الدستور التركي (الجديد): إعادة إنتاج النسخة القديمة بنكهة أقلّ عسكريّة!
    الخميس 9 سبتمبر / أيلول 2010 - 23:07:16
    هوشنك أوسي
    الدول بدساتيرها، وكذا الأمم والمجتمعات، لكون الدستور، هو العقد الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، الثقافي، الاخلاقي، والقانوني...، الذي ينظّم العلاقات بين الأفراد والمجتمع، وبين الاخير والدولة، بما يضمن حقوق الكلّ على الجزء، ويحصّن حقوق الجزء لدى الكلّ، وينظّم العلائق بين السلطات، ويضبط واجبات وشراكات الأفراد والجماعات القوميّة والدينيّة والمذهبيّة والطائفيّة في صيرورة وإدامة التواصل والاندماج الوطني، في عمليّة إنتاج الدولة. ومتى كان الدستور، في المجتمع الموزاييكي الفسيفسائي، معبّراً عن مصالح وهويّة قوميّة أو دين أو مذهب أو طبقة أو فئة معيّنة، فهذا يعني، بالضرورة، إنّه لا يلغي الآخر _ الشريك الوطني والحضاري _ فحسب، بل يسعى إلى صهره وإذابته ودمجه في بوتقة القوميّة، صاحبة السيادة والريادة والمبادرة والمصلحة في هذا الدستور. وعمليّة الصهر والإلغاء والإذابة القسريّة تلك، تتم، بضمانة وحصانة دستوريّة. وعليه، دساتير من هذه الطينة، إطارها الاستبداد، وتستنبت الطغمة، وتغذّي وتشرعن الأزمات، وتزيد من الاختناقات السياسيّة والاجتماعيّة الاقتصاديّة، ذات الطابع القومي أو العرقي أو الديني أو المذهبي أو الفئوي.

    قبل ثلاثة سنوات تقريباً، ذكر حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا، أنه يعتكف على صياغة دستور مدني جديد لتركيا، سيطرحه على البرلمان التركي للتصويت بغبة التصويت عليه. وصار هذا الخبر، حديث الساعة التركيّة، وقتئذ. وخلال تلك الفترة، كانت لكاتب هذه السطور حول هذه القضيّة، وقفة، في سياق تناول الشأن الكردي في تركيا وتفاعلاته، وما يتعلّق بالكثير من التساؤلات حول الدستور الجديد. وذلك، ضمن مقال، نشرته صحيفة "الحياة" يوم 13/10/2007، حمل عنوان؛ "تركيا وأكرادها: مراوحة أم قفزة نحو المستقبل؟". اختتمت هذا المقال، بطرح التساؤلات التاليّة: "بعيداً عن الـ»يمكنات» التي تطلق حول الدستور التركي المرتقب، وتطالب بـ»التعقُّل الاستباقي» من الأكراد، والتفاؤل المفرط إزاء المسعى الأردوغاني الحالي، هل سيبقى الدستور الجديد، دستور الهوية الملتبسة، والتحايل على الأزمات الداخلية، ويكتفي بتحصين وتدعيم خنادق انقلاب الإسلام السياسي على العلمانية، على طريقة الانقلابات السابقة في صياغة الدساتير، ما يعني أنه لن يتعدَّى كونه صدى للنسخ الثلاث التي سبقته؟، أم سيصاغ بعيداً من ثكنات العسكر ونياشينهم المرعبة؟، ليكون دستور التعددية الحقيقية، المرتكز على الموزاييك الحضاري التركي واستحقاقاته الوطنية الديموقراطية، فيغدو المدخل أو المعبر العريض نحو المستقبل الأوروبي، معلناً بذلك ميلاد الجمهورية الثانية في تركيا؟.".

