يهود العراق، ذكريات وشجون (29) عودة الحنين إلى العراق
السبت 17 نوفمبر / تشرين الثاني 2007 - 09:10:14
أ. د. شموئيل موريه
أواصل نشر هذه الذكريات لمناسبة مرور عام على بدء نشرها في مجلة إيلاف الغراء
تقول الأغنية العراقية الشعبية "واللي على الكصة (الجبين) انكتب، لازم تشوفه العين". هربت من دارنا التي تذكرني بالعراق إلى ألمانيا فإذا بي "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، يعني مختصر مفيد باللهجة العراقية التى أهواها ولا أهوى سواها: " يا ام حسين، كنا أبوحده صرنا باثنين". كنت جالسا في مكتبي في معهد العلوم الشرقية في جامعة بوخوم فإذا بجرس التلفون يرن وصوت فيه لكنة عراقية محببة "كاظم حبيب يتكلم من برلين! أشلونك يابا؟ أنت مدعو إلى زيارتنا لإلقاء كلمة عن ذكرياتك التي تنشرها في <مجلة إيلاف> بدعوة من نادي الرافدين في برلين". تذكرت فجأة "نادي الرافدين" الذي أسسته نخبة من الشباب اليهودي المثقف قرب دارنا في بغداد، وبعد حرب 1948 صادرته الحكومة العراقية لكي يستخدم معسكرا للاجئين الفلسطينيين الذين قدموا إلى بغداد ليستبدلونهم بيهود العراق كما قيل آنذاك، "وواحدة بواحدة يا سيدي الثعلب"، كما تقول الحكاية الشعبية. (وسنعود فيما بعد إلى هؤلاء اللاجئين في حلقاتنا القادمة بإذنه تعالى). لم أرغب في لقاء مثقفين عراقيين بعد أن اكتويت بنار المقابلة التي أجراها معي الأستاذ المحامي سمير حاج بمبادرة الأديب عبد القادر الجنابي محرر مجلة إيلاف والتي "وهدنتني" (أغرتني) وما أزال أعاني من مضاعفاتها إلى اليوم بكتابة هذه السلسلة من الذكريات التي استحلفني فيها بعض القراء بمحرجات الأيمان أن أواصل كتابتها. وهل يوجد قسما أحرج من أن تستحلفني قارئة من أمستردام في هولندا تسترت وراء اسم "عراقية"، ظمأى إلى ذكريات العراق وأضناها الحنين إليه فكتبت بحرارة: "أرجوك واستحلفك بمعزة العراق لديك، لا تقطعها فأنا أنتظرها على أحرّ من الجمر!" (إيلاف، 2007-08-17)، وتناشدني أن أستمر في كتابة ذكرياتي. "شوفوا بشلون داخل وطالع" أو كما كان التجار من يهود العراق يقولون: "بأشـْـلون إيراد ومصرف، دخلتنا هل حرمه"، عاشقة العراق؟ وكيف أبرئ ذمتي من هذه الأيمان المحرجة؟ "وفوكها جا الأستاذ حبيب" يغرينا بمثل هذا العرض الذي كان فوق آمالي وأحلامي في لقاء الأخوة العراقيين، وأين؟ في برلين! أويا معوّد، بشلون ورطة تريد أتورطنا؟ فنحن اليهود لنا حساب عسير مع هذه المدينة التي دفعت غيرة النازيين عليها خشية أن تتهود، لإحراق اليهود وإحراقها وإحراق المانيا النازية، ولم تـُجْـدِ توبة ألمانيا بعد سقوط النازية واعتذاراتها وتعويضاتها وتوددها لإزالة الأذى الذي ألحق بيهود ألمانيا وأوروبا خاصة وبيهود العالم عامة عن مقاطعة بعض اليهود لها. كانوا في إسرائيل يستنكرون حتى على من يشتري سيارة فولكسواكن الألمانية، وعلى من يسافر إلى ألمانيا أو على من يوافق على الحصول على منحة دراسية هناك. ولا أنكر أنني في زياراتي الأولى لألمانيا كنت أشعر بضيق وبشعور بالذنب، وكان سماع صفارات سيارات الشرطة يثير في جسدي رعشة تقزز، فهي تحمل نفس نعيب صفارات الجستابو في ألافلام التي تروي أحدات تلك الفترة السوداء في أوربا عندما كانوا يلقون القبض على اليهود ويرسلوهم إلى معسكرات الإبادة. ولحسن حظي أنني عندما سافرت إلى جامعة بون لإنجاز بعض الأبحاث العلمية مع أ.د. استيفان ويلد رئيس معهد الدراسات الشرقية فيها سابقا، وتعرفت على أخلاقه النبيلة التي جمعت بين فضائل "الجنتلمان" الأوروبي وخصال "السيد" العربي الشهم، والصداقة الحميمة بين عقيلته الكريمة وزوجتي، مما ساعد على تخلصي السريع من تلك المشاعر التي زرعتها في نفسه الآراء المسبقة الاعتباطية. وقد تعلمت من صديقي استيفان درسا رائعا في التعاون العلمي والثقافي بين رجال العلم والباحثين الموضوعيين، إذ لم يأل جهدا في تزويدي بجميع المخطوطات والكتب والمقالات التي احتجت إليها (ومع الأسف الشديد، فإن تجاربي في هذا المضمار مع مدراء مكتبات أخرى لا أريد ذكر اسمها، كانت مريرة، وعندما طبقت طريقته في مدّ يد المساعدة في المضمار العلمي إلى بعض "الأصدقاء" كان جزائي منهم جزاء سنمّار (كما يقول المثل الجاهلي)، كما أدركت أن الإنسان يجب أن يقاس بماهيته لا بالقومية أو الدين أو العرق الذي ينتمي إليه، فهذه آراء عنصرية يزرعها المتعصبون للاصطياد بالماء العكر، كما أدركت أن الحكومات الديمقراطية القويمة التي توالت على ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، والثقافة المنفتحة على الشعوب الأخرى المبنية على التسامح والمساواة والحرية والتعاون بين الشعوب، باستطاعتها أن تنشئ جيلا جديدا من المثقفين بل من الشعوب الذين تستطيع الدول أن تفتخر بهم وبالمستوى الإنساني الرفيع الذي بلغوه. وهذا ما نأمل أن تقوم به حكومات العراق الحديث.
وفي طفولتي في العراق كنت اسمع بجودة الصناعات الألمانية و دقتها مقابل رخص ورداءة الصناعات اليابانية. تحطمت عجلة دراجتي الصغيرة ذات "التلث اجروخ" (ثلاث عجلات) لوعورة شارعنا قبل تبليطه. طلبت من الوالد شراء عجلة جديدة، ألمانية الصنع لا يابانية. قال الوالد: "على عيني وعلى راسي، العصر أجيب لك جرخ (عجلة) جديد". كررت: "أغيدو ألماني ما جباني (أريده أن يكون من صنع ألمانيا لا اليابان)"، ردّ بثقة: "من عيني، ما يخالف". وفي المساء فتحت "اللفة" بلهفة وفحصت الجرخ، ثم رميته وأنا أصرخ بزعل: "هذا جباني (ياباني) بالعجل يتجرقع (يعطب بسرعة)، أغيد ألماني!". ضحك الوالد وهو يقول لأمي: "والله ما يمشي علينو قرش قلب" (لا يمكن غشه)، ما يخالف غدا أبدلو أبألماني!".
