعل كما كان يفعل الوالد في الحرب العالمية الثانية عندما "كانوا يشغلون الراديو على الاخبار"، فيقول لهم: "خاطر الله شغلوه على موسيقى ودك وغنا، يعني سماع هل أخبار المزعجة راح اتحل المشاكل، يعني ماكو غيرها؟، كل يوم وليل ما نسمع الا اندحار الحلفاء على جميع الجبهات، قابل احنه راح انصد الزحف، حطّونا نسمع غنا شويه يشيل الهم مال هل دنيا، الله كريم لذاك الوكت وبلكت الله يفرجها قبل ما يوصل الغراب للعلمين". وقلت لنفسي: " بس تكتب عاد على الفرهود وعلى العراك والمغثات مال العركاويين بالعراق، ألا يوجد في جعبة ذكرياتك ما لا يبكي القراء؟"
والله أكو، ليش ماكو؟ فقد كانت لنا أفراح وأعراس وأعياد ذكرها المرحوم ملا عبود الكرخي في شعره الشعبي الرائع الذي لـمّـعـه باللهجة اليهودية البغدادية والكلمات العبرية التي كانت متداولة آنذاك حتي في لهجة المسلمين في قصائده التي داعب بها أصدقاءه اليهود من أمثال أنور شاؤل وعضو البرلمان العراقي السابق سلمان شينه المحامي "صاحب مجلة المصباح" الذي كان مترجما ومرافقا للجنرال الألماني بيكر قائد القوات الجوية الألمانية المساندة للجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، وصديق الكرخي شاهين وغيرهم. وكان لنا أصدقاء مخلصون من كل ملة ودين نشاركهم السراء والضراء والليالي الملاح في الجزرة وبستان مامو وشواطئ الصليخ والمعظم، ونغني لدجلة :
"على شواطي دجلة مر، يا منيتي وقت العصر" ولمائه الدهلة، لما يوصل للحلة، ونشارك الحمامة التي كانت تفتش عن أختها، باكية: وين أختي؟ (ولكن يا حمامة! قولي لي بربك هل بقي لك أخوات وأحباب في العراق لو كلهم تشردوا طشار من هاي المتفجرات والحقد والثارات؟) وفي هذه الأماكن كنا نصيف عندما كنا صغار قبل انتقالنا للبتاويين. وهذا هو السر في حنين يهود العراق الى أيام زمان ورثائهم لما يجري اليوم فيه، وغنائهم : "بغداد أنت منايا، بغداد أنت هنايا!" وتنهمر الدموع. غنت هذه الأغنية في تلفزيون اسرائيل يهودية عراقية مهجرة عندما سأل المذيع بعض العراقيين في إسرائيل عما إذا كانوا يرغبون في التصويت للبرلمان العراقي كما فعل بعض اليهود القاطنين في الغرب، وسأل امرأة إذا كانت تريد الحصول على جواز سفر عراقي، فمنتظرا منها أن تسب العراق وأهل العراق، كما فعل الحجاج بن يوسف الثقفي اللئيم في خطبته في مسجد الكوفة، فما كان منها إلا أن غنت للمذيع باللغة العربية وأمام كل المشاهدين الذين يفهمون العربية أو لا يفهمونها: "بغداد أنت منايا، بغداد أنت هنايا، ترعرعت فيك فكيف أنساك، بغداد، بغداد ! "، فوجم المذيع. هؤلاء الذين شردوا من ديارهم ووجدوا ملجأهم في اسرائيل يغنون لبغداد والدموع تنهمر من عيونهم بعد أكثر من خمسين سنة، وتحير المشاهدون من هذا الحب وهذا الولاء، كأنهم تركوا العراق البارحة بالرغم من أنهم صاروا يسكنون الفيلات وأصبحوا من الأغنياء بل من أصحاب الملايين، وبالرغم من سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى في العراق كل يوم. والله غريب أمر العراق هذا، اشكد ما تحبه، اشكد ما يتبغدد عليك، هل المدلل والغالي الساكن في شغاف القلوب!.
بوخوم، ألمانيا، في 21/7/ 2007
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة أيلاف،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشره هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وأذن خطي من المؤلف،
أ.د. شموئيل (سامي) موريه