جماعة كركوك الأدبية.. مسيرة البحث عن الروح في مدينة القصيدة الضوئية
د. توفيق آلتونجي
قل للقابع في كهفه
متروكا للوحدة والنسيان
انهض لترى وجهك في مرآة الحجر العمياء
انهض من نومك وأطلق صرختك المكتومة
صرختك المرة في الاذان الصماء
الشاعر فاضل العزاوي
كنيران بابا كركر الأزلية التي تأبى ان تخبو شعلتها وتنطفئ حرارتها يأتي عصبة طيبة من شباب كركوك ( كانت أعمارهم بين 15 إلى 18) عام 1955 لتتجمع حول المعبودة كركوك والالتفاف حول " الكلمة" مؤسسين جماعة أدبية محلية المنشأ بأفكار حرة منطلقة في عالم الأدب الإبداعي العالمي جاعلين من كل كلمة منطوقة إرثا للثقافة العالمية. هؤلاء هم أبناء العراق من كافة القوميات المجتمعون في عراقنا المصغر "كركوك" وقد أطلقت عليهم أدباء بغداد تسمية جماعة كركوك الأدبية المجددة وفي واقع الأمر لم تكن جماعة أدبية بمعنى الكلمة او تنظيما بل كان امتدادا لقاءات واجتماعات ادبية بين أصدقاء من الشباب وربما مراهقون تراهم يكتبون القصة القصيرة ثم يعرجون الى الشعر او يتركون كل شيء ليمارسوا هواية الرسم. تحولت مع ثورة تموز الى جماعة أدبية مستقلة عرفت تحت تسمية "جماعة كركوك الأدبية" كما أطلق عليها أدباء بغداد. هؤلاء التقوا في بيت، كركوك، لم يكن أبناؤه دوما على وئام لا بل كان لقاؤهم هذا عاصفا وتجديدا في محاولة لتغيير الواقع تغييرا من الدرجة الثانية أي جذريا في نصوصهم الأدبية .
سأحاول في سياق الموضوع لاحقا تسليط الضوء على بيئة مدينة كركوك إبان لقاء هؤلاء الطيبين من أبناء الوطن. يجدر الإشارة بان المجتمع ألذكوري آنذاك قد حرم الأديبات الكركوكيات من المشاركة الفعالة والظهور في الحياة الاجتماعية. سأقوم بوصف أحياء المدينة وأماكن اللهو فيها لإعطاء صورة صادقة عن المدينة وأحوال أبنائها في تلك الفترة التاريخية. سأستشهد بنماذج من إنتاجهم الإبداعي المرتبط ببيئة المدينة مع الإشارة الى نماذج اخرى من إبداعات أدباء المدينة. سأتناول موضوع تأسيس الجماعة وتطورها عبر كلمات أعضاءها. سأتطرق كذلك في ختام الموضوع الى أهم حادثة تاريخية اثرت في مجريات الامور في المدينة وعلى ادباء كركوك اعتقد جازما ان الموضوع مفتوح للنقاش والحوار وهذه مجرد محاولة لبدا عملية توثيقيه أتمنى ان تتطور دوما وتزود بالجديد والمجهول.
جميع أعضاء المجموعة أبدعوا باللغة العربية رغم انتماءاتهم القومية والثقافية المختلفة. اللغة الثقافية التي ربطت أبناء المدينة آنذاك كانت التوركمانية فقد كان الكوردي والعربي والسرياني، سأستخدم كلمة سريان للدلالة على جميع إخواني من مسيحيي كركوك مع احتراماتي لانتمائهم العقائدي ألتعددي من اشوريين وكلدان وسريان، والارمني يتحدثون بها وبطلاقة مما ادى الى نشوء فكرة خاطئة عند التوركمان انفسهم مفادها ان كل من تكلم التوركمانية فهو توركماني وبذلك اعتبر الارمني والسرياني والعربي والكوردي توركمانيا باعتبار لغة البيت هي التوركمانية سيرا على نهج الفكر القومي التركي السائد في تركيا لحد يومنا هذا. بالطبع فكرة اللغة القومية انتشرت كذلك عند العرب والفرس القومين معتبرين اللغة انتماء قومي متناسيين مثلا ان الأكثرية من العرب هم من المستعربة وليست عاربة كما نرى ان مليارد من البشر يتكلمون الانكليزية وهم ليسوا بانكليز وكذلك الحال بالنسبة للأسبان بمليادرهم في دول أمريكا ألاتينية حيث الثقافة الاسبانية وكذا بالنسبة للفرنسية ولغات اخرى.
الرواد الأوائل العزاوي، الداوودي، بولص والراوي
كل التفاصيل الصغيرة مهمة جدا في التعرف على البيئة التي نشأت فيها وتجمع هؤلاء الأصدقاء. ان ما اريد قوله ها هنا ان بيئة المدينة عامل مهم من عوامل الإبداع الأدبي والفني. ان هناك قافلة من المبدعين العراقيين يتجمعون حول بيئة المدينة وتأثيرها عليهم خذ مثلا مبدعي مدينة الناصرية مثالا وقارنه مع مبدعي المدن العراقية الأخرى ستجد حتما نموذجا مرتبطا بالناصرية كمدينة وهكذا بالنسبة للمبدعين من مدينة النجف الاشرف او دهوك او السليمانية واربيل والموصل. المادة تعتمد بالدرجة الأولى على بعض النماذج من الإرث الأدبي الذي تركه هؤلاء المبدعين واستنتاجاتي الشخصية من خلال كوني ابن المدينة من ناحية ومن ناحية اخرى علاقاتي المباشرة والغير مباشرة عن طريق الاستئناس بآرائهم وقابلتهم عن طريق الهاتف او تبادل الرسائل مع البعض منهم. اخص بالذكر وبالدرجة الاولى الأديب زهدي الداوودي والشاعر جلال زنكابادي واخرون. استفدت كذلك من الكم الهائل من الكتابات حول المجموعة والمنشورة على مواقع الانترنت والجرائد راجع " الإشارات المرجعية" في خاتمة المادة واعتذر عن ورود الأخطاء الإملائية في الموضوع.
ترتكز مادتي هذه وكما أسلفت على سرد وصفي لبيئة المدينة آنذاك وانعكاساتها على نماذج من الأدب الإبداعي الكركوكي ولذا اعتذر من القارئ الذي لم يشاهد المدينة وعلى علم بأسماء أحيائها ربما سيلقي بعض الصعوبات خاصة عند ذكري لبعض التفاصيل الدقيقة والمسميات. ان مسؤولية توثيق تلك الفترة التاريخية تقع على عاتق الجميع. من الطبيعي سيكون هناك مؤيدون واخرون يقفون بالضد للأفكار الواردة في مادتي هذه واني لاعتبر كل إضافة او تعليق واستذكار اغتناء للحوار الثقافي الحضاري والإنساني. الهدف منها تبيان تأثير وانعكاس "البيئة" وكل الحوادث التاريخية التي جرت خلال فترة معينة في الإبداع الأدبي بصورة عامة، فضلا عن وجوب فهم الواقع والبيئة المحيطة خلال كتابة النص او الفترة الزمنية وشخصيات والبيئة التي تجري فيها حوادث العمل الادبي لفهم الاتجاهات الأدبية والفكرية السائدة آنذاك. ففي حارات وازقة المدينة ومقاهيها وسينماتها التقى الشباب وفي تلك الأيام كانت للأفكار السياسية اثر كبيرا في النص الإبداعي ويرتبط جدليا بالبيئة المحيطة والحدث وتلك الرائحة القديمة.