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية سمعنا بالكارثة التي حلت بيهود أوروبا وبمعسكرات الاعتقال والإبادة، وأعلنت الطائفة الإسرائيلية (كما كانت تسمى سابقا) في العراق، الحداد وفرشت المقاعد في الكنس بالقماش الأسود، وتليت الصلوات على أرواح الشهداء، وكان خالي داوود ساسون من بين يهود العراق الذين هالتهم الكارثة وشاركوا في الصلوات وكان يأخذنا معه الى كنيس مئير طويق للصلاة معه وتلاوة الصلوات على أرواح الشهداء المعذبين، أما خالي صالح صيون فكان قد فتح دار العائلة في محلة حنون صغير لاستضافة الجنود اليهود البولنديين وغيرهم من جيش اندرس في أيام السبت والأعياد في عام 1942. وتردد اسم هتلر وأعوانه بإعجاب وإكبار، وأطلقت بعض العائلات المسلمة على أبنائها أسماء هتلر وقادته، ورسمت علامة الصليب المعقوف وشعارات نازية مهينة أخرى على جدران المدارس والأماكن العامة. وعَرَضَ عليّ أبن جارنا التاجر مهدي طعيمة الذي كان يسكن قبالة دارنا بالبتاويين، صحبته للعب الورق مع الطيارين الألمان الأسرى وتزويدهم بالحلويات، فرفضت. وبعد الحرب العالمية الثانية عرضت حطام الطائرات الحربية للبيع، فكان الذي يريد شراء بعض الأدوات الكهربائية من آلات الطائرات يأتي بمفك وكلابتين ومفاتيح البراغي ويخلع ما يحلو له ويدفع مقابلها، بعد المساومة، مبلغا زهيدا. تمكن أحد العمال الميكانيكيين من فتح غطاء لمحرك طائرة "مسرشميت" الألمانية. دفع عجلة مسننة في المحرك، فإذا بعشرات العجلات المغمورة بزيت التشحيم تدور بسرعة فائقة لتحريك لولب "البروانة" (مروحة الطائرة). نادي الميكانيكي العراقي على الحاضرين، "والكم تعالوا شوفو شغل الجرمن!" وأعاد تشغيل العجلات بدفعة خفيفة من إصبعه. أعجب الحاضرون بعمل المحرك، وصفق أحدهم بيديه متعجبا من الصناعة الألمانية المحكمة وكل ما استطاع قوله في معمعة صراع الحضارات والدول الاستعمارية والمستعمرة والصناعات والثقافات والقوميات هو: "خرب دينك جرمني، هذا اشلون شغل يخبل؟". وكان المرحوم شفيق عدس قد اتهم ظلما ببيع مخلفات الجيش البريطاني إلى الصهيونيين في إسرائيل وقـُدّم وحده للمحاكمة بالرغم من وجود شركاء له من المسلمين. ونصحه أصدقاؤه بالهروب الى ايران ولكنه اعتمد على صداقته للوصي ورجال الحكومة ومؤمنا ببراءته ونزاهة المحاكم العراقية. ولكن الشعب والجيش والحكومة كانت يريد كبش فداء لاندحار العرب في حرب 1948 أو ما يسميه الإسرائيليون بحرب التحرير، وشنق شفيق عدس أمام قصره بالبصرة، ودعي الشعب واللاجئون الفلسطينيون للاحتفال بهذا النصر العظيم انتقاما وتشفيا ولتصفية أمواله، وساد يهود العراق جو من الإرهاب والخوف من المستقبل وفهموا أن الإرهاب موجه ضدهم. كان جارنا دودي من عائلة عـَـكـّا قد توفي في ذلك الأسبوع الأسود من شنق شفيق عدس المغدور، من التهاب المفاصل الذي امتد إلى قلبه إذ كان مولعا بالخوض في نزيز مياه سردابهم أيام فيضانات دجلة، ووضع أخوه الكبير حول ذراعه شارة سوداء حزنا عليه. مر به جندي وناداه: "ولك كواد، أشو تعال جاي، إنت مبيّن حزنان على الجاسوس الصهيوني الخائن عدس المشنوق؟" ومزق الشارة السوداء وانهال عليه صفعا وركلا وابن عكا يصرخ "والله قبل أسبوع أخويا داوود مات بالمستشفى واليوم اطلعنا من السبعة!" وعندما سمعت نساء الحي بما حدث ولولن وقلن: "الخايب ابن عكا على بختو الأسود! هم موت وهم احسيب؟ وفوق حقو دقو! (فوق إنكار حقه اضربه) أشلون ظلم أسود ومصبوغ عليهم" ومن يسمع ومن يقرأ.
