أمريكا والعراق صدام الاستراتيجيات (1)
    الأثنين 20 مايو / أيار 2019 - 13:00
    أ. د. عبد علي سفيح
    مستشار وباحث لوزارة التربية والتعليم الفرنسية
        من الممكن أن نقول عراق البارحة واليوم هو ساحة صدام الاستراتيجيات الاقليمية (ايران وتركيا) والدولية (أميركا وأوربا). أما العرب فلا استراتيجية لديهم، فهم ينضمون تحت لواء هذه الاستراتيجيات.

    فكرة هذا المقال وردت لي بعد زياراتي الأخيرة للعراق، ومتابعتي لما يكتب وما ينشر عن الأحداث في العراق والمنطقة وخاصة في هذه الأيام الأخيرة بين ايران وأميركا. وجدت جهل العراقيين باستراتيجيات الدول المبنية منذ قرن ولم تتفاعل هذه الدول مع الأحداث كفعل وردة فعل. انعدام الاستراتيجية العراقية تجعل العراقيين يتفاعلون مع الأحداث بمشاعرهم.

    منطقة الشرق الأوسط ومن ضمنها العراق كانت خارجة تقريباً من التأثير (السوفيتي الأميركي)؛ لأن الاثنان كانا متفقين على خروج الشرق الأوسط من الاستعمار (الفرنسي البريطاني) وتأسيس دولة اسرائيل وتأييدهم لعبد الناصر وشاه ايران و تركيا أتاتورك. على العكس كانت واشنطن وموسكو في استراتيجيات التصادم في برلين، اليونان، وفيتنام.

    الاستراتيجية التركية كانت ولا زالت من زمن أتاتورك والى يومنا هذا مبنية على اعطاء الأولوية لتركيا أولاً وثانياً وثالثاً. فلا تشغل نفسها خارج حدودها. 

    تركيا فتحت بابها باتجاه أوربا واعتبرت نفسها جزء من الشعب الأوربي. بالرغم من الصعوبة التي تعاني منها تركيا في الانضمام للوحدة الأوربية الا ان هناك امل دخولها بعد سنة 2040 واحتمال بأن المغرب تكون مرشحة للدخول. هذه الاستراتيجية سمحت لتركيا ان تتصالح مع ماضيها وان تتحول من دولة عسكرية عقائدية الى دولة بناء اجتماعية مؤسساتية. 

    الاستراتيجية الايرانية: وهي مبنية على حفظ الأمن القومي لإيران والتي تعبر عن شكلها ولونها ورائحتها سياستها الخارجية التي تنطلق من عدم السماح للتدخل الأجنبي على حدودها، وقد يرى المراقب بأن هناك اشكالية كبيرة في سياستها الخارجية، وذلك بمساندة الأرمن السنة ضد الأذربيجان الشيعة، ومساندة الشيوعي الطاجيك ضد الاسلاميين الطاجيك. ايران لا ترغب في اقامة حكومة اسلامية في العراق؛ لأنه ذلك  قد يصنع لها مشكلة أكبر مما لو كانت غير اسلامية، وذلك خوفا من الانقسام الشيعي مثلما حصل للشيوعية في روسيا والصين.وهي ـ كذلك ـ لا ترغب بحكومة عراقية مؤيدة لأميركا أو تركيا أوالعرب ضدها. ولا ترغب ـ كذلك ـ بحكومة علمانية في العراق؛ لأنها سوف تكون حجة للتدخل الأجنبي.
    إن الاستراتيجية الايرانية المتبعة في العراق هي استراتيجية درء الخطر,والعراق هو الذي يؤثر على ايران وليس العكس،فلما يكون العراق مستقراً، ستكون ايران مستقرة. ولما يحدث تغيير او فوضى في العراق، سينعكس ذلك على ايران. 

    إن الإسلام دخل من العراق الى ايران وغير ديانتها وحروف كتاباتها، والتشيع كفكر وفلسفة تبناه اسماعيل الصفوي جاء لهم من العراق وغير مذهب الدولة. 
    لقد اصبح العراق في 1921 نظاماً ملكياً، وبعده بأربع سنوات نصب الشاه رضا في 1925 ملكاً على ايران. 

    في أعوام 1939-1941 كانت حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق، بعدها مباشرة رضا شاه ايران أخذ موقف مؤيد لهتلر مما حدى به أن ينفى الى جزيرة موريس.

    في 1979 دخل الامام الخميني الى طهران من العراق بعد مروره بباريس واعلن الجمهورية وغير نظام حكم ملكي يحكم ايران اكثر من ألفين سنة، وفي 1980 يعلن العراق الحرب ضد ايران.