كنت قد أفردت جانبا خاصا لهذا الموضوع في كتابي "كركوك نامه" التي صدرت عام 2006 عن دار فيشيون ميديا السويد.
المقهى مكان اللقاء عبر الأزمنة:
المقهى في التراث العراقي بصورة عامة وفي كركوك بصورة خاصة كان ولا يزال له دوره الاجتماعي والسياسي ويعتبر ناديا أدبيا يجتمع فيه محبو الأدب والفن والموسيقى ويعتبر مكانا لفض النزاعات والخصومات وعقد الصفقات والزيجات. كازينو النصر "المدورة" ذلك المقهى الدائري في شارع الجمهورية احد الشوارع العصرية والحديثة كان مكان لقاء العديد من الأدباء وصفوة القوم وخاصة الشباب. كنا نحن الشباب لا نذهب الى ذلك المقهى الذي اشتهر بأسعاره الغالية والمرتفعة نوعما وكنت تحتسي الشاي بالحليب او تنتعش بقنينة من الكوكا كولا بأسعار مرتفعة باسعار ذلك الزمان خمسون فلسا يعني درهم حيث كان سعر القنينة لا يتجوز 15 فلسا والشاي عشرة فلوس. واذا كان حديثنا يدور ما بعد ثورة الرابع عشر من تموز ففي عام 1959 أضاف الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم فلسا على العانة "4 فلوس" فتحول الى عملة معدنية بقيمة 5 فلوس فهتفت الجماهير "عاش الزعيم الي زيد العانة فلس" علينا ان لا ننسى انه كان هناك معملا للكوكا كولا في طريق كركوك - اربيل آنذاك على أطراف المدينة.
كنت حينذاك ادرس في متوسطة الحكمة 1965 في بناية قديمة مقابل كازينو النصر"المدورة" كانت مدرستنا تتناوب مع المتوسطة الشرقية تلك البناية الهرمة. آنذاك كان أصدقائنا الأدباء يحتسون الشاي في هذا المقهى وربما كان البعض منهم كانوا يفترشون قاعات السجون. الغريب ان مدرستي هذه تحولت فيما بعد الى دائرة للجوازات ساعدني احد أبناء عمومتي وللمرة الثانية ، كنت قد تركت العراق أول مرة عام 1972 وعدت عام 1977، بإصدار جواز سفر والهروب من العراق متوجها الى النمسا عروسة دول أوربا في الأشهر الأولى من الحرب العراقية الإيرانية خريف عام 1980 أي قبل ثلاثون عاما خلت. تنتهي ذكرياتي عن المدينة مع انقلاب الثاني للبعثيين في تموز عام 1968 حيث تركنا المدينة وتوجهنا الى العاصمة بغداد.
هنا نرى أهمية المقاهي في المدينة وقد اكتشفها الشباب لقضاء وقت الفراغ. تلك المقاهي كانت أماكن اللقاء بين الأصدقاء وكانت روادها تختلف من مكان الى اخر وقد ذكرت في مقدمة هذه المادة كازينو النصر الذي تغير اسمه الى المدورة وأشهر تلك المقاهي كانت "جوت قهوه" لصاحبه حبيب مياس على الطرف "الصوب" الكبير من المدينة وهي مقهى مزدوج اختفى تماما لاحقا وكانت تعيش ايامها الزاهية ابان نهايات الحكم العثماني للعراق. ومقهى كجل احمد ومصلى ومحمود كوثر في مصلى ومقهى رشه كوله رضا في محلة جاي و كان هناك قهوة عند اقطاف القلعة قهوة دالية في القيصرية ومقهى شكر كوثر و واخر لصاحبة سيد جلال الجباري كما ظهرت الى الوجود العديد من المقاهي وروادها من الجنود حيث تحولت المدينة الى ثكنة عسكرية يساق منها الجنود الى سوح القتال لمحاربة رجال الحركة الكوردية التحررية "البيشمركة "على ربى جبال كوردستان وبات سماء المدينة الصافية تخترقها هدير محركات الطائرات الحربية السوفيتية الصنع "الميك" وهي في طريقها لاداء مهمات قتالية وقصف جبال كوردستان تلك الطائرات كانت تعكر صفوة القيلولة عند الظهيرة وتبث الربع في نفوس ابناء المدينة.
كانت الأغاني الريفية العربية سمة تلك المقاهي وكانت تقام حفلات للترفيه الجنود المساقون الى جبهات القتال في كوردستان في المنطقة الفاصلة بين محطة قطار الشركة ومقر الفرقة الثانية وكان طابع الغناء والرقص الريفي سمة تلك الحفلات. فيما كانت المقاهي الاخرى تحبذ اغاني كوكب الشرق ام كلثوم. وهناك مقاهي اخرى كمقهى الخال محمد الذي هدم وبنيت بناية المحاكم في الساحة الشهيرة التي سآتي الى ذكرها في سياق مادتي هذه لازال هناك مقهى في تلك المنطقة في رواق يربط بين شارع الاوقاف والشارع الموازي و مقهى عثمان في شارع اطلس، ومقهى المحطة وشاكر ومقهى جلي ومقهى محمود كوثر ولا بد ان نشير الى مقهيين مهمين كذلك هي المجيدية لصاحبه اسطة صابر قهوجي واحمد آغا القديمة طبعا والحديثة بنيت في منطقة الماظ ( الماس) في شارع اختار الشباب تسمية شارع تكساس له ولا اخفي لا اعرف السبب المباشر لذلك ربما يسعفني أصدقائي القراء الكرام في ذلك. المهم ان هذا المقهى تحول الى مقهى للشباب اكثر من الأصلية عند بوابة سوق القورية وسط المدينة التي كان روادها من الكبار كما كانت عليه مقهى المجيدية التي كانت تقع في الشارع المسمى بنفس الاسم وخلف المقهى كان هناك حديقة بنفس الاسم تمتد الى بناية المكتبة العامة للمدينة والتي انشات مع إعلان تأسيس الدولة العراقية قبل 72 عاما وكان من الممكن مشاهدة سينما الخيام على الطرف الاخر من المدينة أي في الصوب الكبير. هذا الصوب وبقلعته الشهيرة ومحلاته ذو الأزقة الضيقة يعتبر في الواقع أساس مدينة كركوك القديمة فهناك احياء ك بريادي المذكورة اعلاه ، عرب محلسي ، يهوديلار محلسي، بلاغ ،جوقر محلسي، جاي محلسي، مصلى ، قيصري، امام احمد، اخر حسين سقا خانه،تكية الشيخ جميل والمحلة الكبيرة واحياء اخرى. هنا لا نجد أي مكتبة بل تنتشر بعض المحلات حول القلعة وفي القيصرية العثمانية القديمة ذلك البناء الأثري والتراث الذي يتواجد في الكثير من المدن في الشرق.