أفكار وذكريات مريرة مرت بذاكرتي في لحظة التي كنا نتكلم، لا أدري كيف أدرك الأستاذ كاظم حبيب بأنني أتردد في زيارة برلين، ولكن الأستاذ الذي يفهم الأمور "وهي طايره" أردف، "سنأخذك لزيارة المتحف الذي نقلت إليه آثار العراق وبوابة بابل، والنصب التذكاري للضحايا اليهود في أوروبا، والمتحف اليهودي، فضميرهم يؤنبهم ويحاولون تصحيح الماضي هنا!". شكوت همومي لصديقي الأستاذ استيفان رايخموث رئيس المعهد الشرقي، تأملت أن يساعدني في محنتي النفسية وكدت أن أقول له "تعال عمي شـيّـلني!"، فإذا به يزيد الطين بلة: "أنا مسافر في الأسبوع القادم مع زوجتي الطبيبة إلى برلين لنشبع هوايتها في مراقبة الطيور المهاجرة وإحصائها. سنأخذك معنا إلى دار الأستاذ كاظم حبيب وسآتي لأستمع إلى محاضرتك في النادي مع الأستاذ وارنر أنده من جامعة برلين!" من يستطع مقاومة مثل هذا الإغراء؟ فوجود سائقة متمرسة وطبيبة ماهرة في مثل هذه السفرة الطويلة التي يحتاج إليها المسافر في مثل سني لو أصابتني وعكة أو إذا ما وقعت حادثة طرق لا سمح الله ؟ قلت: "هاي كلها من الله"، وتوكلت على الله وسافرت معهما.
كنت خلال مكوثي في برلين في شقة آل حبيب مغمورا بكرم حاتمي عراقي أصيل كان قد غمر قبلي الكثير من كبار الشعراء والأدباء العراقيين وعلى رأسهم محمد مهدي الجواهري، فلماذا لا أنضم إلى قائمة هذه الزمرة من الخالدين الذين كانوا في ضيافته؟ بلغنا الدار التي تقع فيها شقة عائلة حبيب، وهي شقة مؤجرة ومؤثثة على أحدث طراز، ومجهزة بآخر ما استحدث من مبتكرات الحاسوب والأنترنت برعاية صديق مخلص وعقيلته الألمانية أم سامر ذات الذوق الرفيع في ترتيب الشقة، فهي زوجة ولا ككل الزوجات، فقد عُـرِفَتْ في العراق "بليلى المناضلة"، إذ بقيت صامدة إلى جانب زوجها المناضل أيام زج في مبنى جهاز الأمن الصدامي ببغداد ثم عذب حتى أفرج عنه. وهي تحسن طهي أفخر المأكولات العراقية من غداء وعشاء وتقيم وليمة للضيوف العراقيين الذين دعاهم مضيفنا الأستاذ الكبير مؤرخ مصائب العراق وحامي أقلياتها في العصر الحديث. وحول المائدة التي جلس حولها د. علي اسماعيل والمهندس صبيح الحمداني والأستاذ ناصر السماوي، قال السيد الحمداني وهو ينظر اليّ: "والله آني كنت أتصور الدكتور الضيف من قراءة مذكراته شايب تلفان، أشو طلع لي شاب ما شاء الله!" قلت له: "هذا من فضل ربي!".
وفي منزل آل حبيب شعرت بدفء العراق تحت لحاف قطن التيتي بمبا، بدل الشرشف الخفيف في فنادق هيلتون وشرتون في أوروبا والتي لا تقي من مكيفات الهواء الخانقة، وشربت استكان الجاي المخدر بدلا من أكياس الشاي المنقوعة بماء فاتر مثل "ماي السماطه"، وتمتعت بحمام دافئ مستخدما الليفة العراقية المدغدغة للجلد بدل ليف النايلون الذي يخدش كمخالب القط الوحشي أو إسفنج البلاستيك الذي لا ينفع ولا يدفع، وشعرت بأني في نعيم طفولتي في العراق، وشكرت مزيل نقم التصنيع ومعيد نعم الطبيعة.
