شيء من اللغة.. جمل أم بعير؟ (الحلقة الخامسة)
    الخميس 23 مايو / أيار 2019 - 06:08
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    أنهينا الحلقة الرابعة بأن علينا أن نفهم جملة أمور كي يتضح لنا معنى (الجمل) في الآية، وذكرنا هناك الفقرة (أ) ونستكمل هنا:
    ب- نلاحظ أن لا أحد من المسلمين في الفترة النبوية، وفيهم مَن فيهم مِن أهل الفصاحة والبلاغة، سأل النبي عن وجه التمثيل في الآية، ونعني التمثيل بالجمل وسم الخياط. ولو وجدوا فيه غرابة أما كان منهم من يسأل عنه؟ ويتسق هذا مع موقفهم من الآية: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) فهم لم يسألوا عن سبب تشبيه مجهول بمجهول، فهم لم يروا طلع تلك الشجرة ولا رؤوس الشياطين. السبب في هذا أنهم أدركوا أن هذا الأسلوب يفيد التهويل والتخويف والترهيب، على غرار التهويل والتخويف والترهيب في الآية (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ . كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) والآية: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ). فالفصيح البليغ يعرف الأصل والفرع ووجه التشبيه والاستعارة وغيرهما.
    ثم غاب ذاك المعنى الأصل لكلمة الجمل، فقصره الناس على البعير الضخم. وعلى الكثرة كما في قولهم: أجمل القوم: إذا كثرت جِمالُهم. والجُماليّ: الرجل العظيم الخلق. شُبِّهَ بالجمل الضخم وعن الآية التي مرت قبل قليل: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ . كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) قالوا: هي الجِمالات جمع جَمَل كما قال الفرّاء. أو النوق السود، بالجمع، عند الخليل الذي ذكر أنها (لا واحد لها، ولكن يقال لكل طائفة منها جمالة، والجميع جِمالات وجمائل)(العين 1/349 ط، مسقط). واختلفوا في كونها (جمالة) بالإفراد أو جمالات بالجمع.
    ولم تسلم النوق من ذلك الوصف، فقالوا: ناقة جُماليّة: ضخمة. كما ذكروا أن الجِمال: ما جُمع من الحبال والقُلوس، وهي جمع قَلْس: الحبل الغليظ من حبال السفن.
    والذين قرّروا أن المقصود البعير اختلفوا في متى يُطلق وصف الجمل عليه. ففي أيّ فترة من عمر البعير يمكن أن يوصف بأنه جمل؟ جاء في لسان العرب: الجمل: الذكر من الإبل ولا يسمى بذلك إلا إذا بزل، اي بلغ التاسعة من عمره. وقيل إذا أربع. وقيل إذا أجذع اي بلغ خمس سنين. ومنه قولهم: استجمل البعير إذا صار جملا.
    وذكروا أن من معانيه: الرجل العظيم، حتى رووا (لكل أُناس في جملهم خير). ورجل جُماليّ ضخم الأعضاء فاره البدن. والجماليّ: الشديد من الرجال. وللسبب ذاته قالوا: الجَمل: النخل. والجمل: سمكة بحرية ضخمة.
    والأصل الآخر، عندهم: الجمال، وهو ضدّ القبح. ورجل جميل وجُمال. وقرر ابن قتيبة (213 هـ - 278 هـ) أن أصل الجَمال، بفتح الجيم، من الجَميل: وهو وَدَكُ الشحم المذاب، يُراد به أنّ ماء السِّمَن يجري في وجه الموصوف بالجمال. فابن قتيبة قد حدد الجَمال بهذا، ولا أدري كيف ينطبق ما قاله على جمال الأزهار والمناظر الطبيعية وغيرها. وسبق لابن فارس (تـ 395 هـ) أن قال: (وابن قتيبة يُطلق إطلاقات مُنْكَرَةً ويروي أشياء شنيعة)( الصاحبي ص 200).
    وبعيدا عن المعنيين رووا أن امرأة قالت لابنتها: تَجَمّلي وتعفّفي: وفسروه بأن تأكل الجميلَ أي الشحم المذاب. وأن تشرب العُفافة وهي البقية من اللبَن. وربما كان لهم مبرر في هذا التفسير ولكن ألا يكون له وجه آخر، هو الأكثر شيوعا في اللغة وأول ما يتبادر إلى ذهن المرء حين يقرأ: التجمّل والتعفّف. ومنه قولهم: جَمالَك أن تفعل كذا، أي: اجملْ واصبرْ. وقريب منه قول أبي ذؤيب:
    جمالَكَ أيها القلب الجريحُ
    ستلقى من تُحبّ فتستريحُ
    وعلى هذا أفلا فسّروه بالعفاف، وهو من العفّة، وبالتجمّل، أي: الصبر وحسن الخلق، وكلاهما من الأمور العظيمة الكبيرة، ليأتلف ذلك مع معاني (ج م ل) على ما ورد في المعجمات الأصول؟
    نتمم الحديث في الحلقة السادسة إن شاء الله.


    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media