كان المقهى وسيظل ملتقى في عموم العراق حتى للأحزاب والتجمعات السياسية السرية والعلنية تجرى فيها الاجتماعات الحزبية ويعشش فيها رجال الأمن و المخبرين والمتعاونون مع السلطة.
المدينة "المكان" و بيئة الابداع
أن مدينة كركوك مكان الطقوس الإبداعية كمكان ، وطن، يحتضن هموم الإنسان بين أزقته وطرقاته. الإحساس بالمكان يعمد الكلمات وكل عمل ابداعي مرتبط عضويا بثلاثية عناصر مطلقة مكان الحدث، الزمان والمبدع. ان هذه المغامرة المجهولة في الذاكرة البشرية والعودة بالقهقرى اكثر من خمس عقود من الزمن ورؤية المدينة بعيون الطفل لهي مغامرة تستحق الخوض في غمارها. ان الكثير من التفاصيل التي محتها الزمن ربما سيساعدني في تذكره ذاكرة القارئ النبية في استرجاع الذكريات الإنسانية لرسم صورة واقعية للمدينة آنذاك.
لم تتطور المدينة كثيرا منذ تلك الأيام قبل نصف قرن من الآن وبقت على حالها حتى يومنا هذا من الناحية العمرانية لكن الذي حصل تطور في البناء أفقيا لتمتد المدينة الى جهاتها الأربعة والأحرى تطورت على ثلاث محاور اولها محور طريق بغداد وتكريت وثانيها طريق المؤدي الى مدينة السليمانية ومحور ثالث في الطريق المؤدي الى مدينة هولير عاصمة اقليم كوردستان. مكونة احياء مستقيمة على طرفي شارع عام دون وجود تخطيط وبناء تحتي كما هي عليها المدن بصورة عامة. حتى تطورها العمراني كان ضعيف جدا في نهاية الخمسينيات فهناك عمارتين ربما كانت ب اربع طوابق هما مصرف الرافدين عند الجسر الجديد وبناية شكر نجار الذي بناه هذا العصامي الصنايعي الفنان صانع الموبيليات والأثاث المنزلية في شارع الجمهورية. سأسرد واصفا اماكن أساسية في المدينة أثرت بصورة مباشرة او غير مباشرة في أعمالهم الإبداعية حيث نرى انعكاساتها في النماذج الأدبية الإبداعية الذي سأستشهد به لاحقا. لم تتطور المدينة على غرار مدن العراق الاخرى في سنوات ما قبل الثورة واقصد ثورة تموز1958 طبعا وبقى الكثير من بيئة المدينة تشبه ما كانت علية اثر انهيار الإمبراطورية العثمانية رغم ان اكتشاف النفط كان يجب ان يكون حافزا لتطوير المدينة ولكنه جاء بالماسي عليها.
ان التطور الوحيد الذي نراه في المدينة مرتبط بشركة النفط العراقية حيث مصافي النفط وتكرريها انتشرت على أطراف المدينة في منطقة باباكركر وبني مقر للشركة على الطابع الانكليزي وتم كذلك بناء منطقة سكنية لعمال الشركة ومحطة قطار. سمي الحي ب "عرفة" تيمنا باسم المدينة الأشوري القديم "اراباخا" الشق الاول من الكلمة تاتي من الآرامية القديمة وتعني أربعة كما هي في اسم مدينة اربيل عاصمة اقليم كوردستان العراق "اربا ايلو" أي مدينة الآلهة الأربعة . وكان طابع الحي العصري آنذاك مدعاة للفخر لأبناء المدينة. الطابع الانكليزي للبناء كدور مستقلة وبحديقة أمامية وبوجود دواليب ملابس في غرفها والكثير من المرافق التي كانت مفقودة في بيوت كركوك التقليدية خاصة في أحيائها الشعبية كما هي بيوت حي القلعة ومنطقة قورية وبلاغ ومصلى وبريادي" طوقات محلسي" و بكلر وصاري كهية وجرت ميداني المحاذية لمطار كركوك العسكري عند غابات أشجار الزيتون الشهيرة بمجزرتها ، كاور باغي، 12 تموز عام 1946 وكنا قد سكنا في تلك المحلة ثلاث سنوات قبل رحيلنا الى بغداد وحمام كلي علي بك وأماكن أخرى.
يقوم الشاعر فاضل العزاوي بوصف العديد من محلات كركوك في رائعته "آخر الملائكة" حيث تدور حوادث الرواية في تلك الأحياء التاريخية وبشخصيات واقعية من ابناء المدينة يمكن التعرف إليهم لمن عاصر تلك الحقبة التاريخية من حياة المدينة وأبنائها الكرام.
علما بان الحي الجديد أي عرفة جهز بمحلات لتبضع "كانتين" وكنت تجد كل احتياجاتك دون الحاجة للذهاب الى مركز المدينة للتسوق. هذا الحي سكنه بالدرجة الأولى عمال شركة النفط وكان جلهم من مسيحيي كركوك والعرب وبعض التوركمان وقلة من الكورد. لكنها بقت منطقة سكنية ليس الا ومكان يتجول فيه الشبان علهم يلتقون بمحبوبتهم السمراء من قوم عيسى "أغنية لمطرب العراق الكبير ناظم الغزالي" وهناك العيد من الزيجات التي حصلت نتيجة ظهور هذا الحي العصري في المدينة. هناك انعكاس لهذه البيئة العقائدية في المدينة على أصول مجموعة كركوك الأدبية حيث نجد في تكوين عوائلهم تركيبا تعدديا رائعا في اختلاط بين التوركمان والعرب والكورد والسريان والارمن وعقائد كالايزيدية والكاكائية وحتى بين طائفتي السنة والشيعة. اعتقد جازما ان ذلك كان مصدرا أساسيا في إنتاجهم الإبداعي وخاصة في انتمائاتهم وميولهم السياسية بعيدا عن الافكار القومية السلبية.
أرجو من القارئ النبيه الانتباه باني لا زلت مستمرا في وصف بيئة المدينة في فترة نشوء تلك الجماعة الأدبية وليست بيئة المدينة على حالها اليوم.
ان احتفالات السنوية والمظاهرات في يوم الثورة أي 14 من تموز كانت تشهد عرسا احتفاليا استثنائيا في المدينة اذ كانت الشوارع تزين بسعف النخيل بينما تقوم الدوائر الرسمية ببناء طاق خشبي يكتب عليها شعارات وطنية بذكرى هذا اليوم وصور الزعيم وكانت إحدى أجمل تلك البوابات الخشبية تبنى عند مقر شركة النفط العراقية " أي بي سي" في مدخل هذا الحي وبالقرب من محطة القطار ذو المقطورات الرصاصية ذو اللون المعدني. هذه الاحتفالات شهدت خفوتا واضحا بعد حوادث تموز1959 التي سآتي الى بعض تفاصيلها لاحقا.
