الإنسان : ماله وما عليه في الكون المرئي - 3 -
    الأحد 3 مارس / أذار 2019 - 16:43
    د. جواد بشارة
    البرنامج الأوروبي أقليدس Euclid وتلسكوبه الفضائي الذي يحمل نفس الإسم يطمح لتعقب آثار الكون المرئي لكي يفهم هذه الكينونة الغريبة الطاغية على مكوناته والمعروفة بإسم " الطاقة المظلمة أو السوداء أو المعتمة أو الداكنة التي يفترض أنها هي التي تقف وراء توسع الكون وتمدده .
    ما هو الهدف الأساسي من سعي البشر لاستكشاف الفضاء الخارجي ومعرفة أسرار الكون والحياة رغم الجهد الشاق والمخاطر والكلف العالية ؟ منذ القدم ، وحتى قبل بداية التاريخ المكتوب والمدون للبشرية ، كان الإنسان يتأمل ويتساءل ويخاف من الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات والبرق والرعد وقساوة الطبيعة وفتك الحيوانات المفترسة وعلى نحو خاص الخوف من الموت المتربص بالإنسان في كل لحظة. ماذا يمثل الإنسان نسبة إلى الكون المرئي العاجز عن تصوره أو إدراكه؟ لقد أعتقد الإنسان قبل قرون طويلة أنه مركز  الكون وكل شيء معد من أجله ولا يوجد غيره من يستحق هذه المكانة فالأرض موطنه وهي مركز الكون ، والشمس والقمر موجودان لإضاءة ليله ونهاره، والنجوم لتزين سمائه، بيد أن العلم الحديث والتقدم العلمي والتكنولوجي حطموا هذا الوهم وأظهروا الإنسان على حقيقته وإن أرضه وشمسه وسمائه ، بل ومنظومته الشمسية برمتها ، لاشيء نسبة إلى الكون وهي أصغر من ذرة غبار في صحاري العالم أو أصغر من قطرة ماء في محيطات العالم فشمسنا ليست سوى نجم متوسط متواضع يقبع في أحد ضواحي مجرة درب التبانة من بين 300 مليار نجم  تفوقه حجماً وكتلة وطاقة، والأرض واحد من الكواكب التي تعد بمئات المليارات ايضاً في درب التبانة وحدها فما بالك في باقي المجرات التي تؤثث الكون المرئي والتي تزيد على 300 مليار مجرة؟  حصلت انعطافة في مطلع القرن الحادي والعشرين، بفضل التلسكوبات الفضائية والأرضية المتطورة والدقيقة جداً وعمليات الرصد والمشاهدة والحسابات والقياسات بمساعدة الكومبيوترات العملاقة التي تقوم بمليارات العمليات الحسابية في الثانية الواحدة، وتبين للبشر أن 68% من محتويات الكون الطاقوية تفلت من حساباتهم وحدود مداركهم وهم لايعرفون سوى 4.9% فقط من المادة المرئية وإن 25% هو عبارة عن مادة سوداء أو مظلمة مجهولة الهوية وخفية، غامضة و غير معروفة الماهية، كما ذكرنا في الحلقة السابقة. إلى جانب ذلك توجد كينونة كونية أخرى لاتقل غموضاً ولغزية  وغرابة وهي الطاقة السوداء أو المظلمة أو المعتمة أو الداكنة حسب مختلف التسميات في الوسط العلمي الفيزيائي  وعلم الكونيات. ففي السابق ، وقبل سنوات الثلاثينات من القرن الماضي ، القرن العشرين المنصرم، كان العلماء على علم ، بفضل مشاهدة ورصد العالم الأمريكي إدوين هابل، بأن الفضاء في حالة توسع وإن المادة، بواسطة قوتها الثقالية الجاذبة تكبح  وتحاول أن تمنع هذا التوسع الكوني ، وإن مستقبل الكون المرئي يعتمد على نتيجة الصراع والمبارزة بين التوسع والجاذبية أو الثقالة ، ولكن المعادلة تخلخلت بدخول  عامل الطاقة السوداء أو المظلمة حيث لاحظ العلماء أن الفضاء لايتوسع فحسب بل ويتسارع في توسعه وتمدده، مايعني أن هناك امتدادات مكانية هائلة تقف وراء الأفق الكوني لكي يلج فيها التوسع  الزمكاني الكوني، إلا أن الكينونة التي تتسبب في هذا التسارع التمددي والتسارع التوسعي تظل لغزاً  وتزداد غموضاً ، فلا أحد يعرف طبيعتها أو ماهيتها أو كميتها الحقيقية سوى أنها تشكل 68% ، وهل هي موجودة منذ البدء ، أي منذ ولادة الكون المرئي؟ وماهو معدل تأثيرها وتوسيعها للكون؟ يعتمد علماء الكونيات والفيزياء النظرية على المهمة القادمة للوكالة الأوروبية للفضاء وآلتها  المذهلة أقليدس التي ستطلقها في سنة 2022. 
