أ.د. شموئيل موريه
قلت إن الأقدار ربطت مصيري بالعراق حتى أنها لاحقتني إلى "تلفات" (آخر) الدنيا، إلى فنلندا. فمن كان يظن أني سألاقي العراق هناك وفي شخص أحد أبطال حزب البعث الحاكم. كان ذلك عام 1982 عندما وقعت "مجزرة صبرا وشتيلا" نتيجة لصراع مرير بين فئات من الشعب اللبناني. وكالعادة، أتهم العرب إسرائيل وشارون بالمشاركة في المجزرة الفظيعة واتهم آخرون إسرائيل بعدم الالتزام بجانب الحياد، فكل شر وكارثة في العالم تعزى في هذه الأيام إلى إسرائيل وإلى اليهود. أجرى مراسل جريدة "هلسينكن سانومات" مقابلة معي وسألني عن رأيي في الاتهامات، فقلت للمراسل: "إن ما أعرفه عن هذه الحادثة التي يؤسف لها مستقى من نفس المصادر الإخبارية التي تسمعها أنت في الراديو وتقرأها في الصحف، ولكني كإسرائيلي، أنا لا اصدق أن إسرائيل قامت أو ساهمت بهذه الجريمة البشعة، فأنا أعلم بحرص إسرائيل على طهارة استخدام السلاح". قرأ معالي سفير العراق في فنلندا (1982) الفريق صالح مهدي عماش الذي كان يشغل في عام 1968 قبل نفيه السياسي هذا، منصب نائب رئيس وزراء العراق، فرد عليّ السفير عماش بمقال نشره في نفس الصحيفة، مطالبا عميد جامعة هلسنكي التي استضافتني كأستاذ زائر، بفصلي عن الجامعة لأنني "يهودي إسرائيلي صهيوني"، مدعيا "إن الفرهود كان جزاءً عادلا لخيانة يهود العراق لوطنهم"، ولكنه طلب سرا وبصورة ودية أدهشتني، بواسطة صديق مشترك، أن أرسل إليه مذكرات الشاعر الأديب أنور شاؤل الذي ذكره بالخير في كتابه "قصة حياتي في وادي الرافدين" (1980) وإرسال غيرها من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق. أرسلت الكتب إلى الصديق المشترك، وبعد بضعة أشهر جاءني الرد في إسرائيل على صورة طرد من الكتب المطبوعة في بغداد وبينها كتاب قيم أثار إعجابي وهو "تطور الشعر العربي الحديث في العراق،اتجاهات الرؤيا وجماليات النسيج"، للدكتور علي عباس علوان (بغداد، منشورات وزارة الإعلام – الجمهورية العراقية، 1975، سلسلة الكتب الحديثة، <رقم 91>). وفي الفهرس تحت محتويات الفصل الثالث الذي ضم بحثا بعنوان "مناقشة س. موريه حول تجارب الشعر الحر"، كان هناك ختم "وزارة الإعلام، نسخة خاصة مهداة من وزارة الإعلام". وهو إشارة واضحة بأن من أرسل الكتاب يعلم بأبحاثي عن الشعر العربي الحديث. إذا، فالعراق ما زال يذكرني كما ذكرتني فيما بعد بفخر مجلة "المؤتمر" العراقية في لندن حين نلتُ جائزة إسرائيل عام 1999. وصلت هذه الكتب من هلسنكي بالبريد الدبلوماسي عن طريق سفارة فنلندا في إسرائيل إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية في أورشليم- القدس وسلموها إلي دون أي سؤال أو جواب، ولم يتهمني أحد بالتعاون مع الأعداء.
أما السبب في اهتمام معالي السفير العراقي عماش بالكتاب فيعود إلى ما كتبه الأستاذ أنور شاؤل عنه في ذكرياته عن العراق "قصة حياتي في وادي الرافدين" (رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، 1980، ص 330-332)، وفيه نموذج آخر لتفرقة العرب بين الصداقة الشخصية التي تتسم بالود والأريحية والعلاقات الرسمية التي تتسم بإظهار الكراهية والعداء للخصوم. كتب الأستاذ أنور شاؤل عن حادثة إلقاء القبض على رئيس الطائفة الموسوية في بغداد الأديب مير بصري وكيف توجه إلى أصدقائه المخلصين ليتدخلوا في الإفراج عنه. جاءه صديق وفيّ من أصدقائه المخلصين الذي أنجده وقت الضيق لتحرير مير بصري من السجن بوساطة نائب رئيس الوزراء في العراق البعثي الفريق صالح مهدي عماش. وكان السفير عماش الذي تسنم في العراق أرفع المناصب السياسية، من هواة الشعر ورواته ويعاني القريض من حين إلى آخر. وعندما قدم له أحد الأصدقاء رباعية أنور شاؤل "يهودي في ظل الإسلام" كنموذج حي لإخلاص المواطن اليهودي لوطنه العراق، وهي:
إن كنت من موسى قبست عقيدتي فـأنــا الـمـقـيـم بـظـل ديـن محـمـد
وسـماحـة الإسـلام كـانـت موئـلـي وبـلاغــة الـقــرآن كـانـت مـوردي
مـا نـال مـن حـبـي لأمــة أحـمــد كـونـي عـلى ديـن الكـلـيـم تـعـبـدي
سـأظـل ذياك السـموءل فـي الـوفا أسـعـدت فـي بـغـداد أم لـم أســعـد