من هنا أي من بدايات حي عرفة كانت شوارع المدنية تنطلق الى مركز المدينة او الى حي ملا عبد اللة وكنت تشاهد في طريقك ملعب الشركة التي كانت آنذاك احد أماكن التسلية المهمة لأبناء المدينة وجرت على ساحتها العديد من المسابقات الدولية وخرج منها لاعبين اشتهروا لاحقا. اما اذا اتجهت جنوبا فانك ستجد نفسك في شارع طويل يصلك الى المطار العسكري مارا بتعليم تبه ومن ثم الى محطة القطار الذي كان يحيط به دور العمال وأماكن صيانة القاطرات والمقطورات.
كان لهذا القطار أهمية كبيرة للتواصل مع أبناء مدن العراق شمالا وجنوبا وخاصة العاصمة بغداد في حين لم يكن هناك الكثير من السيارت في المدينة وتفتقد سيارات الأجرة تماما أي ما يسمى التكسي تماما في حين كانت هناك عربات تجرها الخيول "العربنجي" وكانت تعتبر تقريبا الواسطة الوحيدة للنقل بالطبع كان الناس يقتنون الدراجات الهوائية التي كانوا يستخدمونها للتنقل بين احياء المدينة او للذهاب الى اماكن عملهم. كانت سيارات النفرات المرسيدس تاخذ بالركاب الى بغداد وتجد العديد من مكاتب السفر ك نقليات آوجي اذا لم تخني ذاكرتي ونقليات الجبوري بالقرب من سوق الهرج. حيث ينتشر الصبية الذين يدعون المسافرين ويأخذون بمساعدتهم في حمل حقائبهم لوضعها فوق تلك الباصات الصغيرة الزرقاء. اما المسافر المقتدر فقد كان يسافر بسيارة الأجرة المارسيدس السوداء.
ان من المهم معايشة تلك البيئة لمعرفة أماكن اللهو البريء للشباب في مدينة تقليدية ترى فيها بالدرجة الاولى الرجال في شوارعها بينما كانت النسوة بصورة عامة تلبسن البرقع "بيجة" الاسود والعباءة السوداء. الاستثناء الوحيد كان في حي عرفة المذكور اعلاه وبعض المناطق في حي الماظ (الماز) و شاطرلو حيث كانت العديد من العوائل من المسيحيين يسكنون تلك الأحياء.
كانت هناك أحياء فقيرة في منطقة شورجه وظهر الى الوجود أحياء أخرى ك رحيم آوى، قصاب خانه و الإسكان "آزادي" وهي دور بنيت في العهد الثورة بعد عام 1958 في مشروع إسكاني طموح كبير كحلم للشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم كانت من احدى نتائجها حي الثورة المليوني في بغداد الذي يفصله عن مدينة بغداد قناة حفر باسم قناة الجيش ربط بالعديد من الجسور حيث ظهر لاحقا احد اهم مناطق التسلية في العاصمة بغداد واعني مدينة الألعاب. ان وجود مناطق التسلية مهمة جدا للحياة الاجتماعية في المدينة وكانت كركوك تتحول الى منطقة احتفالات وأعراس في أيام الأعياد الدينية ولكن في الايام العادية لم يكن هناك أي مكان للتسلية للصغار ولكبار. لكن المدينة لم تك قط مقسمة الى أحياء فقيرة واخرى غنية او للميسورين. هناك فقط بيوت للأغنياء منتشرة هنا وهناك كمن كان متصرفا للواء او كان رئيس بلدية او تاجرا كبيرا وربما إقطاعي كبير. ان محلات " اورزدي بيك" الشهيرة ( لعل التسمية تاتي من الانكليزية وهي على غرار اسواق شارع اوكسفورد الشهير في وسط لندن او ربما من الفرنسية اي سوق مركزي) افتتحت أبوابها في مكان قريب من نادي الضباط وعلى مقربة من دار المعلمين الابتدائية وكنت اذهب الى هناك حيث احصل على مجلة "العاملون في النفط" تلك الأعوام وقد انتقلت تلك المخازن الى شارع الجمهورية لاحقا ليس بعيدا عن كازينو النصر.
فيما نرى ان جميع أحياء التي اذكرها لاحقا تقع في الصوب الصغير وهي كانت قرى مبعثرة وبساتين في اول الامر وبعض الثكنات العسكرية في العهد العثماني. وعند أقطاف قلعة كركوك سينما الخيام وهو دار السينما الوحيدة في الصوب الكبير هدم و اختفى لاحقا. المدينة تفصلها نهر "خاصه صوي" وهو جدول نهري جاف تطوف مياهها سنويا مع مجيء الربيع وذوبان الثلوج من على قمم جبال كوردستان. كان هناك جسرين على النهر القديم وكان يسمى بالحجري و يسمى الان بجسر الشهداء والحديث كنى ب جسر الطبقجلي.. ت عن تاريخ تأسيس المكتبة العامة في كركوك تقول السيدة شادية بكر مديرة المكتبة بأنها تأسست سنة 1932 في دائرة المعارف انذاك وكانت تديرها لجنة من المعلمين، وكان للسيد جميل رؤوف اليد الطولي في تطوير المكتبة وبعد ذلك في عام 1937 أنشئت البناية الحالية واستخدمت كمكان للمكتبة العامة، وكان أول مدير للمكتبة السيد (محمد الملا احمد) وبعد ذلك تعاقب العديد من المدراء وبمختلف الأطياف والقوميات منهم :عبدالله ازل فقي، مهدي معزز، نعيم زياكو، عباس عبد خلف، ماربين جورج، رشيد ديوني، كمال حسون، يعقوب نديم، كامل جاسم العاني، شيخ رؤوف خانقاه، شيخ تحسين الطالباني، عبد عذاب، زهدي فيضي العلي، حسيبة عزيز عبدالله، هاشم فرحان، برهان خليل والسيدة شادية بكر.
وأضافت وفي عام 1953 تعرضت المكتبة العامة للفيضان وذلك لقربه من نهر خاصة مما لحق أضرارا في الكتب الموجودة آنذاك، وتعرضت المكتبة ثانية لحادثة حريق أدى الى احتراق عدد كبير من الكتب.
تلك هي المكتبة العامة لعبت دورا مهما في حياة أبناء المدينة في تلك الفترة. كان بعض مدرسي العربية من محبي الأدب يأخذون الطلاب الى تلك المكتبة ليحظروا مواد أدبية وتقارير عن الأدباء والشعراء.