    بعد فترة وجيزة من ذكر العدالة والتنمية أنّه مزمعٌ على إطلاق دستور جديد، وما أثاره من حديث، فجأةً، توقّفت المناقشات والتداولات الاعلاميّة حوله، مع دفع الكثير من المراقبين الى القول: إن الدستور المدني، كان خدعة سيمانيّة من التي يجيد أردوغان إطلاقها!. حتّى بدأ الحزب الاردوغاني، مطلع هذا العام، بإثارة الحديث مجدداً عن الدستور الجديد. وبل طرح على البرلمان، مشروع إصلاحات دستوريّة، رافقها بحملة إعلاميّة، دعائيّة هائلة في الإعلام التركي، والعربي والعالمي، على أن تركيا مصممة على سنّ دستور مدني، ديمقراطي، جديد!. والحقّ أن الدستور التركي الحالي، الذي صاغه انقلابيو 12 أيلول، سنة 1982، والذي يتضمّن 177 مادّة أساسيّة، لم تطال التعديلات الاردوغانيّة إلاّ 26 مادّة فقط. ورغم ذاك، سوَّق الإعلام التركي المرتبط بحزب العدالة والتنمية لهذه الاصلاحات على أنها دستور، مدني جديد!. وبعد أن طرح مشروع الإصلاحات الدستوريّة على البرلمان، ولم ينل النسبة التي تخوّله التمرير، اضطرّ الحزب الحاكم الى عرض "الدستور الجديد" على الاستفتاء، يوم 12 من الشهر القادم، في إشارة رمزيّة الى "مناهضة" حكومة أردوغان لانقلاب 12 أيلول سنة 1980 العسكري!. وأن الحكومة غير "خاضعة"، وبل "مناوئة" للجنرالات!.

