د. هادي حسن حمودي
شيء من اللغة
ينتشر تعبير (خطأ إملائي) كثيرا للتعبير عن الخطأ الكتابي. غير أن كلمة الإملاء لا تدل على هذا. فلنتأمل فيها، ثم نتحدث عن ضرورة العودة إلى واحدة من ظواهر الصوتيات القرآنية.
الجذر اللغوي لهذه الكلمة هو (م ل ل). ومنه: ملا، وملى ، وملأ. وقد اختلطت هذه الجذور في المعجمات، فانفصل ما كان حقه الاتصال، واتصل ما كان حقه الانفصال. ومن هذا الأصل المَلّة الرماد الساخن والجمر. أملّ فلان على فلان: شقّ عليه. وأنا أمْلِلُ عليه الكتاب، وجعلوا أمليته لهجة، كما زعموا.
ونظرا لذلك الاختلاط اتفق اللغويون على أن الإملاء من الجذر (م ل و). ومنه قول العرب: أمليت القيدَ للبعير إملاءً: إذا وسّعته. ثم ظهر قولهم: وتملّيت عُمْرِي: إذا استمتعتَ به. وقالوا: أبليتَ جديدا وتملّيتَ حبيبا، أي: لتطل سعادتك به طويلا.
وقد ورد في التنزيل العزيز: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وكذلك: (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ .... فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ). فاتفق اللغويون والمفسرون على أن الإملال والإملاء بمعنى واحد تقول أمليت عليه، وأمللت عليه. وأجمعوا على أنهما لغتان جيدتان جاء بهما القرآن.
غير أننا لا نرى أنهما لغتان ولا أنهما بمعنى واحد. فثمة فرق بين لفظي: يُمْلِلُ ويُملي، فاللفظ الأول فيه شِدّة وإلزامٌ، واللفظ الثاني فيه انفساح. والآية الثانية في الدَّين، وهي أطول آية في القرآن. وبلغت الشدّة فيها إضافة إلى (وَلْيُمْلِلِ، يُمِلَّ، فَلْيُمْلِلْ) اشتراط الشهداء عليها. (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ) ولم يقل (شاهدين). و(مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) لا من الشهود فحسب. وسبق أن تحدثنا عن الفرق بين الشاهد والشهيد.
وأرى أن نكتفي بهذا لننظر في استعمال الكلمة اليوم مبتدئين من الأصل الصحيح إلى الخطأ الشائع:
تقول: مُعَلّم يُملي على طلابه. قد يُخطئ المملي، أي المعلم، فيقول: عسل لزيز، ويكتب الطلاب ما يسمعون، فهذا خطأ إملائي، صدر من المُمْلي. ويصدر الخطأ من المملَى عليه، كأن يقول المعلم: حياةٌ طيبةٌ، فيكتبها الطالب: حيات طيبة. وقد يزيد فيجعلها: حياتن طيبتن.
ولكن حين يخطئ كاتب من غير أن يُملي عليه أحد شيئا، فهذا الخطأ لا علاقة له بالإملاء ولا يصحّ أن يوصف بأنه خطأ إملائي، بل هو خطأ كتابي. لأنْ لا إملاء في هذه الحالة.
** أمّا عن الظاهرة الصوتية التي أريد الإشارة إليها فهي المتعلقة بلفظ (هذا، ذلك، هؤلاء) وما أشبهها، فقد دعا باحثون منذ خمسينيات القرن الماضي إلى كتابتها بالألف: هاذا، ذالك، هاؤلاء، وغيرها.
ولقد سبق أن قلت إن اللغة العربية لغة منغّمة بحركاتها، وسكناتها، وبظواهر الإدغام والإشمام، والإشباع، والترنم، والإمالة، وإلى سائر رموز الأصوات اللغوية العربية.
ومن ظواهرها الحركات، فثمة فتحة قصيرة، وفتحة متوسطة، ثم حرف الألف، وكسرة قصيرة، وكسرة متوسطة، ثم حرف الياء، وضمة قصيرة وأخرى متوسطة، ثم حرف الواو.
وتتفرد بأن جميع حروفها المكتوبة تُقرأ، لا كاللغة الفرنسية والإنكليزية مثلا. وكان العرب ينطقونها بكل تلك الظواهر النغمية التي تتجلى في رسم الكلمات القرآنية، حيث ترى كلمة هذا، توضع على الهاء منها حركة الفتحة، وإلى جانبها فتحة متوسطة تُرْسَم بألف صغيرة، ولا وجود للألف. ومثل ذلك تراه في ذلك، وهؤلاء، والطاغوت، وكذلك في حالات الكسرة والضمة.
وبذلك فإن كلمة هذا وذلك وهؤلاء، ليس فيها حرف ألف. وإن كنا نلفظها بألف مشبعة ممتدة (هاذا)، وإنما هي نصف ألف، تَناسينا كيفية أدائها. ولا يصحّ أن نكتبها بلفظ هذه الأيام. إذ لو أجزنا ذلك لأجزنا اختلاط الضاد بالظاء، والذال بالزاي، والزاي بالسين، حتى صارت (وَلاَ الضَّالِّينَ) ولا الظالّين ثم، بالتأكيد: ولا الزالّين !!
كما إن إضافة تلك الحروف تؤدي، أحيانا، إلى خلط الكلمات بغيرها.
والعودة إلى التلفظ الصحيح كما في قراءة القرآن ... هو الحل.