    كل شيء بدأ سنة 1998 مع حملات التدقيق والتأكد التي واكبت مشاهدات ورصد إنفجار مستعر أعظم سوبرنوفا الذي ازداد سطوعه بما لا يقل عن 200 مليون مرة درجة سطوع الشمس مرئيا بالعين المجردة من الأرض.  من هنا صارت المستعرات العظمى مثار اهتمام العلماء باعتبارها عينات للقياس لأن درجة سطوعها الحقيقية باتت معروفة مما جعلها ثمينة من الناحية العلمية. فلقد  كان صعباً على العلماء معرفة سبب خفوت سطوع إحدى النجوم المشاهدة بالعين المجردة ، هل السطوع الضعيف ذاتي ومرتبط بحقيقة النجم أم لأن هذا الأخير بعيد جداً؟ وبالتالي تم حسم الأمر بفضل المستعرات العظمى السوبرنوفا لأن سطوعها ذاتي ويترجم مسافاتها الحقيقية لذلك  تحولت إلى بطاقات تعريف أو علامات تؤشر على المسافات  بالرغم من حقيقة أنه يوجد  في الكون المرئي أو المنظور حوالي 100 مليار نجمة تولد وتموت كل عام، وهو ما يعادل حوالي 275 مليون في اليوم، أو 11.5 مليون في الساعة.
    ورغم سطوع النجوم والمستعرات العظمى وكثرتها في الفضاء  تبدو السماء مظلمة وكالحة أو معتمة والسبب هو المسافات الهائلة بين النجوم وبين المجرات . وأكثر الأجسام الفضائية عتمة وظلمة في الكون المرئي هي الثقوب السوداء. وهي أجرام  أو نجوم في غاية الكثافة والإنضغاط مولدة حقلاً ثقالياً كثيفاً جداً إلى درجة أنه يجذب أي جسم وأية مادة في الفضاء بما في ذلك الضوء تمر بالقرب من الثقوب السوداء من هنا لايمكن  رصدها على نحو مباشر لأنها لاتعكس أية إشعاعات أو ضوء وبالتالي لابد من اللجوء إلى الطرق غير المباشرة ، وكانت نظرية النسبية العامة قد تنبأت بوجود مثل هذه الأجسام الفضائية إلا أن سلوكها يستدعي اللجوء إلى فيزياء الكموم أو الكوانتوم التي تصف العالم الذري ومادون الذري، والحال أننا لم نعثر بعد على النظرية الموحدة بين دعامتي الفيزياء المعاصرة وهما نسبية آينشتين والميكانيك الكوانتي أو الكمومي. ولقد اكتشف العلماء أن الثقوب السوداء موجودة بوفرة وبمختلف الأحجام وفي مختلف مناطق الكون وداخل جميع المجرات تقريباً ، أشهرها الثقوب السوداء النجمية التي تبلغ كتلتها حوالي مائة مرة كتلة الشمس وأصل نشوئها نجم هائل الكتلة وصل إلى نهاية عمره وتطوره وازدادت كثافته وانضغط في حيز ضيق جداً وكتلة هائلة مما قادة ذلك إلى أن ينهار على نفسه بفعل قوة ثقالته . وهناك الثقوب السوداء العملاقة trous noirs super massif الهائلة الكتل التي تبلغ 4 ملايين مرة أكبر من كتلة الشمس ، ويوجد أحد هذه الثقوب السوداء الهائلة أو العملاقة في مركز مجرتنا درب التبانة ، يبتلع كل مايمر بالقرب منه على مسافة 12 مليون كلم، ويعتقد بعض العلماء أن جزء من الثقوب السوداء المنتشرة في الكون المرئي تمثل جزءاً من المادة السوداء غير المرصودة ، وهي ثقوب سوداء قديمة أولية أو أصلية نشأت منذ اللحظات الأولى لولادة الكون المرئي وسط منطقة كثيفة من الفضاء الكوني تبلغ كتلة بعضها 30 مرة كتلة الشمس ولعبت دوراً جوهرياً وأساسياً في تشكيل بنية وهيكيلية الكون. ولكن يعتقد العلماء أن بعضها تبخر كما تنبأ العالم البريطاني الراحل  ستيفن هوكينغ  المتوفي سنة 2018، والذي تحدث عن وجود شعاع غير منظور يخرج من الثقب الأسود سمي بشعاع هوكينغ يجد تفسيره في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية ولم يتم بعد اكتشافه مختبرياً . 
    هناك أيضاً في الكون ما يسمى بالمجرات السوداء أو المظلمة وهي تبدو وكأنها خالية من النجوم تقريباً من هنا سبب عدم سطوعها  والتي يفترض أنها تكونت في المليار الأول من عمر الكون وتحتوي على غازات كونية سوداء أو معتمة وقليل من النجوم السوداء أو المظلمة التي يعتقد أنها مكونة من المادة السوداء. ويحاول العلماء رصدها أو الكشف عن وجودها بفضل الكوازارات ، وهي الأجسام الأكثر سطوعاً في الكون ومن المحتمل أن ضوء الكوازارات قد قام بتأيين ioniser، الغازات المجاورة لتلك المجرات المظلمة ولقد اكتشف فريق بحث أوروبي ESO 12 من هذه المجرات السوداء أو المظلمة سنة 2012 . أحد هذه الكوازارت هو الكوازار HE 0109-3518، الواقع على بعد 11 مليار سنة ضوئية عن الأرض ما يعني أنه تشكل عندما لم يبلغ الكون المرئي من عمره سوى بضع مليارات من السنين. كما رصد تلسكوب غيا Gaia الأوروبي الفضائي سنة 2018 مجرة سوداء أو مظلمة جديدة بالقرب من مجرتنا درب التبانة ولم يرصدها أحد قبل ذلك التاريخ لذلك سميت " المجرة الشبح galaxie fantôme وهي مجرة أنتيلا 2 Antila" 

     يتبع


    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media