    ومعلوم أن الدستور التركي، صيغ أوّل مرّة، سنة 1924، بُعيد انهيار الدولة العثمانيّة، وبداية العهد الجمهوري بقيادة مؤسسه مصطفى كمال أتاتورك. وسعت النخبة الحاكمة، عبر هذا الدستور، إلى إنتاج دولة قوميّة من مخلَّفات وبقايا التركة الجغرافيّة والبشريّة للإمبراطوريّة العثمانيّة. وكان من مستلزمات تأسيس دولة قوميّة، إيجاد أمَّة تركيّة. ورغم أن أتاتورك، وعد الأكراد بأن الدولة الناشئة هي مشروع شراكة كرديّة - تركيّة، إلاّ أنه فسّر المواطنة من منطلق إثني، وحصرها في "الانتماء التركي"، ما دفع الأكراد للانتفاض عام 1925 ضد التفسير الكمالي، وانتهت الانتفاضة بالسحق الدموي وإعدام زعيمها الشيخ سعيد بيران. وارتكزت التطبيقات العمليّة للدستور الأوّل، بغية خلق أمَّة تركية، على السعي لإذابة وصهر كافة الأقليّات القوميّة في بوقة العنصر التركي. وقد عُدِّل الدستور سنة 1937 بأن ثُبّتت فيه المبادئ الستة لحزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه أتاتورك، وهي: «الجمهورية، القوميّة، النزعة الشعبيّة، الدولتيّة، العلمانيّة، الإصلاحيّة» كمبادئ مقدّسة. ما جعل نقد هذه المبادئ، ضرباً من الخيانة. وحتى 1946، لم يعط الدستور الأوّل تفسيراً واضحاً في ما يتعلَّق بالتعدديّة الحزبيّة، عندما أقِرَّ في عهد الرئيس عصمت إينونو، ناهيك عن العطالة التي شابت مبدأ الفصل بين السلطات، ما رجَّح كفَّة المؤسسة العسكريّة والنخبة البيروقراطيّة الحاكمة، جاعلاً البرلمان تحت وصاية العسكر والمؤسسة القضائيّة. ومهّدت إضافة الفقرة الضامنة للتعدديّة الحزبيّة، إزاحة النخبة الحاكمة الممثلة بحزب الشعب الجمهوري عن الحكم سنة 1950، حيث استثمر الحزب الديموقراطي، بقيادة عدنان مندريس نقمة الأتراك على تخلُّف حزب الشعب الجمهوري عن وعوده الإصلاحيّة، ما اعتبره العسكر تطاولاً على القيم والمبادئ الأتاتوركيّة. فكان الانقلاب الأوّل عام 1960 بقيادة الجنرال جمال غورسيل. وبعد انقلاب 1960، طالب العسكر القضاة والمشرّعين بإعادة صياغة الدستور، بما ينسجم وضمان استمرار دورهم المحوري في الحياة السياسيّة. فجاء الدستور الثاني. وتوضّح الفصل بين السلطات أكثر في هذا الدستور، خاصة، ما يتعلق بالسلطة القضائيّة. فضلاً عن تشكيل المحكمة الدستوريّة العليا التي غدت الذراع القضائي للعسكر، بغية تصفية الحركات اليساريّة سياسيّاً، ومن ثمَّ الإسلاميّة والكرديّة. انقلاب 1971 لم يأتِ بدستور جديد، إنما استهدف تصحيح المسار السياسي المنحرف للطبقة السياسيّة الحاكمة، وفق رأي الانقلابيين!. الانقلاب الثالث في 12/9/1980، بقيادة قائد الجيش كنعان إفرين، الذي نصَّب نفسه رئيساً للدولة، أمر بصياغة دستور جديد سنة 1982. ويمكن اعتبار الدستور الثالث الذي أنتجه هذا الانقلاب، إحياء لهيبة العسكر في مواجهة المخاطر والأزمات الداخليّة التي تستهدف بنية الدولة. وهو الدستور المعتمد في تركيا حاليّاً. وقد عُرِضَ على الاستفتاء، لينال 92 في المئة من أصوات الشعب، ما عزز موقف الانقلابيين، وأضفى شرعية على دمويتهم حينئذ، وسط فقدان الشعب الثقة بالطبقة السياسيّة. ورغم أن دستور 1982 تماهى وبنية دستور 1961، بيد أنه اشتمل على تغييرات مهمّة، كإلغاء مجلس الشيوخ المؤلَّف من 150 عضواً، واتخاذ إجراءات دستوريّة فعَّلت أداء البرلمان، كانتخاب رئيس الجمهوريّة بالأغلبيّة المطلقة، في حال عدم تحقق غالبيّة الثلثين في الجلستين الأولى والثانية (وقد انتخب الرئيس الحالي عبدالله غُل بموجب هذه المادة). ولم يلغِ الدستور الثالث الاستناد الى مفهوم القوميّة التركية – الاثنيّة، ولم يعترف بالتنوّع العرقي أو الديني في البلاد. حيث جاء في المادة الثالثة من المبادئ العامة: «الدولة التركية، بأرضها وأمّتها، كيان غير قابل للقسمة، لغتها التركية». ودُعمت المادة الرابعة بالمادة الثالثة التي اعتُبرت غير قابلة للتعديل، وليس من المسموح اقتراح تعديلها مستقبلاً، باعتبارها من المواد التي تتمتع بالحماية خارج الدستور. كما أن التعديلات التي أجريت على هذا الدستور حتى يومنا، لم تمس المواد الثلاث الأولى. وحين أراد حزب العدالة والتنمية التنويه بالتنوع القومي والديني، بشكل غير مباشر، سنة 2004، فإنه أضاف تعديلاً للمادة العاشرة، تحت بند المساواة أمام القانون، جاء فيه: «كل الأفراد متساوون أمام القانون، بغض النظر عن اللغة والعرق واللون والجنس والمعتقد السياسي والفلسفي والديني والطائفي». فتح هذا الدستور والتعديلات المُدخلة عليه، تحت ضغط الاشتراطات الأوروبيّة، المنافذ أمام إدخال الإسلام في الحياة السياسيّة، بشكل رسمي، في خطوة لمواجهة التيارات اليساريّة الكرديّة والتركيّة.