كان هناك سوقا عصريا على الطراز الانكليزي يباع الخمر في إحدى محلاتها وبما كان المحل الوحيد لبيع الخمور في المدينة مقابل البريد ونجد محلات للملابس والكماليات ومحلات الصياغة والتي في احدها محلاتها يتجمع هؤلاء الشباب في محل للصياغة يملكها اخ الأديب جليل قيسي ليس بعيدة عن المكتبة العصرية التي كانت تجاور محلات اخوالي كذلك، اسواق النصر التجارية، تلك المكتبة شاركت في اغتناء الحركة الأدبية في المدينة فيما نرى ان هذا السوق يربط بين شارعين مهمين هما شارع اطلس وشارع المجيدية وكان بالإمكان شراء بعض الكتب الدراسية التركية ألاتينية في مكتبة صغيرة في بدايات شارع المجيدية كان صاحبه على ما اعتقد الأديب محمد سعيد سويملي. لا أزال أتذكر بان بعض المخازن كانت على عربات يبيعون عليها كل شئء تقريبا. في نهاية الطرف الآخر من السوق وعلى شارع اطلس كانت هناك مكتبة على الشارع العام وبجانبة كانت محلات باتا للأحذية وخطاط كركوك رفعت الخطاط ومحل ياسين القبقابجي الذي انتقل لاحقا الى شارع الجمهورية بعد ان بدا الفترة الذهبية لهذا الشارع بالخفوت وكنت قد درست لمدة عام 1966 في متوسطة الغربية التي كانت بناية قديمة تستخدم كإسطبل للخيول أتذكر من معلميه ساقي باقي والأستاذ سعاد معلم التربية الفنية على ما أتذكر.
شارع أطلس الذي يبدا عند الجسر الجديد متفرعا من شارع الاستقلال "غازي سابقا" معروف بسينما اطلس الصيفي والشتوي وسينما اخر صيفي عند حانة غازي لا أتذكر اسمه ربما كان سينما السندباد الصيفي اختفى لاحقا بعد هدم جل بنايات تلك المنطقة وبعض البنايات الأثرية حضرت فية فلما إيرانيا مدبلجا الى اللهجة العراقية " ابو جاسملر"عن طريق ممثلي فرقة مسرح بغداد الواقع في احد الشوارع الفرعية من شارع السعدون ليس بعيدا من سينما بابل او النصر في العاصمة. وكان في تلك الفترة من عام 1960 قد صدر امر بمنع استيراد الأفلام المصرية مما ادى الى استيراد متزايد للأفلام الإيرانية والهندية وافلام من لبنان. وقد شهد هذا الشارع اندلاع حوادث تموز عام 1959 الأليمة التي راح في ضحيتها خيرة ابناء المدينة وغرس روح العداء بين مكونات نسيج سكانها التعددي الثقافي والعرقي والعقائدي. سينما أطلس الصيفي والشتوي بقت الى سنوات كثيرة ملجأ لأبناء كركوك يهرعون اليها لمشاهدة الافلام حيث كانت مقاعدها الأمامية مصطبات خشبية طويلة وسعر البطاقة 40 فلسا في حين كان مقاعد الطابق العلوي يكلف المشاهد 70 فلسا. هذا الدار قل أهميته بعد ان قرر أصحابه بناء سينما صلاح الدين في نهايات الخمسينيات في شارع الجمهورية وافتتح في الستينيات بفلم تركي مدبلج الى العربية عن الفاروق عمر بين خطاب.
أما شارع الأوقاف الذي كان يبدا عند مقهى احمد آغا وتنتهي عند ساحة المحاكم ( هذه الساحة شهدت إعدام كوكبة من الشهداء اتهموا بمجازر ايام الثلاثة العصيبة من تموز 1959 الأليمة وواقع الأمر ان العديد منهم لم يكن له أي علاقة بتك المجازر ولكن انقلابي 1963 الفاشيون ارتأوا إخراجهم من سجونهم وإعادة محاكمتهم صوريا وإعدامهم جماعيا). كان سينما العلمين يقع في هذا الشارع وقد عانى دار السينما التخريب في تلك الايام العصيبة التي مرت على المدينة وابنائها الكرام. وكانت هناك العديد من محلات الأجهزة المنزلية "الساقي، الخطاب، حاجي محمد" والعديد من المحلات الأخرى وكان هناك مخبزا في احدى فروعها لصاحبة احد الارمن القادمين من تركيا اثر المجازر التي حل بهم ابان حرب تحرير تركيا مع نهايات الحرب العالمية الاولى. كان هذا المخبز متخصصا ب "لحم العجين" التي كانت تكلف 25 فلسا.
لم يكن هناك أي مكتبة في هذا الشارع في حين كان هناك شارع موازي لهذا الشارع يقع فيها سينما الحمراء الصيفي والشتوي وفي نهاية هذا الشارع كان محل لبيع الطوابع لا أتذكر مع الأسف اسم صاحبه وكان يكنى ب ابو سامي ولعله كان ممرضا في مستشفى الجمهوري الواقع في الطريق المؤدي الى ساحة الزعيم والمتجه الى بغداد. لا زلت احتفظ ببعض من طوابع العهد الملكي والعهد الجمهوري الى 1968 اقتنيتها في هذا المحل لحد يومنا هذا.
كان هناك محلا لبيع الكتب القديمة قرب سوق الهرج في بدايات شارع اطلس. اما شارع الجمهورية آنذاك فكان هناك مكتبة يملكها والد صديقي الرسام يلماز الهرمزلي الذي احتفظ له صورة شخصية لي "بورتريت"خطها بقلمه ولكن لم تكن هذه المكتبة تحوي على الكثير من الكتب وخاوية على الاكثر الا من بعض المجلات والقرطاسية. اما مكتبة الغد الجديد فكان يديرها السيد عبد الجبار الزهيري. افتتح مكتبة اخرى باسم الطليعة "اسو" بعد سنوات واضن كان بعد اعلان بيان الحادي عشر من اذار عام 1970 وكانت تقع مقابل تلك المكتبة القديمة كانت تعج بالمثقفين طالبي الأدب ومن قرائها وتزخر بأمهات الكتب في سبعينيات كمثيلتها التي كانت في بداية شارع السعدون في بغداد "مكتبة الطليعة".