    إن المحور الاستراتيجي الايراني الأهم منذ بداية القرن العشرين تمحور حول تجنب أي خطر يؤثر على عصب اقتصاد ايران وهو (البترول)، هذا العصب موجود تحت أقدام العرب في عربستان (الأحواز). 

    الطائفية او الوهابية لا تؤثر على عرب إيران لأنهم شيعة فقط، فالتيار القومي العروبي ممكن يتعاطف معه العرب في ايران ويهدد عصب الحياة لإيران، لذلك بنيت الاستراتيجية ايران لدفع خطر التيارات القومية. 

    تستخدم ايران استراتيجية في العراق مثلما استخدمها الخليفة العباسي المأمون بتقليل التعصب القومي عن طريق الفرس، وتقليل التعصب الديني عن طريق المسيحيين. 

    ايران من بدايات القرن العشرين تريد ان يحكم الشيعة العراق؛ لأنهم يقللون من التعصب القومي العربي في العراق، وبه تبعد الخطر عن عربستان. ايران اعترفت بملك العراق فيصل الأول متأخراً في عام 1929 لأنه ملك سني وليس شيعي.

    ايران وتركيا  فضلا عبد الكريم قاسم على جمال عبد الناصر،وكان شاه ايران يتخوف من الحركات الوحدوية القومية لذلك ساند الحركة الكردية والحزب الشيوعي العراقي.

    الاستراتيجية الأميركية في العراق:ان أميركا تكونت بالأساس من أناس مهمشين، منبوذين وغير محبوبين في أوطانهم، لم يجدوا فيه لا مكان ولا دور، فذهبوا الى أرض ميعاد جديدة هي أميركا. 

    إن معظم المهاجرين كانوا من البروتستانت وأسسوا أول مجتمع سموه بمجتمع الأصدقاء في عام 1688م، وأخذوا ينادوا بعضهم البعض بالاسم الثاني أي بدون ألقاب، فهم لا يعرفون المجتمعات الاخرى، فهم لا يكرهون أحداً حتى  وطنيتهم غير عدائية.

    إن فلسفة المجتمع الأميركي بنيت على الانطلاقة الجديدة، فنرى البيض في أميركا فخورين بأنهم أمريكان ولا يبحثون عن جذورهم أو ماضيهم، بينما السود يبحثون عن ماضيهم وتأريخهم ويتألمون لأنهم قطعوا من جذورهم الأفريقية. 

    المهاجر الجديد الى أميركا لا يشار له بالبنان مثلما هو عليه في أوربا،والتميز العنصري ضد السود في نهاية عام 1952 سببه ليس عنصري، بل سببه التميز الطبقي الاجتماعي؛ لأن السود وصلوا بمجاميع كبيرة من جنوب أميركا الى شمالها الصناعي.

    الاستراتيجية الأميركية بنيت قبل عام 1930 على نظرتين للدولة:
    الأولى: للجمهوريين: وهم ورثوه من الرئيس جورج واشنطن وعلى رأسهم الكسندر هاملتون السياسي المالي الذي يقول: أميركا لا تتدخل خارج حدودها، أي يؤمن بالنظرة الانعزالية وهي نظرة ميكافيلية، يتبناها أمثال هنري كيسنجر،وحتى في الحرب العالمية الثانية فإن رواد هذه النظرة قالوا: حتى لو انتصر هتلر في الحرب فهو في النهاية سوف يرتبط بأميركا.

    الثانية: الديمقراطيون: وهم ورثة توماس جيفرسون وروزفلت، يعتقدون ان من واجب أميركا هو التبشير بالديمقراطية في العالم ومقارعة الديكتاتوريات. فعندما تولى روزفلت الرئاسة كانت أميركا تمر بأسوأ تدهور اقتصادي في تاريخها، فوضع روزفلت برنامجه والذي أسماه (الصفحة الجديدة)، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية وضع روزفلت أمام موقف صعب وهو التدخل السريع خارج حدوده لكونه ديمقراطي النهج والسياسة، إلا ان النظرة الانعزالية للمجتمع الأميركي كانت هي السائدة في أميركا.

    إن ونستن تشرشل رئيس وزراء بريطانيا قد نبه الأوربيون والأمريكان من خطر النازية، لذلك شجع المخرج السينمائي الفريد هيتشكوك بالذهاب الى أميركا في عام 1939 لتحفيز المجتمع الأميركي وتخويفه من الخطر القادم.

    من أجل خروج أميركا من نظرة الجمهوريين الانعزالية عمل روزفلت مسرحية ببعث حاملات الطائرات قريبا من الشواطئ اليابانية لتحفيزها بضرب الحاملات الأميركية، وفي حينها ستدخل أميركا الحرب لإنقاذ حلفائها. فعلاً بعد حوالي سنتين من اندلاع الحرب الكونية، دخلت أميركا الحرب ضد اليابان والمانيا. لكن، وليومنا هذا تعاني أميركا من التناقض بين النظرتين، الانعزالية والتبشيرية، الديمقراطية والديكتاتورية، القيمية والميكافيلية.