    وحين أبدى حزب العدالة والتنمية، قبل ثلاث سنوت، نيّته على إطلاق دستور مدني جديد، كان نائب رئيس الوزراء، جميل تشيتشك، قد صرّح؛ أن مصادر الدستور المدني التركي الجديد، ستكون: "الاقتراحات القانونيّة للأحزاب السياسيّة، ومسوَّدة الدستور الأوروبي، وقرارات المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان"، في إشارة منه إلى إبعاد المؤسسة العسكرية عن صياغته. لكن، مسودّة الإصلاحات الدستوريّة (الدستور الجديد)، لم تأخذ، بمقترحات الاحزاب السياسيّة التركيّة، (حزب السلام والديمقراطيّة الكردي، الممثل في البرلمان نموذجاً)، ولا بالدستور الأوروبي الذي يعترف بالأقليّات القوميّة والدينيّة وحقوقها الثقافيّة والديمقراطيّة، ولا بقرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة التي نظرت حتّى الآن بـ13 ألف دعوى، رفعها مواطنون أتراك على دولتهم!. وهذه الاصلاحات، لم تمسّ جوهر الدستور، المتمثّل بموادّه الست الأولى، وبل سعت إلى زيادة الحريّات الفرديّة، مع الإبقاء على الطمس والإنكاء سارياً على الاعتراف بالجماعات القوميّة والاثنيّة (أكراد، عرب، أرمن، شركس، يونان، بوشناق، لاظ، روم...)، والدينيّة (مسيحيين، يهود، إيزيديين) والطائفيّة (العلويين، الشيعة) وحقوقها الوطنيّة الديمقراطيّة!. وبقيت المادة 66 تعرّف المواطن بـ»كل شخص يرتبط بالدولة التركية برابطة المواطنة هو تركي»، ما يعني لا زالت المواطنة محصورة بالانتماء للقوميّة التركيّة!. ويمكن تلخيص الإصلاحات التي أضفتها حكومة رجب طيّب أردوغان على دستور سنة 1982 بالنقاط التالية:

    · تمّ إضافة خاصيّة "الاجتماعيّة" الى بند خصائص الدولة. بغية إتاحة الفرص أمام كافّة الشرائح الاجتماعيّة. ووفق هذا التعديل، سيتمّ اتخاذ تدابير جديدة حيال تحسين أوضاع النساء، الأطفال، الشيوخ، شهداء ومعاقي الحرب، اليتامى، المشرّدين، المعاقين..، وزيادة الاهتمام بهم وتحسين أوضاعهم، بما لا يتعارض والدستور.

    · من الآن فصاعداُ، يحقّ لكل مواطن، المطالبة بالمحافظة على سريّة وإخفاء المعلومات المتعلّقة بحريّته الشخصيّة. كـ"الاسم، السنّ، العنوان، الوضع المدني، رقم الهاتف، رقم جواز السفر، الماضي الخاصّ، الصور، الصوت، بصمات الأصابع...، منعاً للاستثمار والتداول.

    · حرية السفر خارج البلاد، سيتم منعها بقرار من المحكمة، وأثناء فترة التحقيق والاتهام فقط.

    · إحداث محكمة لحقوق الانسان في تركيا، مرتبطة بالمحكمة الدستوريّة العليا، معنيّة بالنظر في قضايا حقوق الانسان والتظلّم التي يتقدّم بها المواطنون الاتراك امام محكمة حقوق الانسان الأوروبيّة. والقرارات التي تتخذها المحكمة الاوروبيّة تفرض على تركيا، دفع ملايين اليوروهات، كتعويضات للمتظلّمين. فمن أصل 120 ألف دعوى، نظرت فيها محكمة حقوق الانسان الأوروبيّة، ثمّة 13 ألف دعوى، رفعها مواطنون أتراك على دورلتهم، كما أسلفنا. ما يشكلّ إحراجاً شديداً لتركيا في المحافل الاوروبيّة.

    · سابقاً، كان يحقّ للعامل، الانتساب لنقابة واحدة فقط. من الآن فصاعداً، يمكنه الانتساب، لأكثر من نقابة.

    · للمرّة الأولى، يصبح فيه موظّفو الدولة أصحاب حقوق مثياق عام، يتساوى فيه المتقاعد مع من على رأس عملهم.

    · اتهام الموظّفين المتشغلين في الرأي والشأن العام، لن يكون إلاّ تحت سقف المحاكم، وبقرار منها.

    · تعديل بعض القوانين، بما يفسح المجال امام المواطنين في حلّ الكثير من قضاياهم ومشاكلهم إداريّاً، دون اللجوء الى دوشة المحاكم واجراءاتها، ما يقصّر زمن حصولهم على حقوقهم.