وكانت لدور السينما دورا مهما في حياة الاجتماعية والترفيهية للمدينة التي كانت تخلوا من البارات والملاهي الا ما ندر. اما في الأعياد فقد كانت ساحات المدينة تتحول الى اماكن للهو للصغار وتزدحم دور السينما بالرواد بينما تجد هناك سينمات صغيرة تعرض افلام شارلي شابلن، وكانت لأعياد في المدينة طعما اخر اختفى العديد من مظاهرها ويحدثنا الشاعر الكركوكي المجدد حسين ابو سعود عن أعياد تلك الايام قائلا:
"واكاد اجزم بان اعياد ايام زمان كانت اجمل من اعياد هذا الزمن الصعب، يوم كنا نستعد للعيد قبل مجيئه بايام بشراء الملابس الجديدة واهتمام النسوة بصنع الكليجة حيث يجتمعن كل يوم في دار لمساعدة اهلها في اعداد صواني الكليجة ثم طقوس الذهاب الى الفرن واعادة الكليجة المطبوخة في قدر او زنبيل ومحاولة استغفال الوالدة في الطريق واكل ما يمكن اكله من الكليجة الحارة الشهية ،وكم كان الواحد منا يتمنى لو تتاح لبنت الجيران الاثيرة فرصة المجئ الى البيت بحجة المساعدة في اعداد الكليجة لعله يحظى بنظرة او ابتسامة او لمسة ، وعلى ذكر الكليجة يقال بان صحفيا سأل احد المسئولين العراقيين في الخارج عن اماكن تواجد التمر فقال في الكليجة"
الحدائق العامة كانت أماكن مهمة لقضاء الوقت والتسلية في المدينة ولكنها لم تتحول في ذلك الزمان الى مكان يرتاده العوائل فكانت خاوية معظم الأوقات واهم حديقة تاريخية في المدينة هي حديقة المجيدية التي كانت بوابتها تعلوها يافطة مرمرية كتب عليها بالتركية القديمة "الأبجدية" مجيديه باغجاساي أزيلت لاحقا تحت مبررات قومية فاشية كما ازيلت العديد من المباني التراثية للمدينة التي بنيت ابان العهد العثماني. هناك حديقة كبيرة، ام الربيعين، في الطريق المؤدي الى مدينة اربيل ينتهي ببيت القاضي في أعلى التلة وكانت مدينة كركوك تنتهي عند اول ساحة بعد هذا المرتفع اذا كان هناك معمل للكوكا كولا الذي أشرت اليه في بداية كتابتي هذه ولم يكن هناك معامل او مصانع في المدينة الا إني أتذكر وجود معمل للطابوق الاجر باسم معمل" اسطه هوبي". ولم تكن هناك العديد من الدور السكنية الى ان نصل الى قرية دارامان. اذ يعتبر حي رحيم آوى حديثا بالنسبة للأحياء الاخرى. وكنت تشاهد بيت شامل اليعقوبي رئيس بلدية كركوك على إحدى التلال الواقعة بالمقربة من ذلك المعمل. حديقة ام الربيعين تنقسم الى جزأين تمتدان على طرفي و بامتداد الشارع وقد كان هناك حمامان احدهما للرجال باسم المرحوم داود أبناء المرحوم سليمان داوود سعيد والأخر باسم ابنته نوال. وكذلك مسبحا عاما.
الحمامات كثيرة في المدينة وقد كان أكثرها للرجال ويخصص يوم للنساء. وقد كانت أمكنة مهمة للقاء والتعارف وقد تم العديد من الزيجات في أجوائها اذ كان مكان يلتقي فيها النسوة ويخترن زوجة لأبنائهم.
الغريب ان مقابر المدينة كانت أيضا مكان للاجتماعات واللقاءات وكانت مقابر مصلى ، عب عولك، مقابر اليهود والمسيحيين، مقبرة الشهداء، سيد علاوي ومقبرة ملا عبد الله ومقبرة الحديديين . مزارات يلتقي فيه الناس خاصة ايام الجمع والأعياد. كذلك نجد العديد من التكيات للصالحين وأصحاب الطرق الدينية والمشايخ ك تكية الطالبانيين.
إذن لم كل هذه المحبة لهذه المدينة يتساءل المرء حتى بعد مرور خمسة الاف من السنين على رفع بنيان قاعدتها في قلعة المدينة تلك القلعة التي التي حمت أروح أبنائها ايام الخوف؟
جماعة او مجموعة أصدقاء:
للتاريخ أبعاد مختلفة وهي مجرد مجموعة حكايات يسردها المرء لحوادث الماضي ولكن التاريخ أيضا معاشات للحظة معينة وامتداد طبيعي لوجود البشر في مكان معين وفي ظرف معين وهناك بعدا غير مرئي للتاريخ وما نسميه القدر الذي لا يعرف كنه الا البارئ عز وجل. ان الزمن ها هنا نسبي جدا حيث نرى ان نوعية الزمن وليست طول الفترة الزمنية تاخذ اهمية في لقاء هؤلاء الأصدقاء ولا يهمنا مدى ارتباطهم ومنافستهم ببعضهم البعض ولا خصامهم او توادهم المهم ان لقائهم هذا اثمر نتاجا إبداعيا مرتبط بعناصر تواجدهم في بيئة مدينة كركوك آنذاك. البيئة نفسها تحولت الى هاجس وملهم لاستمرارية ابداعهم في المنفى . جماعة كركوك الأدبية تأسست بصورة عفوية حسب رأي الأديب زهدي الداوودي في منتصف خمسينات القرن المنصرم.
كان مجموعة من الشباب ذو الأفكار التقدمية ومستقلة من الموهوبون يلتقون في المقاهي والدور واماكن عامة اخرى ليتحاوروا في شتى مجالات الإبداع الإنساني من موسيقى وفنون وادب. الأديب زهدي الداوودي اطال الله في عمره احد ابرز أعضاء المجموعة بل من أوائل مجموعة "الأشقياء" يحدثنا عن تلك البدايات:
"تعرفت عام 1955 في مدينة طوز بالمرحوم موسى العبيدي وعبد اللطيف بندرأوغلي وآخرين، حيث أصدروا صحيفة سرية مكتوبة باليد بأسم صدى الواعي. وفي مدينة داقوق تعرفت بكل من المعلمين ابراهيم الداقوقي ومحمد خورشيد، حيث كانا يشجعانه على الكتابة ويزودانه بأعمال الكتاب الروس والأمريكان الصادرة في سورية. وفي تلك السنة تعرفت كذلك بالمرحوم قحطان الهرمزي، الذي جاء ليدرس في ثانوية طوز بحكم وظيفة والده هناك، وتعرفت من خلال في سفراتنا الأسبوعية الى كركوك بكل من أنور الغساني، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي، يوسف الحيدري وعلي شكر البياتي، نورالدين الصالحي وبكر وطارق وصلاح وجليل القيسي والأب يوسف سعيد وغيرهم، فتجمعنا في حلقة أدبية سرية معارضة للعهد الملكي، أطلقت على نفسها بالبداية أسم (جماعة أبناء الشقاء)، عرفت فيما بعد على نطاق العراق بجماعة كركوك... فمثلا أن المؤسسين الاوائل الذين كانوا يسمون أنفسهم بجماعة أبناء الشقاء هم قحطان الهرمزي، يوسف الحيدري وزهدي الداوودي وحين تركنا هذا اللقب تكاملت المجموعة بانضمام كل من أنور الغساني، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي. كان هذا بين العامين 1954 و1955..
والجدير بالذكر ان الشاعر فاضل العزاوي الذي يعتبر شاعرا مجددا وروائيا بارعا قد ذكر وبالتفصيل الكثير من أحوال تلك الجماعة في كتابه الموسوم "الروح الحية " وقد كتب لي في إحدى رسائله خبر صدور الطبعة الشعبية للكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مكان اخر يذكر الأستاذ فاروق ما يلي:
"....وقد قدم الأديب (فاضل العزاوي) الوفير من استذكاراته عن الفنان والشاعر انور محمود سامي المعروف ب الغساني في مقاله المطول المعنون بـ (أصدقاء السوء) الذي جعله أحد ملاحق كتابه السيروي (الروح الحية) تحدث فيه مفصلاً عن صحبته: انور الغساني ، قحطان الهرمزي، يوسف الحيدري، مؤيد الراوي، وزهدي الداودي فترة اواخر الخمسينيات، هؤلاء الذين وضعوا البذرات الأولى لتلك الجماعة الأدبية التي شغلت الناس والتي عرفت فيما بعد بـ (جماعة كركوك)..".
