أقرّها القانون .. وأنكرها العرف الاجتماعي
    حقوق الغجر خلف جدران المناطق المعزولة
    الأثنين 2 يونيو / حزيران 2014 - 05:41
    بغداد: بشير خزعل (الصباح) - قرب بوابة بغداد الشمالية في الطريق المؤدي الى محافظة ديالى تنتشر بعض البيوت الطينية والخيم بشكل متفرق وعشوائي، وبعض (بيوت الشعر) هي لبدو رحل يمتهنون رعي الاغنام  فيما تجد بعض البيوت الغجرية ملاذا للعيش تحت هذا المسمى تخلصا من الملاحقة والاعتداءات التي اصبحت تطالهم بشكل دائم منذ عشرة اعوام، فالدولة العراقية  منذ بداية تأسيسها لم تعترف بالغجر كطيف اجتماعي، وفي تعداد العام 1957 ذكروا على انهم  تجمعات تمتهن الرقص والغناء وتعيش حياة الترحال ولم يمنحوا الجنسية العراقية الا في سنوات الحرب العراقية الايرانية اذ التحق المئات من ابناء قبائل الغجر بوحدات الجيش.

     بلا هوية
    بعد تغييرالنظام الحاكم في العام 2003 تعرض الغجر الى حملة تهجير من قبل جهات متشددة من اغلب المناطق التي كانوا يسكنونها في جنوب شرق العاصمة بغداد وخصوصا في منطقة (الكمالية)، وتوزعوا بين بعض المحافظات الجنوبية في الديوانية والناصرية ومدن اخرى، فيما استقر قسم اخر منهم في المناطق القريبة من قضاء ابوغريب، ابناء الغجر ومن اعمار مختلفة من 7 - 25 عاما يعانون من ازمة الهوية، فحتى من كانت لابيه وامه جنسية حصل عليها في ثمانينيات القرن الماضي  لم يستطع من خلالها ان يحصل على اوراقه الثبوتية او حق الحصول على الوظائف و دخول المدارس والجامعات، فهوية الاب والام مخجلة ولايعيرها ابسط موظف في الدولة اي اهتمام، كما ان القانون اكتفى بتصنيفهم في السجلات بكلمة ( غجري) فقط، الامر الذي ابقى اغلب ابنائهم من دون تعليم.

    معاناة انسانية
    لم يكن العثور على بيت احدى العوائل الغجرية التي تعيش بالقرب من منطقة (بوب الشام) القريبة من مدينة الشعب ‏شرق العاصمة امرا سهلا، فهم يعيشون في حالة تخف حتى لا يتم طردهم من قبل السكان او جهات متشددة، ‏حنون مشاري (55) عاما رب اسرة تتكون من ستة اولاد، اربع بنات وولدين، تحدث عن معاناته كغجري مع الوضع ‏الاجتماعي والقانوني اذ يقول : جئت الى بغداد مع ابي في العام 1975 اذ كنا نعيش في قرية ( سويدة) في محافظة ‏ميسان وسكنا في اطراف مدينة بغداد قرب الرستمية ثم استقر الحال بنا في منطقة ( الكمالية)، كنت اعمل عازفا ‏على آلة الربابة وابي يجيد الغناء والعزف ايضا ونحيي حفلات الاعراس والاعياد والمناسبات الخاصة، بعد العام 2003 تغيرت اوضاعنا  بشكل كبير و‏تعرضنا الى التهديد من قبل بعض الجهات، واضطررنا الى ترك بيوتنا وبيعها بابخس الاثمان بعد ان استغل وضعنا الاجتماعي السماسرة والدلالون في المناطق التي كنا نسكن فيها، واضاف مشاري ان جميع اولاده لم يدخلوا المدارس ‏فهم لايملكون الاوراق الثبوتية ولا شهادة الجنسية، ورغم ان ابنته الكبرى حصلت على هوية الاحوال المدنية الا ان ‏ادارة المدرسة الموجودة في المنطقة لم تقبل بدخولها اليها كطالبة بسبب تصنيف دائرة الاحوال الشخصية التي تثبت في الهوية الشخصية كلمة ( غجرية) بدلا عن اللقب .
    سهام (21) عاما وهي الابنة الكبرى في العائلة قالت: انها تعمل منظفة منازل لدى بعض البيوتات، لكن عملها غير دائم وهي لم تدخل المدرسة ولاتعرف القراءة والكتابة، وقد تعلمت في صغرها حفظ بعض الاغاني من ابيها لان صوتها يساعدها على الغناء لكنها لم تمارسه بعد تغيير الاوضاع السياسية في البلاد، سهام اكدت انها تعيش وعائلتها ‏اوضاعا سيئة ويعانون من خوف دائم ويمكن لاي شخص ان يعتدي عليهم بسهولة من دون ان يكون لهم رادع او جهة معينة يلوذون اليها ، اما شقيقها (ناصر) 19 عاما فقد تحدث عن طرده من قبل احدى المؤسسات العسكرية عندما ذهب ليتطوع بصفة شرطي وتعرضه للسخرية من قبل الموظفين اذ يقول: شعرت اني انسان منتهك ولاامثل اي شيء في هذا المجتمع  فلا احد يقبل ان يمنحني فرصة عمل، وحتى اصحاب المعامل الاهلية يطردونني بمجرد ان يعرفوا اني غجري، والبعض منهم يساومني باستغلال عائلتي لاقامة حفلات ماجنة مقابل اعطائي فرصة للبقاء في العمل .