    · فتح المجال القانوني أمام دعوى التظلّم والطعن في قرارات مجلس الشورى العسكري. سابقاً، كانت المادّة 125، تنصّ على أن كل مؤسسات الدولة، متاح للواطنين التقاضي ضدّها، باستثناء قرارات وشؤون رئيس الجمهوريّة، وقرارات مجلس الشورى العسكري (أعلى هيئة عسكريّة في تركيا، تنظر في التعيين والترفيع والطرد والإحالة على التقاعد في المؤسسة العسكريّة). وعليه، كل الجترالات والضبّاط والعسكريين الذي طردوا من الجيش، بأسباب شتّى، لم يكن لديهم الحقّ في مراجعة القضاء، للطعن في قرارات مجلس الشورى العسكري. فمنذ انقلاب 1960 ولغاية الآن، تمّ طرد أكثر من 230 جنرال، وآلاف الضبّاط والعناصر من الجيش (أغلبهم طردوا بسبب ميولهم الاسلاميّة بالدرجة الأولى)، وفقاً لقرارات هذه الهيئة. والتعديلات الجديدة على المادّة 125، تضمن إمكانيّة طعن العسكري المتظلّم، في أي قرار صادر بحقّه، من مجلس الشورى العسكري، أمام القضاء.

    · خارج ظروف وشروط الحرب، لن يُقاضى المدني أمام المحاكم العسكريّة، من الآن فصاعداً. ومعلوم أن في غالبيّة البلدان المتقدّمة والديمقراطيّة، لا توجد محاكمات عسكريّة. حتّى العسكر، يتم محاكمتهم امام المحاكم المدنيّة. وفي بعض البلدان، المحاكم العسكريّة، تنظر فقط في مسائل الانضباط واتنهاك القوانين والقواعد العسكريّة فقط. ومع تعديل المادّة 145 من الدستور التركي، سيتم حصر مهامّ المحاكم العسكريّة بالنظر في العمليّات العسكريّة، والعسكريين فقط. ومقاضاة المتهمين بتهديد وحدة البلاد، واستهداف الدستور التركي، وامام المحاكم المدنيّة. وبالتالي، ستبقى محاكمة شبكة أرغاناكون أمام المحاكم المدنيّة. وثمّة تعديلات في ما يخصّ أصول المحاكمات العسكريّة أيضاً، في مسعى إضفاء الشفافيّة والحريّة والاستقلاليّة والنزاهة عليها.

    · مع تعديل البند الرابع من المادّة 125 من الدستور، لم يعد بإمكان أيّة مؤسسة تقويض وتحجيم حقوق السلطة، ولا تغيير قراراتها، بحجّة "المحاكمة في مكان الاختصاص".

    · المحكمة الدستوريّة العليا في تركيا، شأنها شأن المحاكم الدستوريّة الأوروبيّة، ستغدو ذات طابع ديمقراطي. حيث كانت هيئة هذه المحكمة مؤلّفة من 11 شخص. وبموجب التعديل الجديد، ستضمّ الهيئة 17 شخص. يعيّن رئيس الجمهوريّة 14 قاضياً. والثلاثة الباقيين، يعيّنهم البرلمان. سابقاً، كان قضاة هذه المحكمة، ورغم أنهم يحالون على التقاعد في سنّ 65، إلاّ أنهم يبقون يمارسون علمهم في المحكمة. أمّا التعديل الجديد، يحدد مدّة العضويّة في هذه المحكمة بـ12 سنة فقط.

    · الهيئة العليا للقضاء، ستعمل وفق المعايير الاوروبيّة، وتلتزم بالمعايير الديمقراطيّة. سابقاً، كان وزير العدل، ونوّابه ضمن سبعة أعضاء أصلاء، بالاضافة الى خمسة مؤقتّين، يشكّلون الهيئة العليا للقضاء. وبموجب التعديل، سيصل عدد أعضاء الهيئة الى 32 عضو، 22 أصيل، و10 نوّاب. يحقّ لرئيس الجمهوريّة تعيين أربع منهم، وستزداد صلاحيات وزير العدل في التأثير على دور وفعّالية الهيئة العليا للقضاء. ما يعني تأثير الحكومة. كما أجريت بعض التعديلات على المواد 144 و159 في ما خصّ تأطير دور وزير العدل في حالات التحقيق والتفتيش التي تطال موظفي الوزارة والمحاكم والسجون.