في مكان اخر يعالج الأستاذ فاروق مصطفى موضوع التسمية ب الجماعة الأدبية قائلا:
"إن جماعة كركوك لا تعني ان رابطة او جمعية جمعت أصحاب تلك الأسماء، إلا أن شيئا من هذا لم يحصل وشيوع مصطلح جماعة كركوك يعود الى أمرين رئيسيين : اولهما انهم ينتسبون الى مدينة كركوك وثمة وشائج ود وصحبة طيبة تجمعهم. وثانيهما يرجع الى محاولتهم تجديد الأدب العراقي وتحديثه وقد اثبت بعضهم الجدارة فـي هذا المضمار".
يقول احد ابرز وجوه الثقافية الكركوكية الشاعر جلال زنكابادي كصديق لتك المجموعة ومعاصر لهم و كشاهد على تلك الحقبة التاريخية:
"لاأحسب أدباء الستينات في كركوك (جماعة) بالمفهوم الأدبي الصائب؛ لأنهم لم يصدروا أيّ بيان أو برنامج مشترك، ولا حتى جريدة أو مجلّة تجمعهم.....
يسرد الأستاذ فاروق مصطفى في لقاء له مع رزكار شوانى في جريدة الاتحاد حول لقاءه مع المجموعة قائلا:
"دخلت عالم (جماعة كركوك) عن طريق (جان دمو) جواب الشعر والمتسكع الأبدي ففي احد الأيام صعدت وإياه إلى مقهى المدورة (في الوقت الحاضر كافتريا المنورة) واقتربنا من مائدة كان يجلس عندها المرحومان (يوسف الحيدري وجليل القيسي)، وبعد تعارفنا تجددت اللقاءات بيني وبينهم وعرفت بعد ذلك الشاعر (مؤيد الراوي) يقيم الآن في ألمانيا كنت التقي به في مقهى المجيدية والتقيت بسركون بولص ثم صلاح فائق، أما الأستاذ أنور الغساني فكنت أعرفه سابقاً لأنه كان مدرسي في مادة التربية الفنية في المتوسطة الشرقية، وبالنسبة إلى الأب يوسف سعيد كان راعياً للكنيسة الواقعة عند مشارف (ساحة العمال)، جان دمو ينقل اليه كتاباتنا من قصائد وقصص، هاجر إلى السويد والتقى هناك به صديقي الرسام المغترب محمد جلال، أما (فاضل العزاوي) فالتقيت به في بغداد وجالسته طويلاً في مقاهيها الأدبية وهو الوحيد الذي لم تتوطد صداقتي معه، أما البقية فقد صادقتهم جميعاً وتوطدت أواصر الود ووشائج المحبة بيننا،ومازلت علاقتي قوية مع الشاعر صلاح فائق الذي يقيم حاليا في الفليبين وقد تحدثت طويلاً عن أولاء أبناء الشمس وعشاق البحر في كتابيَّ: (جماعة كركوك والاستذكارات الناقصة وتسكعات الفقير الكركوكي وايامه المنهزمة).").
اعد الداوودي مع صديقة العزاوي القائمة التالية للرواد الأوائل لجماعة كركوك:
1. يوسف الحيدري (1934 – 1993)
2. قحطان الهرمزي (1936 – 2009)
3. أنور الغساني (1937 – 2009 ) كان اسمه في البداية ( أنور محمود سامي)
4. فاضل العزاوي (1940)
5. مؤيد الراوي (1939)
6. زهدي الداوودي (1940)
7. جليل القيسي ( 1937 – 2006 )
8. الأب يوسف سعيد (1936)
9. محي الدين زه نكنه
10. صلاح فائق (1940)
11. سركون بولص (1944- 2007)
12. جان دمو (1943- 2003)
13. عبد اللطيف بندر اوغلو (1937- 2008)
كانت الجماعة تعقد اجتماعات سرية منتظمة قبل ثورة 14 تموز عام 1958. قررت المجموعة إيقاف نشاطاتها بعد ان القي القبض على المرحومان الأستاذ الغساني والهرمزي. وكانوا ينشرون نتاجاتهم الأدبية في الصحف المحلية وساهم بعضهم في تحرير مجلة الشفق الصادرة في كركوك، التي كان يشرف على قسمها العربي القاص عبد الصمد خانقاه.
بعد ثورة 14 تموز 1958 توسعت الجماعة وضمت مجموعة من النشيطين في الميدان الثقافي منهم علي حسين السعيدي ونور الدين الصالحي وعصمت الهرمزي وغيرهم. رغم ان بوادر تجمع مجموعة من شباب كركوك "جماعة أبناء الشقاء" بدا ابان الحكم الملكي وقبل ثورة 14 من تموز 1958 على أسس سياسية وأدبية. استمرت على الأقل فكريا على نفس النهج إبان سنوات الثورة حتى انقلاب شباط عام 1963 الذي ادخل البلاد في نفق مظلم لا يزال اثره يعمل بنفوس الناس وينخر ذاكرتهم. على اثرها تم القاء القبض على كل من أنور الغساني، فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وأما زهدي الداوودي، فالتحق بالثورة الكردية وما لبث أن ألقي القبض عليه في تموز 1964 ونفذ بحقه الحكم الغيابي الصادر من المجلس العرفي الرابع لمدة سنتين، قضى محكومتيه في سجون بعقوبة والرمادي والحلة، حيث ترك السجن الأخير تاركا وراءه رفاقه : فاضل ثامر، يوسف الصائغ، جاسم محمد الجوي، مظفر النواب، هاشم صاحب، نعيم بدوي، ألفريد سمعان، صادق قدير الخباز و هاشم الطعان وغيرهم وذلك في آب 1966.
رفاق الأمس في سجن حلة المركزي عام 1966
كان كل من أنور وفاضل ومؤيد قد أطلق سراحهم في نهاية العام 1963 اثر انقلاب تشرين من نفس العام الذي قام به المشيرعبد السلام عارف على البعثيين حيث بدا بزيارات مكوكية الى المدينة وعلى اثرها تم تنفيذ الإعدام بكوكبة من المناضلين الكورد اتهموا بالمشاركة في حوادث تموز 1959 التي سآتي لاحقا الى ذكرها. هؤلاء الأصدقاء عملوا مع رفيقهم سركون بولص خلال الفترة ما بين اعوام 1964 - 1966 في الصحافة الرسمية والقيام بضجة في الوسط الأدبي الذي حكم عليه إنقلابيوا شباط من البعثيين بالركود. نجحت المجموعة في إنعاش الحياة الثقافية والأدبية بالحداثة والحيوية. ولكي يتم تمييزهم عن أدباء الألوية المتجمعين في بغداد، أطلقوا عليهم لقب (جماعة كركوك). الحركة الأدبية والفنية ومنذ ذلك اليوم ولحد يومنا هذا لا تزال المدينة تقدم قافلة من المبدعين و تفتخر ببروز العديد من الفنانين التشكيلين والأدباء الذين رفدوا الحركة الأدبية العراقية بأسماء لامعة شاركت في نهضة الحركة الأدبية الإبداعية وطورت في حركات تحديثية لكسر طوق ذلك التقليد الأعمى للموروث الأدبي الكلاسيكي. نرى هنا بان تسميات جديدة لتلك الأسماء أللامعة تذكر كما هي عليها في تسمية جماعة كركوك الثانية . لكننا نرى بان الجماعة في واقع الأمر آثرت على مجمل الحركة الأدبية في المدينة ليس فقط بروادها الأوائل بل بتأسيس تقليد أدبي جديد وتطوري في المدينة أخذت بالمشاركة في مسيرة الثقافية العراقية والعالمية. ونرى ان أثر الحركة لا يزال فعالا ونشطا لحد يومنا هذا.