    إن استراتيجية أميركا بعد الحرب العالمية الثانية حتى 11 سبتمبر 2001 هي ابعاد تركيا وايران عن المنطقة قدر امكانها وامكانيتها. أي بالتحديد، ابعاد تركيا عن سوريا، وايران عن العراق، مع   تأييد كل المبادرات التي تصب في هذا الاتجاه ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي. 

    إن حزب البعث هو حزب الأقلية أسسه ميشيل عفلق المسيحي السوري  بعد الحرب العالمية الثانية، اما في العراق فتأسس في عام 1951 على يد فؤاد الركابي وهو شيعي. 

    الشيعة في العراق كانوا مهمشين في الدولة العراقية وباسم القومية العربية كانوا يمثلون أكثر من 90 بالمائة من القيادة القطرية لحزب البعث. 

    في عام 1963 حصل انقلاب على عبد الكريم قاسم وكان حزب البعث ضد عبد الناصر لأن الناصرية سنية، كذلك كرههم للجيش لأن الجيش قياداته سنية، الا أن انقلاب شباط عام 1963 حدث الانفصال بين البعث والشيعة، أي بين الحزب والطائفة، انتقم البعثيون في عام 1963 من الشيوعيين لا لأنهم ماركسيين بل لأنهم شيعة، وهذا هو بداية الطلاق بين البعث والشيعة وأخذ الحزب المنحى الطائفي. 

    في انقلاب عام 1968 كانت أكثر من 90 بالمائة من القيادة القطرية وقيادة الجيش كانوا من السنة؛ لتحقيق سياسة أميركا في المنطقة والوصول الى الهدف، ساندت أميركا حزب البعث في العراق وفي سوريا للوقوف بوجه تركيا وايران.

    لقد تزعم حزب البعث والحكم في سوريا أقلية علوية لا يمكن أن تلتقي مع تركيا، وفي العراق تزعمه أقلية سنية لا يمكن أن تلتقي مع ايران. 
    لذلك فإن ايران كانت تدعم حزب البعث في سوريا لأنه علوي، وعرب الخليج وغيرهم يدعمون حزب البعث في العراق لأنه سني. 

    هذه الاستراتيجية اختل توازنها بعد عام 2003 فجيوبوليتيك المنطقة اختلف، عرب الخليج يدعمون سوريا حتى تقف بوجه ايران، وايران تدعم العراق حتى يقف بوجه الخليج.

    الاستراتيجية الأميركية في العراق  بعد 11 سبتمبر 2001:
    العراق من المفهوم الأميركي والاوربي بلد لم يسبب مشاكل للعالم الخارجي، بل دولة عصرية تستحق الثناء حتى عام1980 الاستراتيجية الأميركية ومنهم المحافظين الجدد بنيت على فكرة العالم الجديد، صعوبة معرفة تفاصيل هذه الفكرة أو العقيدة لفقدان مادة البحث وهوعدم وجود فكرة متكاملة شاملة الرؤيا لهذا العالم، نجد مثلاً العالم بعد الحرب الكونية الثانية هو ليس ما قبله، كذلك العالم بعد 11 سبتمبر عام 2001، هو ليس ما قبله. 

    نرى اليوم تركيا وايران هما المحركان الرئيسيان للحداثة الاسلامية في الوقت الذي فيه العالم العربي في فتنة داخلية لم يسبق لها مثيل.

    ان استراتيجية المحافظين الجدد ونظرتهم حول العالم الجديد مبنية على عقيدة،وطريق الوصول لهذه العقيدة هو:
    أولاً: تحطيم القوى المحلية في مناطق النفوذ الأميركي لحفظ مصالح أميركا من الطاقة وحركة السوق وحفظ أمن دولة اسرائيل.

    ثانياً: الديمقراطية مقدسة حتى لو كانت على حساب المنافع الأميركية المالية.

    إن العراق في عقيدة المحافظين الجدد هو مفتاح الشرق الأوسط الجديد، والدخول الى القرن الواحد والعشرين الأميركي.

    يبدأ هذا القرن من العراق وذلك بتحويله الى نظام ديمقراطي قريب لأميركا، الهدف منه زعزعت وازالة الحكومات السيئة في المنطقة لكي تحدد من انتشار وتمدد تنظيم القاعدة من جانب، ومن جانب آخر،اقامة حكومة ديمقراطية في العراق سوف تقلل من الجبروت السعودي عن طريق رفع سقف انتاج العراق من البترول الى 5.5 مليون برميل يوميا، وعمل توازن بين الشيعة والسنة في المنطقة بمشاركة الشيعة بالثروة الوطنية، واقامة العراق الديمقراطي العادل بتوزيع الثروة بين الكرد والعرب السنة والشيعة، وذلك سوف يكون نموذجاً يدفع الشيعة في ايران الى المصالحة مع أميركا واعادة ايران الى ما قبل عام 1979. 