كانت الدعوات موجهة إلى خيرة المثقفين العراقيين المغتربين في برلين، ولماذا؟ للقاء اليهودي العراقي "الجاي من اسرائيل"، الدولة التي كان اسمها يرعب كل مثقف عربي، فيتعوذ ويحوقل كما يفعل حتى الآن المثقفون في الأردن ومصر وخاصة عند سماعهم لكلمة "تطبيع". ولكن المثقفين من اليسار العربي المغترب أدركوا خطورة لعبة القومجية والمتدينين المتشددين، وتسامحوا وتصالحوا. وقد روى لي الأستاذ كاظم كيف أنه عند اجتماع عقد مع الرئيس السابق صدام حسين وكان قد جلس بجواره على "القنفة" في ندوة في جمعية الاقتصاديين في بغداد، لاحظ أن مسدس الرئيس قد تدحرج إلى جانبه، فما كان من الأستاذ كاظم حبيب إلا أن نبه الرئيس الى سقوط المسدس وناوله إياه ممسكا بالمسدس من ماسورته وليس من قبضته، فلما همّ الحارس الشخصي بالهجوم على حبيب خوفا من مؤامرة اغتيال، أوقفه الرئيس صدام حسين بقوله: "لا، ما يخالف! أنت ما شايف شلون لزم المسدس؟"، وهكذا مرت هذه الحادثة بسلام للباقة الأستاذ في تصرفه في تلك اللحظة الحرجة. وعندما لاحظ الرئيس السابق أن المصور التلفزيوني يركز عدسته على المحاضر، وكان المحاضر هو الدكتور فخري قدوري رئيس مكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة , أوعز إلى مساعده أن توجه الكاميرا إلى سيادته , إذ قال بالحرف الواحد "قل لهذا ابن القحبة أن يوجه الكاميرا عليّ وبس". فشخصية الرئيس وصورته هي التي يجب أن تطغى على الجميع في هذا المجتمع والحكم الذي يكون الزعيم فيه بمثابة "ظل الله على الأرض" وإن كان الحكم فيه بعثيا شعاره "وحدة ,حرية, اشتراكية".
وفي برلين التقيت بكبار المثقفين العراقيين في دار عائلة حبيب وفي نادي الرافدين، وشعرت بأني محاط بإخوتي الذين غابوا عني عشرات السنين. خرجنا لنقوم بـ"ـفرة" حتى يلتئم جمع المدعوين، لأن العراقيين ما زالوا يعتبرون أن الساعة المعينة لابتداء المحاضرة هي اقتراح وتوصية لا غير، والباقي هو "بعونه تعالى"، وما ان ابتعدنا قليلا حتى جاء من يخبرنا أن الأستاذين رايخموث وأنده قد حضرا في الموعد، فبادرنا إلى العودة للترحيب بالضيفين الكريمين.
