د. خالد السلطاني
تمر اليوم السابع من أيلول، الذكرى الثالثة على رحيل الفنان ناظم رمزي (1928-2013)، وبلده العراق، الذي احبه وساهم في إرساء كثير من الاجناس الإبداعية في مشهده الثقافي وخطابه، ما يزال لا يتذكره، متغاضيا عن الاهتمام بمنجزه الإبداعي او الحفاظ عليه وتوثيقه أو نشره. وهو امر يبعث على الأسى والاسف الشديدين، ليس، فقط، لجهة استمرار هذا التغاضي المرير تجاه أحد مبدعي الوطن المميزين، وانما لناحية شيوع تكريس "ثقافة" الإهمال والتجاهل التي تتبعها الدوائر الرسمية المعنية هناك.
لقد كرس ناظم رمزي حياته ونشاطه المعرفي لاجتراح دروب معرفية لم تكن رائجة او معروفة تماما في الوسط الفني المحلي. فمنذ نعومة شبابه، وهو "متعلق" بالسينما كفن جديد وقتذاك، ثم بعد ذلك ولعه بالتصوير الفوتوغرافي، الذي ارتقى به، وعن طريق حسه الفني الرفيع وبراعته في خلق التكوينات المدهشة للصورة الملتقطة، ارتقى به الى مصاف اللوحات التشكيلية البهية. كما اوصله جده واجتهاده الى فتح آفاق معرفية جديدة، معنية في مفهوم "التصميم"، والنهوض به فنيا نحو مستويات جد عالية، وليجعل منه رائدا ومؤسسا لهذا الحقل الإبداعي بالعراق. كما ان حبه للثقافة ونزوعه المعرفي، قاداه الى الاهتمام بالطباعة: الطباعة الفنية، التي وصل بها "رمزي" ومؤسسته الى مستو مهني عال، لم تشهده البلاد من قبل. كانت الطباعة هاجسه الشخصي وكانت بالنسبة اليه وسيلة هامة واساسية لنشر الثقافة والفنون في أوساط جماهيرية واسعة. وكان حلمه الشخصي، ان يجد في بلده مطابع فنية تضاهي مطابع العالم المتقدم، قادرة على أداء مهماتها التنويرية بأكمل وجه. وكان يقول دائما لي اثناء مكالماتنا الهاتفية العديدة، ان الحكم على مستوى تقدم البلدان، يكمن، كما يراه، في وجود أو عدم وجود مطابع فنية، في هذا البلد او ذاك!
في جميع تلك الأنشطة المتعددة والمتنوعة التي مارسها ناظم رمزي، كان يتصرف بحكمة وثبات وبإخلاص. مسترشدا بمنظومة قيمية واخلاقية خاصة به، مفادها الانتماء الى الإنسانية، والدفاع عن حقوق الناس، مع التمسك بمبادئ أخلاقية عالية، والحرص على اجادة العمل المناط به وتمجيد العمل المثمر وتحفيز الاخرين وحثهم لإنجازه بمستوى فني عال. ورغم كثر العوائق التي صادفها في مساره المهني، ومع الألغام المتنوعة التي وضعت في طريقه، ظل ناظم رمزي امينا لتلك القيم ومؤمناً بها، غير مبالٍ بـ "الخسائر" الجسيمة التي تحملها هو وافراد عائلته، جراء تمسكه بتلك المنظومة القيمية.
ليس من ثمة غرابة، مثلما ليس من ثمة مبالغة، ان نقول بان ناظم رمزي كان فنانا مميزا متعدد الاهتمامات، وبارع فيها جميعا. لكن دوره كمصور فوتوغرافي مجتهد، يمكن ان يختزل ذلك الابداع، وان يكون عنوانا له. فعلى امتداد مسار حياته المهنية، ظل ناظم رمزي وفيا وصادقا لفنه الفوتوغرافي، مسجلا وموثقا الاحداث الكبرى التي مرّ بها بلده، بصور فوتوغرافية (بلوحات فنية، إذا جاز لي التعبير هنا!)، هي التي ما فتئت تثير اهتمام كثر من الناس لمهنيتها العالية، ولرمزيتها، والى قيمتها التوثيقية، فضلا على جمالياتها. اعرف بانه يمتلك خزيناً كبيرا وثمينا من الصور النادرة، ذات الأهمية الفائقة للعراق ولتاريخه. وكنت دائما احثه، عبر مكالماتنا الهاتفية العديدة في السنين الأخيرة من عمره، على نشرها لتعريف مواطنيه على ما تم إنجازه سابقاً، ولتكون تلك الصور المنشورة، إضافة معرفية ووسيلة ناجعة في مهام ترسيخ الثقافة الفنية في أوساط عديدة. وكان بتواضعه الجم، وحميميته المصحوبة بنكران ذات، يقلل من أهمية ما انجز، فالناس، كما كان يحدثني، لا تتذكر الآن اسمه، ولا تعرف شيئا عنه وعن منتجه. وعندما نشر، كتابه "جولتي مع الكاميرا" (2010). اغتبطت كثيرا لهذه الواقعة. فهي عنت لي إضافة لفرحي بتحقيق نشر الكتاب وطباعته طباعة فنية بعمان/ الاردن، فقد كانت كلمات الاهداء الكريمة به اليّ، مثار اعتزاز وتقدير كبيرين.
يبقى اسم ناظم رمزي مرادفاً للإبداع، وللحس الوطني العميق، ومعلما للفن وناشرا له. وتظل ذكراه الطيبة، كما قلت عنه قبل ثلاث سنوات، وانا انعيه للملأ "... ايها الفنان العزيز، لقد رسيت بنشاطك واهتمامك، واسست بجهدك أجناس إبداعية، أثرت خطاب ثقافتنا واغنت ذائقتنا الفنية بجماليات مميزة. نحن ندين لك بهذا". وسنظل نحتفي بفنك وبمنجزك، انت الذي رأى، ما لم نرى في تلك المجموعة الفوتوغرافية الفنية المبهرة! ولئن كان البعض الان كما في السابق، لم يقدّر ولا يعير اهمية لطبيعة الثروة المعرفية التي تمثلها تلك المجموعة من الصور للعراق ولتاريخه... ولمستقبله ايضاً، فان ذلك يدخل في باب الجهل والتجهيل الذي ابتلى به البلد على مدى عقود كثيره. وسيأتي يوم، عاجلا ام آجلا، يقرّ به العراقيون، ولا سيما الباحثين والمصورين على وجه التحديد، بالدينّ الذي "لرمزي" عليهم.
سيظل عطاءك ومنجزك هاما ومقدراً. وستبقى ذكراك حاضرة دوما في قلوب محبيك واصدقاءك!
خالد السلطاني معمار وأكاديمي