    إن التجربة الديمقراطية ومشاركة السلطة والثروة في العراق بصورة عادلة سوف تعطي مكانة للنجف وكربلاء وعند الشيعة في العالم من الهند الى لبنان، وتعمل توازن حقيقي بين الشيعة والسنة، مبني على المشاركة والعيش سوية.

    لقد واجهت السياسة الأميركية في العراق حقيقة الموقف والمساحة الشاسعة ما بين الحقيقة على الأرض وبين الهدف الذي رسمه المحافظون الجدد.

    ما بين تعاون كردي ومقاومة مسلحة سنية مع موقف الشيعة الذي يحمل وجهين،والشيعة هم أساس اللعبة. 
    إن المفاجئة التي صدمت بها اميركا؛ انها جابهت مقاومة عنيفة من الشعب العراقي على عكس ما حصل لها في المانيا واليابان وايطاليا، حيث تعاونوا مع أميركا وساعدتهم على البناء السياسي السريع وانهاء الاحتلال. 

    لقد اعتقدت أميركا ان اعطاء دور للشيعة في الخليج بعد ان همشوا منذ قرون وابعدوا من المشاركة في الثروة والحكم، سوف يعمل توازن بين الشيعة والسنة في منطقة الخليج العربي، ويكون محورها الشيعة في العراق واليمن والبحرين وايران.

    فلأول مرة في التاريخ يضع الشيعة ايديهم على أغنى مناطق العالم،وبدل أن يشكروا الأمريكان، جابهوهم بطريقة لم يتخيلوها ابداً.

    من يملك الحل، وكيف سيكون الحل:
    إن أميركا وايران وحدهما يملكان كل المقومات الحقيقية للعب دور كبير في العراق؛ بعد فشل المجتمع العراقي في بناء هوية وطنية، مع عدم امكان العراقيين على تقديم برنامج واضح ومقنع لأميركا وايران لجهلهم بتاريخ واستراتيجيات هذه الدول. 

    العراقيون لم يدركوا بالضبط طبيعة التفكير الأميركي والايراني وعاداتهم وتقاليدهم وخاصة ايران، فايران بلد الحضارة والفن يتميز بكتابة الملاحم والأساطير،إذ قد تكون الأساطير أحيانا هي التاريخ، أو التاريخ يصبح أحيانا اسطورة وملحمة، وهذا غير موجود عند العرب والأمريكان.

    إن بريطانيا قد تركت ارثاً لأميركا وايران هو العراق،فبريطانيا ساهمت في بناء دولة عصرية اجتماعية مبنية على الدستورعلى حد قول الاستاذ حسن العلوي الذي يحن الى خصومه ويذكرهم في مناسبة أو بدون  مناسبة، وفي نفس الوقت سعت بمحاولة تكييف  المجتمع العراقي لكي يتماشى مع هذه الدولة الفتية. اليوم الأمريكان اهتموا فقط ببناء الدولة الاتحادية الجديدة الا انها تركت تكييف المجتمع لكي يتماشى مع هذا النموذج الى ايران. 

    إن هذا يذكرني بالفيلسوف سقراط الذي كان يوازن بين الميتافيزيقية والمادية،فعندما مات سقراط، عزز تلميذه افلاطون الميتافيزيقية على حساب المادية، بينما ارسطو  عزز المادية العقلانية على حساب الميتافيزيقية. 

    افلاطون وارسطو يمثلان ارث الفيلسوف سقراط، لعظمة وثقل هذا الارث يصعب على ان يتحمله او يحمله رجل واحد، كذلك الحال في العراق اليوم، الانكليز تركوا ارثا ثقيلا يصعب على الأمريكان حمله، لذلك جاء الايرانيون لحمل الجزء الآخر. 

    ان وجود المرجعية الدينية الشيعية المتمثلة بشخصية السيد السيستاني يسهل الحوار بين المجتمع العراقي والدولة. ومن جانب آخر يحافظ على وحدة النسيج الاجتماعي العراقي، وكذلك الحفاظ على هيبة ومكانة الدولة في تحقيق الأمن والسلام،ويمكن القول بأن سماحته هو الوحيد الذي يمكنه بناء حوار بناء بين أميركا وايران؛ لبناء السلم والسلام في العراق والمنطقة.

    alaineli_soyer@hotmail.com
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media