افتتح الأمسية الدكتور علي اسماعيل رئيس النادي مرحبا بالمحاضر والضيوف، ثم تلاه أ.د. كاظم حبيب، فقدمني للحاضرين ونوه بسلسلة ذكرياتي عن يهود العراق التي تنشرها مجلة "إيلاف" الغراء، وبمؤلفاتي في الأدب والحضارة العربية التي رشحتني لجائزة إسرائيل في علوم الشرق العربي والإسلامي. كانت جميع الوجوه عراقية معروفة، مغروسة في ذاكرتي ووجداني وشبيهة بوجوه العراقيين في إسرائيل المتميزة بسمرتها وإن غابت اليوم الشوارب التي أتوا بها في هجرتهم عام 1951. الوجوه الغراء التي ربطت ذاكرتي بالماضي مشرقة متحفزة، مشبعة بالمودة والشوق لسماع ماذا سيقول هذا الذي تغرب عنهم وهاجر إلى الدولة التي كان آباؤهم يذكرونها بالمزعومة. قلت مجيبا على السؤال الحائر المرسوم على وجوههم، إن السبب الذي حدا بي إلى نشر ذكرياتي هو الشوق إلى عراق أيام زمان، والأسى لما يحدث فيه اليوم، واني أحاول تدوين اللهجتين العراقية: المسلمة التي تتغير باستمرار، واليهودية المنسية، وذلك لخشيتي على اللهجة اليهودية السائرة بخطى حثيثة نحو الاندثار، ولا أظن أن معاهد العراق العلمية ستقوم بتدوينها وتحليلها كما نفعل اليوم في إسرائيل <وعلى رأس هؤلاء كان يقف الدكتور حاييم بلانك (من الجامعة العبرية) الذي كان أول من ميّز بين اللهجة الإسلامية (لهجة كِـلِـتْ) ولهجة يهود العراق وغيرهم (لهجة قـِلـْـتـُو)، والاستاذ يعقوب منصور (من جامعة حيفا)، ومستشرقون ألمان من أمثال البرفيسور أوتو ياسترو والبروفيسور وارنر أرنولد، أما في أمريكا وأوربا فتدرس اللهجة العراقية الإسلامية لأغراض سياسية وعسكرية >، فالعراق "مشغول "بالبلاوي" الدينية والمذهبية والسياسية والحروب الداخلية الطاحنة. فأنا أرمي من وراء نشري لذكرياتي أن أكون شاهد عيان على فترة حرجة في تاريخ العراق أدونها من وجهة نظري ومن تجاربي الشخصية الخاصة. نظرت الى الحاضرين وقلت في نفسي، كل عراقي هنا له ذكرياته الخاصة وتشرده في الغـُرُب وشوقه إلى الأهل والأصدقاء، ومعاناته في بلاد يحاول التعرف على لغتها ومجتمعها وحاضرها والتعايش مع ظروفها الاجتماعية والاقتصادية، ولا بدّ أن تجاربهم تشبه تجاربنا وشعورهم هو نفس ما شعرنا به نحن قبل أكثر من خمسين سنة بعد هجرتنا الى إسرائيل. ولكن شتان بيننا، كان لمعظمنا شعور بأننا "نعود" ولهم شعور بأنهم "بانتظار العودة" وقد شردهم حكام من أبناء وطنهم ودينهم ظلما وتعسفا. سألوني: "هل سيعود اليهود العراقيون الى مسقط رأسهم إذا حل السلام والوفاق الوطني في العراق؟" قلت: "الأبناء لا يحسنون العربية وليس لهم من العراق سوى ما رواه شوق أو سخط آبائهم، ولكن التاجر يرى في البلاد التي تدر الربح بلاده، أما إذا فتحت أبواب الزيارة فسوف لا يبق يهودي عراقي لا يزورها بسبب الحنين الى الديار وزيارة قبور أنبياء إسرائيل وأغلبهم مدفون فيها".
قرأت لهم قصيدة "الرحيل" التي تتحدث عن رحيل أمي وشوقها إلى العراق واستحالة زيارة الديار وقبور الأجداد والأنبياء في وقت "ينحر فيه عراقنا الحبيب من الوريد إلى الوريد، وبقتل المسلم أخاه". أنهيت حديثي بقولي إن ما دفعني الى كتابة ذكرياتي وإلى المجيء للقائهم هي استجابتي لأبيات إنسانية خالدة في الأدب العربي، أجد صداها في نفسي دائما، وأولها:
نـقـل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منـزل في الأرض يقطنه الفتى وحـنـينـه أبـدا لأول منزل
والثانية:
بلادي وإن جارت عـليّ عزيزة وأهلي وإن شحوا عليّ كرام
وهذا سرّ الحنين إليها،
والثالثة لأبي فراس الحمداني:
بَدوْتُ وأهـلي حاضرون فإنني أرى أنّ دارا لستُ من أهلها قفرُ
وأنني اليوم أشعر أنني بين أهلي وفي داري. ولقد كان والدي يحب العتابا التالية:
أنا ويـّاك بالكاس شربنا وطول الليل ما يخلص عتبنا
وهذا عتابي لكم يا أخوتي لتصفية الأجواء بيننا.