    · مع تعديل المادّة 15، سيتاح محاكمة الانقلابيي على الرأي العامّ. ما يعني إمكانيّة محاكمة قادة انقلاب 12 ايلول سنة 1980.

    · بتعديل المادّة 54، يتاح أمام العمال والموظّفين فرصة القيام بكافة أنواع الاضراب والاحتجاج على فرض الضرائب والقرارات الصادرة من الحكومة التي تمسّ أعمالهم ومداخيلهم. وسيمنح دور أكثر فاعليّة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. ما يعني أن غُرف التجارة والصناعة والحرف والمهن والنقابات...، ستكون شريكة أيّة حكومة في حماية الدستور والرقابة والحياة العامّة. ويصبح هذا المجلس تحت الحماية الدستوريّة أيضاً، لكونه أحدى مصادر الدستور.

    وعلى ضوء ما سلف: هذا الدستور ليس دستور جديد. بل هو إعادة انتاج للدستور القديم، بما ينسجم وسيطرة الحكومة على مؤسسة الجيش والقضاء التركيين. فلم يبقى مؤسسة من مؤسسات الدولة، ولم تقع تحت سيطرة ونفوذ حزب العدالة والتنمية، إلا الجيش والقضاء. وبهذه التعديلات، ستصبح كل مفاتيح تركيا ومؤسساتها في جيب أردوغان وفريقه. ما يمنحنا الفرصة للقول: إن دستور سنة 1982، حين حصل على نسبة 92 بالمئة في الاستفتاء، وقتئد، سيحصل دستور أردوغان، هو أيضاً على نسبة عاليّة، وسيمرر. ما يعني إن تلك الاصلاحات، كانت عمليات ماكياج من جهة، وإجابة على التساؤلات التي طرحتها في مقال يوم 13/10/2007، الآنف الذكر. وأن الدستور "الرابع" هو دستور الإسلام السياسي، بنسخة أتاتوركيّة، أقلّ عسكريّة، وأقلّ علمانيّة، أكثر منه دستور مدني، ديمقراطي، يحترم الواقع الموزاييكي الحضاري، الاجتماعي والثقافي في تركيا. ما يبقي على القضايا القوميّة في تركيا، وفي مقدّمها، القضيّة الكرديّة، دائمة التوتر والاشتعال.

    أياً يكن من أمر، فهذه الإصلاحات، أفضل مما كان موجوداً. لكن، المأمول من حكومة العدالة والتنمية كان أكبر وأكثر. وكان بإمكان الحزب الحاكم، تقديم والسعي إلى أفضل مما طرحه من حزمة الإصلاحات تلك. وصحيح أن رفض التيار السياسي الكردي لهذه الاصلاحات، يتقاطع مع رفض حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القوميّة المتطرّف لهذه الإصلاحات، إلاّ أنه من الغباء والبلاهة، الجمع بين الرفضين في سلّة واحدة. لجهة اختلاف منصّتيّ الرفض التي يقف عليها الطرفان الرافضان. فالاكراد، يقاطعون الاستفتاء، ويطالبون بالاعتراف بهم وبقيّة الشعوب الاخرى في تركيا، وتضمين حقوق هذه الشعوب، السياسيّة والثقافيّة في الدستور. بينما الكماليست والقوميين المتطرّفين الأتراك، يشاركون في الاستفتاء بقول: لا!. ويرفضون هذه الإصلاحات من حيث المبدأ. ويبدو أن رفض القوميين الأكراد، والقوميين الأتراك، لهذه الاصلاحات، ستهذب أدراج رياح الإسلام السياسي، الذي تعصف بتركيا، وتزداد، بحكم الدستور الجديد _ القديم.



    أثينا _ هوشنك أوسي
    كاتب في الشؤون الكرديّة والتركيّة
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media