واطلع الفريق عماش على هذه الأبيات وأعجب بها وهو الشاعر المذواق واقترح أن تنشر الرباعية في جريدة "الجمهورية" العراقية. ولما علم سيادة الفريق بأن شاعرا يهوديا آخر وهو مير بصري قد أودع في غياهب السجن منذ مدة، أوعز بإطلاق سراحه. ولا أعرف هل توجد في العالم دولة أخرى غير العراق وضابط كبير في أي جيش في العالم يقوم بهذا العمل الشريف لأجل رباعية شعرية. فالعراق هو موطن الشعر والشعراء الذي أغنى إسرائيل بعشرات الشاعرات والشعراء باللغتين العربية والعبرية. سألني المعلق السياسي المعروف الأستاذ شاؤل منشي في محاضرة ألقيتها في ندوة ليهود العراق في أورشليم القدس يديرها السيد أبراهام كحيلة (الذي تزوجت خالته حبيبة بقدوري الأخ الأصغر لزميلي في مدرسة السعدون صادق بن محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال والتقيت بابنها الطبيب الماهر الدكتور آدم كبة في مانشستر الذي طلب مني منشورات رابطتنا)، كيف أفسر العلاقات الشخصية الودية والضيافة الكريمة التي يبديها العرب نحو اليهود من جانب وتصريحاتهم العدائية في الأوساط السياسية في نطاق عملهم، من جانب آخر. قلت، هناك عاملان مهمان في الأخلاق العربية، الأول يمتد إلى أخلاق العرب في جاهليتهم التي كانت بمنزلة الدين، وهي الكرم والضيافة وحماية الطنيب (الدخيل) والثأر والعصبية القبلية وهي التي أقر الإسلام أكثرها، والأخلاق الكريمة التي جاء بها الإسلام وخاصة حماية اليتيم والسائل والمرأة والزكاة والتضامن والتكافل بين المسلمين والجهاد ونصرة الدين والمؤمنين وغير ذلك. وأنا أرى أن التضامن والتكافل بين المؤمنين هو السبب، وهذا قدر اجتهادي في هذا الأمر الذي قد يفسر الفارق بين التصرف الشخصي والتصرف الرسمي عند العراقيين خاصة.
قام السفير عماش في أثناء إقامته في فنلندا بنشاط أدبي وترجم قصائده إلى اللغة الإنكليزية ثم قامت سكرتيرة السفارة بترجمتها إلى اللغة الفنلندية، وفي مثل هذه الحالة، وخاصة إذا لم يكن المترجم متخصصا باللغتين التي يقوم بالترجمة منها وإليها، يكون للترجمة ضرر كبير بالفحوى وبالرسالة، فتمسخ القصيدة مسخا ولا يفهم لها معنى. قال لي أحد الأساتذة، "إننا في فنلندا لا نستطيع استساغة مثل هذه الترجمة الحرفية التي لا نستطيع أن نطلق عليها اسم الشعر، فهي تغض من قيمة الشعر العربي وتجعل الشاعر وشعره مضغة في أفواه الأوساط الأدبية في البلاد".
وفي هذه المرة أيضا أبدى حزب البعث كرمه في البلاد الأوروبية وأرسل السفير عماش رسالة الى عميد جامعة هلسنكي يعلن فيها بفخر واعتزاز أن حكومة البعث العراقية تتبرع بمبلغ مليون مارك فنلندي لتدشين كرسي لتدريس اللغة العربية بشرطها المعروف وهو عدم تشغيل اليهود وأن يعيّّن معالي السفير العراقي الأستاذ الذي سيشغل الكرسي. وعندما جاء ردّ عميد الجامعة بأن قوانينها لا تسمح لأحد بالتدخل في الشؤون الأكاديمية والعلمية وأن تعيين الأساتذة هو من شأن اللجنة المختصة بذلك وليس من شأن من يتبرع بمبلغ لتمويل النشاط العلمي للكرسي المرموق، غضب عماش وهدد بسحب المبلغ، فكان جواب عمادة الجامعة: ": كيتوس (شكرا)، تفضل، وعلى الرحب والسعة". وهكذا فشل، على ما أعلم، أمر إنشاء كرسي آخر باسم البعث العراقي في العاصمة الفنلندية.
ولا نعرف ضابطا كبيرا نظم الشعر وأكرم الشعراء إلى جانب الفريق صالح مهدي عماش سوى الشاعر البريطاني من أصل يهودي عراقي وهو الأديب زجفريد لورنس ساسون (1886-1967) من عائلة ساسون العراقية الأصل والذي كان ضابطا في المشاة في الحرب العالمية الأولى ومن محرري الديلي هيرالد. كتب ساسون مذكراته باللغة الانكليزية ونشر أشعاره التي شجب فيها الحروب. تـُرَى هل هذه هي "العبقرية العراقية" التي أشار إليها الرئيس صدام حسين في عزّ مجده، في رده على من أخبره بتفوق يهود العراق في إسرائيل في جميع الميادين؟؟؟
كتبت هذه المذكرات لتنشر في "إيلاف". الأسماء التي وردت فيها هي أسماء حقيقية.
جميع الحقوق محفوظة لكاتب هذه المذكرات ولا يسمح بنقلها بأية صورة كانت سوي باتفاقية خاصة وبترخيص خطي من المؤلف أ. د. شموئيل موريه.