طلب إلي الأستاذ كاظم حبيب أن أروي للحاضرين كيف كنا في العراق نميز بين الطبقات الاجتماعية. فعندما كان العراقي يقول في ذهابه: "افليمان الله"، كنا نعلم أنه ينتمي إلى طبقات الشعب الكادحة وخاصة من معتمري الجراوية، أما إذا قال: "في أمان الله"، فقد كنا نعلم أنه من طبقة الموظفين الخايفين الله والحكومة، ولكنه إذا ودّع بقوله: "في الأمان!"، فإننا كنا نعلم بأنه من الشيوعيين واليساريين الذين يرون "أن الأديان هي أفيون الشعوب".
وبعد التصفيق الحاد وتقديم باقة من الورود الجميلة، تناول الحاضرون "صحن الباجلا" (الباقلاء) العراقي المحبب المتبل بالبطنج، مما أعاد إلى ذاكرتي نواح الفخاتي في العراق: "كوكو اختي! وين أختي؟ بالحلة، اش تاكل؟ باجلة! واشتشرب؟ ماي الله". وتساءلت، هل يا ترى، مازال "ماي الله في الحلة" يجري ثرا غزيرا كالكوثر الزلال في أنهار جنات عدن الموعودة، كما عهدناها أيام زمان؟ أم تلوثت مياهه بالبترول وبقايا السيارات المفخخة، وحطام الجسور والنفايات، بعد أن أصبح ماء الرافدين "ماي العباد" وأخذت الدول المجاورة تتقاسمه؟ لم أتناول الباجلا، فيهود العراق يعانون من حساسية خاصة منها، وخاصة من ورد الباقلاء في الربيع، فالرائحة التي تفوح منه تقتل الكريات البيضاء في دم المصاب بالحساسية، ويسأل أطباء الولادة في إسرائيل النفساء فيما إذا كان أحد الوالدين من مواليد العراق ليقوموا بفحص دم الوليد لتعيين توع الحساسية التي قد تظهر فجأة فتؤدي في بعض الأحيان إلى مضاعفات خطرة على حياة المصاب بها.
وفي اليوم التالي أخذني الأستاذ كاظم حبيب مع الأستاذ ناصر السماوي لزيارة متحف الآثار الشرقية ودخلنا بوابة بابل الرائعة التي ما زالت تبتسم ألوانها الزاهية ببسمة النصر على أحداث الزمان، إذ لم تستطع كف الدهر الهدامة المخربة من النيل من روعتها. راعني الجمال الرائع وكثرة المعروضات وطريقة العناية بها وترتيبها وكيف استطاعوا القدوم بها من العراق. قال الأستاذ ناصر السماوي: "من حسن حظ العراق أن الأثريين الألمان قاموا بنقلها وحفظها هنا. لو بقيت في العراق لكان الخراب والإهمال والنهب قد دمرها تدميرا". أن تتأمل عظمة الحضارات التي سادت في العراق من أكدية وآشورية وبابلية وكلدانية وإسلامية لشيء رائع، ولكن الظلم والطغيان والجهل والاستخفاف بعظمة الماضي وعبره هي التي خربت العراق وآثاره ومياهه وآباره النفطية وثروته الطبيعية بمثل هذه الوحشية التي اقترفها الغزاة والحكام الذين توالوا على مهد الحضارات في العالم نهبا وتدميرا. ثم زرنا المتحف اليهودي الذي صمم بصورة تبعث كوابيس الخوف والأسى وكيف جنى الحقد الأسود على أسر مسالمة مساهمة في بناء الحضارة فأبادتهم عن بكرة أبيهم. وفي هذا المتحف برزت الإنجازات الحضارية والثقافية والعلمية ليهود ألمانيا والتي لم يبق لها الحقد والعنصرية والاضطهاد أثر إلى أن أصبحت ذكرياتهم تنعى أمجادهم اليوم. ثم زرنا "النصب التذكاري للضحايا اليهود في أوربا"، غابة حزينة باكية تعول فيها الريح بين 2711 شاهدا خرسانيا شيد في قلب برلين قرب أهم البنايات الرسمية في الحاضر والماضي، على ستة ملايين من اليهود الذين ساهموا في بناء علوم وآداب وفنون وثقافة ألمانيا، أبيدوا بسبب الحقد والكراهية والتعالي والغطرسة، وأية خسارة للعلم والفن والإنسانية خسرها العالم؟ أنهينا الزيارة بنزهة في مركب شق بنا مياه النهر الهادئ الذي يقسم برلين الى قسمين بضفتيه الرائعتي الجمال. قال الأستاذ السماوي، هناك من الزوار المسلمين من تساءل فيما إذا كانت جنات عدن التي وعد بها المؤمنون أجمل من الجنان الجميلة المزروعة على ضفتي هذا النهر الصامت المنطوي على أسرار الغيوب يهزأ من الأحقاد وغطرسة الحكام الظالمين، فهو ساحر الخلود كاتم أسرار التاريخ والمستهزئ بتكالب البشر على المادة والمال والسيطرة والقوة الغاشمة، فعندما تنعدم الرحمة وينعدم العدل والتسامح والإخاء، يسود الدمار والخراب. فالعدل أساس الملك، ودولة الظلم ساعة ودولة العدل حتى قيام الساعة. كان النازيون يحرصون على طهارة العنصر الآري، واليوم يتمتع بالحرية والديمقراطية في ألمانيا جميع الأجناس التي أدرجها النازيون في أسفل سلم الأجناس البشرية، ترى ماذا يقول هتلر وزبانيته وهو يراهم يملئون ألمانيا وتسير نساؤهم محجبات وتتزوج الفتيات الآريات بعناصر سمراء وصفراء وسوداء، هل يتقلبون غضبا وهم يفحون من غيظهم في قبورهم؟ فأردد مع أمير الشعراء أحمد شوقي: "أكرم بوجهك من قاض ٍ ومنتقم!".
وعندما سار بي القطار مغادرا برلين إلى بوخوم والأستاذ كاظم حبيب يلوح بالوداع على رصيف المحطة، شعرت بنفس المرارة والأسى اللتين عانيت منهما يوم رحيلي عن العراق والغصة الخانقة عند إقلاع الطائرة من مطار بغداد يوم 25 أبريل 1951 إلى مطار اللد أيام الهجرة الجماهيرية ليهود العراق. عندها أيضا تمثلت ببيت الشريف الرضي:
"وتلفتت عيني ومذ خفيت عني "الديار" تلفت القلب!".
كان شعورا غريبا أن أشعر في برلين بأني أغادر العراق مرة ثانية عند وداع صديق عراقي عزيز تميز بالكرم والضيافة والإخلاص، هذه الخصال التي نفتقدها نحن الشرقيين في الغرب الذي يتعامل بالمصالح فقط.
كانت هذه هي الورطة الأولى من ورطات "أم حسين" التي عانيت منها في ألمانيا، ألا وهي الشعور بمرارة فراق العراق مرة أخرى بكل معنى الأسى والاغتراب المتمثلة في وداع من أحيى في خافقي الحنين من جديد إلى عراق أيام صبايا، وإلى بغداد خاصة!
يا من يحن إليكِ فؤادي هل تذكرينَ عهودَ الوداد ِ!
(يتبع)
شارع نهر الفرات، مبشّرة أورشليم، في 7/9/ 2007
العنوان الألكتروني: Moreh2007@hotmail.com
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة إيلاف،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وأذن خطي من المؤلف،
أ.د./ شموئيل (سامي) موريه