    تناقض اجتماعي

     اغلب التجمعات الغجرية في العراق عانت منذ القدم من التمييز العنصري والاستهانة باعرافهم وتقاليدهم الاجتماعية حتى ان ثقافتهم تغيرت فحواها واختزلت على احياء حفلات الزواج، يقول الباحث في علم ‏الاجتماع محسن الدوركي: النظرة ( الدونية ) من قبل المجتمع العراقي للغجر ظلت على حالها ولم تتغير حتى بعد ‏الاعتراف بحقوقهم المدنية بعد العام 1968، ولم تكن الجرأة تراود اغلب منظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية على طرح قضية الغجر ومعالجتها، فهم يعيشون في حالة مزرية وشبه منبوذين في اقضية ونواح معزولة  من دون ابسط مقومات الحياة ، واضاف الدوركي : هم لايمتهنون القتل وسفك الدماء بل ورثوا الطرب والفن الغجري الخاص بهم  الذي لا يستطيع تقليده احد، وفي الوقت الذي يعامل فيه من يمتهنون الغناء من غير الغجر باحترام وتبجيل ، يحاسب الغجري على مهنته ووسائل عيشه التي لايعرف غيرها وورثها عبر آلاف السنين، واضاف الدوركي ، القضية بحاجة الى وعي ثقافي يسهل الوضع الاجتماعي لمئات العوائل التي تعيش على ارض البلد منذ مئات السنين، فليس من الصحيح ان نسلب فئة من الناس حقوقهم ونجردهم  من آدميتهم لمجرد امتهانهم الغناء كعمل يعتاشون منه، فهو موروث لديهم منذ مئات السنين .

    احصائيات
     في بداية ثمانينيات القرن الماضي كان عدد الغجر في العراق بحدود 6000 نسمة حسب بعض الاحصائيات غير الرسمية،  في منطقة (الكمالية)  جنوب شرق العاصمة بغداد كانت تسكن بحدود 172 عائلة يتجاوز عدد افرادها 1000 شخص تقريبا ، أي ما يزيد على 19بالمئة من مجموع الغجر في العراق، الامر الذي يعني ان عدد نفوس الغجر قد تضاعف الى اكثر من 15000 شخص حتى العام 2000  على افتراض الزيادة النسبية للسكان وعدم امكانية حصر اعداد العوائل الغجرية التي كانت تعيش حالة الترحال الدائم، فالقانون 43 لعام  1971 منع الغجر من تملك العقار سواء كان أرضا زراعية أو ‏أميرية، باعتبارهم أجانب، اذ تصفهم مديرية النفوس العامة في قرارها المرقم 16390 في 29 تموز1959" (الكاولية) جماعة لا تملك جنسية معينة، وبذلك تعدّ من الأجانب ولا يجوز تسجيلها في سجلات ‏الأحوال المدنية ومنحها دفاتر النفوس الا بعد استحصال شهادة الجنسية العراقية او شهادة تجنّس".
    ثم يتكرّرالأمر معهم في العام 1974، فتعيد الأحوال المدنية وصفهم ومعاملتهم بهذه الطريقة:‏
    ‏"إن الغجر (الكاولية) أقوام عديمو الجنسية ويعاملون معاملة الأجانب، لهذا يقتضي في حالة عثوركم على ‏قيود المسجلين منهم في السجل المدني عدم الموافقة على أية معاملة لهم إلا بعد أن يقدموا شهادة الجنسية ‏العراقية.