ان الكثير من أدباء المدينة المعاصرين لتلك الفترة التاريخية لم يحظوا بالمعاملة المتساوية من قبل الباحثين والدارسين ولعل أدباء امثال زهدي خورشيد الداوودي و قحطان الهرمزي ، محيي الدين زنكَنه وعبد الطيف بندر اوغلو، يوسف الحيدري وعلي حسين السعيدي وحسين علي الهورماني و نور الدين الصالحي عصمت الهرمزي وعباس عسكر وصلاح فائق و علي شكر السباتي سعيد أفضل أمثلة على ذلك. هنا سأكون على حياد تام فيما يخص الانتماءات السياسية والفكرية للأدباء آنذاك في محاولة لطرح موضوعي للعملية الإبداعية من ناحية ومن ناحية اخرى ارى بان السلوك البشري يعكس تماما كنه الأنظمة التي تعيش في كنفها كنتيجة لتفاعلات وانعكاسات ثقافة الأحزاب الشمولية وحكومات العسكر الفاشيين على كافة نواحي الحياة هؤلاء الذين حولوا البلاد الى سجن كبير لابناء الشعب.
يقول الأديب زهدي الداوودي في تأبينه لصديقه قحطان الهرمزي ما يلي:
. كان صامتا، خجولا، متواضعا، نادرا ما يتحدث عن نفسه، وإذا تحدث فعن حق، قال ذات مرة في معرض الحديث عن الأدب في كركوك:
" أنا أسست جماعة كركوك" سالني أحد الأصدقاء الشباب بتهكم عن حقيقة هذا الكلام، ذلك أنه لم يعرف من هو قحطان الهرمزي. قلت: إذا كان ثمة مؤسس حقيقي لجماعة كركوك، فهو قحطان الهرمزي، الذي تناساه معظم الذين كتبوا عن جماعة كركوك، سواء عمدا أم جهلا. وأرجو أن يكون السبب هو الأخير.
يقول المرحوم قحطان الهرمزي في مقابله معه أجراه مصطاف عباس لجريدة الأديب الثقافية البغدادية العدد 153 – 10/10/2007:
"اجل انا كنت وما زلت من جماعة كركوك، وهذه الجماعة لم تكتسب ابدا الصفة القانونية كجمعية او تجمع او جماعة وانما ظلت صداقات مستديمة بين عدد من الأدباء الذين انتحلوا لقب الجيل الستيني فيما بعد، ويجدر الإشارة هنا ، انا مؤسس هذه الجماعة في أواسط الخمسينيات بالتعاون مع الأديب المرحوم يوسف الحيدري الذي لازمني صداقته حتى وفاته...."
يقول الهرمزي على لسان إحدى شخصياته في مسرحية الغلاف الأخير من مجموعة قارب في الصحراء ـ اربع مسرحيات جادة / كانون الثاني 2005
"لقد اعتدت الأمر وأصبحت لدي قناعة كافية بأن النجوم والأقمار في الليل ، والشمس في النهار لا تشع للبؤساء ، ولكي أبرهن لكم على أن الوهم ليس هو الذي قادني الى هذا الظن ، فيكفي أن أقول أن الوهم نفسه تخلى عني ، لم أعد أتوهم بأن الأرصفة والشوارع والجبال والوديان وقلعة كركوك كانت لي يوما ً"
طيور أمسيات الأربعاء البيضاء
تطارد في شهر كانون أيامي المحطمة
فوق منارة (داقوق)
تحط الطيور
وتطير
لا يهمني ذلك البته
ولا يهمني هذا النشيد المفرط
في العواطف
هل تنام أشجار الصفصاف
أم تتجول، لا أعرف ؟
لماذا لا يعود جاري
إلى عشه
الذي غادره قبل مائة عام ؟
لماذا لا يمتد الزمن إلى مواسم العشق ؟
ولم لا يختصر عمر الأحزان ؟
أين هو ذاك الذي كان في كل مكان
من يدري؟
كركوك 1936
اما الشاعر صلاح فائق سعيد الذي يعود اصوله الى مدينة كفري ومن موليد مدينة كركوك عام 1940 بدا حياته الأدبية بالنشر في مجلة العاملون في النفط وفي عام 1975 نشر باكورة إنتاجه الشعري في دمشق ديوان "رهائن" . هاجر الى بريطاني ومن ثم الى الفلبين ومن المعتقد انه لا يزال هناك.
فهو القائل في ديوانه اعوام: "لو أني في كركوك الآن لزرت ضريح احد الأولياء وربطت خرقا ملونة بسياج قبره القديم"
و في قصيدته " ايام" تراه ينشد قائلا عام 1973:
ابتعد الطائر الأخير
ابتعد العشب الذي لا يطاق
ابتعد مطر و ابتدأ عقاب المسافرين
ابتعدت العربات الأخيرة.
إني في سنة تراقب عقلي
إني سارق الدُمى
إني الذي كان يقرع الطبل
و في القتال كنت أنا الذي يوزع النبيذ.
للبيئة اثر كبير على إبداع الأدبي والفني ولكي نفهم طبيعة الإنتاج الأدبي علينا معرفة حنايا تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها الأديب او الفنان.
كان المرحوم يوسف الحيدري من رواد المؤسسين لهذه الجماعة الا انه بقى في سلك التعليم 27 عاما ولم يكتب الا القصة القصيرة التي استمد شخصياتها من واقع المدينة ويعتبر احد المجددين في القصة العراقية. ان التصورات الأولية البديهية وما يسمى بالنظرة النمطية للأمور خاطئة اذا لم يتم دراسة المكان والحدث وانعكاساتها على مضمون الأدب الإبداعي. إننا اليوم نرى الأمور وببساطة تحت مجهر معلوماتنا وعلومنا الحديثة. أما حوادث الماضي فيعتمد كليا على ما كان جاريا ومعروفا ومقبولا في تلك الفترة الزمنية من التاريخ أليس التاريخ أضحوكة لو تكررت حوادثها؟.
يذكر الكاتب القدير عوني الداوودي ما يلي عن احد أدباء المجموعة " الأب يوسف سعيد:
"... جعل من الكنيسة مكاناً للاجتماع ، واللقاء ، والنقاش حول القصيدة والجديد في الأدب العالمي . وتحتل كركوك مكاناً خاصاً في ذكرياته ويحدثه الاب يوسف سعيد الذي قضى الفترة من عام 1955 الى 1971 في كركوك قبل ان يرحل عنها متوجها الى بيروت قائلا :