د. هادي حسن حمودي
شيء من اللغة
(1)
ألتزم دائما بمقاربة الآيات القرآنية لغويا فحسب. وأعتقد أن صور الجنة والنار في القرآن تهدف إلى تقريبهما من مدارك الناس، بحكم الحديثُ المشهور (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). في حين أن تلك الصور تراها أعينهم وتسمعها آذانهم وتخطر على قلوبهم. لذلك ينبغي فهمها فهما لغويا فحسب، بلا تفاصيل تدخل في باب الرجم بالغيب.
(2)
الآية المذكورة في عنوان الموضوع هي الآية 21 من سورة الإنسان. وقعت فيها، كالعادة في غيرها، خلافات في القراءة. ولكن الاتفاق حصل بشأن (سندس) حيث أجمع القدماء والمعاصرون على أنها لفظة معرّبة ودخيلة. فهل هذا صحيح؟
كلمة (سندس) التي قيل إنها فارسية معربة، غير موجودة في الفارسية. ونراها عربية ذات علاقة لفظية ومعنوية بالجذر ( س. ن. د) الذي يجمع بين دلالة (عاليَهم) على الرقيّ والارتقاء وعلى نوع من الثياب والأزياء قريب من (السندس). وما زيادة السين فيها إلا لزيادة في المعنى. وهو طريق من طرق الاشتقاق معروف.
والسنَد: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح. وقال العرب: رأيت النساء يُسْنِدْن في الجبل، أي: يُصعِدْنَ. والسَّنَد: زيّ يتكون من قطعتين، ثوب طويل من الرقبة إلى الكعبين، وفوقه قميص قصير من الكتفين إلى وسط الصدر كالذي ترتديه فرق الإنشاد الصوفية في هذه الأيام. وهو زيّ موشَّى، أي، مزيّن ومُجَمّل فجمع الرقيّ والجمال. وقد عرفته البيئات الحضرية وبعض البدوية من قبل الإسلام. ولما أراد العرب التعبير عما هو أجمل من السند، زادوا على الكلمة حرفا فصارت (سندس). ولها في اللغة نظائر كثيرة.
(3)
أما القراءات، فقد رُويت قراءة: عالِيْهم، بالألف وسكون الياء. وظهر من رأى أن الألف لا ضرورة لها، فقرأ الآية: عليهم ثياب.
وقال الطبري: عاليَهم وعاليْهم مستفيضان. ونقل عمّن قال: المقصود بها: الظلة التي يُحاط بها السرير من جوانبه وأعلاه. وتناسى القائلُ أن كلمة ثياب، تعنِي هذه التي تُلبَس، لا التي توضع فوق السرير.
ثم ظهرت قراءة: (خُضْرٍ) بتنوين الكسر صفة لسندس. ولو كانت كذلك لصارت الآية: سندس أخضر. لأنه لفظ مفرد مذكر، فصفته مفردة وليست جمعا. وما أجمل قول أبي تمام:
فأثبت في مستنقع الموت رجلَهُ
وقال لها من تحت أخمُصَكِ الحشرُ
تردَّى ثيابَ الموتِ حُمْرا فما دجا
لها الليلُ إلاّ وهيَ مِنْ سُنْدُسٍ خضرُ
فالوصف للثياب بلا ريب.
ونرى أنّ كلمة عاليَهم، بالألف وفتح الياء، لا علاقة لها بحرف الجر (على). فهي من (علا يعلو) تماما كما هو الارتقاء في الجبل، الذي تدل عليه لفظة (سند) التي هي أصل (سندس).
والكلمتان (على) و(علا) تلتقيان، بالرغم من أن كل واحدة منهما تُرسم بشكل مغاير لرسم الأخرى، وكون إحداهما حرفا والأخرى فعلا. الأولى (على) حرف جر قال عنه القدماء إنه دالّ على الاستعلاء، وما الاستعلاء إلا من (العلوّ). والأخرى: (علا يعلو) فعل من العلوّ، أيضا. وهما تعنيان علوّ شيء على غيره مع فرق دقيق بينهما.
فجملة: وضعت الكتاب على السرير. تعني أن الكتاب يحتل حيزا صغيرا على السرير. ولا تستطيع القول: الكتاب يعلو السرير. لأن هذا التعبير يعني التغطية الشاملة من كل الجوانب، كما يفعله المِفْرَش. فلك أن تقول: المفرش عالي السرير: أي، يغطيه من كل جوانبه. أما إذا قلت: المفرش على السرير، فيعني أنه موضوع فوق السرير، كما وضع الكتاب، ولا يغطيه كلّه. هذا من حيث اللغة الصحيحة الفصيحة، ولكن الناس صاروا يستعملون (على) في الموضعين.
ولك أن تفكر في كلمة (علا) في الآية: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فهي تعني أن بعضهم سيسيطر على بعض سيطرة تامة، وسيستولى بعضهم على بعض، استيلاء شاملا. فهي تغطية كليّة ولكن بشكل آخر.
هذا والله أعلم بمُراده.