    اعتقاد خاطئ

      المحامي محمد الربيعي مختص في قضايا الاحوال الشخصية  قال : لم يكن القانون العراقي واضحا ومفصلا في معالجة احوال التجمعات الغجرية ، بالرغم من ان الدستور الحالي قد اقر حقوقهم تبعا للقوانين السارية المفعول منذ زمن النظام السابق الذي منحهم الجنسية في ثمانينيات القرن الماضي ، اذ حصلت بعض العوائل الغجرية على هوية الاحوال المدنية العراقية  فيما ظل قسم اخر منهم يعيش من دون اوراق ثبوتية  حتى لايضطر الى الالتحاق بالخدمة العسكرية اذ ان الاجراءات القانونية الخاصة بمنح الجنسية لهم غالبا ما تتغير وتخضع لطبيعة النظام السياسي الذي يتعامل معهم بمزاجية في بعض الاحيان، فلا تعليم ولاعمل وحتى شهادتهم لاتقبل في المحاكم اذا تم الطعن بها،وفي قطاع العمل في المؤسسات الحكومية ومع القطاع الخاص واجه الغجر مواقف محرجة وتعرضوا للطرد والاهانة اوالاستغلال، فقانون العمل رقم 151 لسنة 1971، الذي عدّ العمل من حقّ العراقيين وحدهم  لم ‏يستفد منه الغجر لأنهم ليسوا عراقيين! ولايملكون الجنسية وحرموا كذلك من حق العمل بصفتهم أجانب لأن إقامتهم في العراق غير ‏شرعية، ولذلك اضطرت بعض العوائل الغجرية الى امتهان التسول بعد ان ضاقت بهم سبل الحياة .

    اقتراحات وحلول
    مدير عام دائرة الرصد والاداء في وزارة حقوق الانسان كامل امين تحدث عن هذا الموضوع  قائلا : قرار منح الغجر الجنسية العراقية مازال ساري المفعول منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد التحقوا في الجيش وترتبت عليهم جميع الحقوق والواجبات، فالدستور العراقي الحالي وكامتداد للكثير من القوانين اعتبرهم مواطنين عراقيين يتمتعون بجميع الحقوق والامتيازات، وبالتالي فان المنظومة القانونية لا يوجد فيها مايميز ( الغجر) لكن المشكلة مجتمعية  فالبيئة الاجتماعية تنظر لهم بدونية، واضاف ، بعد التغيير في العام 2003 تعرض الغجر الى تهميش وتهديد كبير ادى الى نزوحهم من المناطق التي كانوا يسكنونها في بغداد والمحافظات، كما تم عزلهم في مناطق وعشوائيات بعيدة لاتتوفر فيها ابسط الخدمات ومازالوا يواجهون مشاكل في الحصول على وثائقهم، ومن خلال اتصالاتنا مع الوجهاء والمختارين منهم  طلبنا ان يتقبلوا الوضع الجديد في العراق ويتعايشوا معه للاندماج في المجتمع والعمل بمهن اخرى.  وبين امين  ان الحكومات المحلية مسؤولة بشكل مباشر عن هذا الموضوع لان قسما كبيرا من الغجر يعيشون في المحافظات وفي احدى زياراتنا لاحد تجمعات العوائل الغجرية في محافظة الديوانية كان وضعهم مأساويا ويعانون من ضيق المكان وعدم توفر المياه والخدمات الصحية، ومن خلال تقارير دائرتنا الى اكثر من جهة طلبنا الاهتمام بهذه الشريحة لان البيئة التي يعيشون فيها لاتصلح للعيش وستولد وضعا اجتماعيا ارتداديا لان جيلا اخر سيعيش هذه المعاناة موضحا ان نظرة المجتمع اليهم وعدم تقبلهم في الاعمال والوظائف هو احدى المشاكل التي تضيق فرص الحلول كما يتم استغلالهم لاغراض اخرى خارجة عن الاطار الوظيفي  اذا ما تم القبول بهم في اي عمل بسيط، واشار امين الى ان دائرة الرصد لحقوق الانسان من واجبها متابعة كل الفئات ورصدها واعداد تقارير واقتراحات لحلول يتم رفعها للامانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء، وهي تتابع موضوع الغجر منذ العام 2009 وحتى الان ، فقد تم تحديد المشكلة وتوثيقها ووضعنا حلولا تتضمن تحسين وضعهم المعاشي وفتح المدارس وتسهيل عملية الحصول على وثائقهم ومستمسكاتهم الثبوتية،اضافة الى توعية المجتمع باحترام خصوصيتهم.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media