العمارة والبيئه
    الأربعاء 14 أغسطس / آب 2019 - 15:47
    د. حامد السهيل
    ما هو محور تفكير المعمار والمهندس المعمارى حينما يكلف بتصميم بيت للسكن, شوارع وميادين عامه. لا شك فأن هذه القضية تكتسب اهمية كبيرة لانها تتعلق بحياة الناس, شعورهم بالامن والراحه وكذلك الاشكال الجمالية التى تحملها العماره  وما تقدمه من راحة نفسية للمعنيين, ان هذه الناحية تشمل كذلك الشاوارع والميادين العامه.
    ان محور تفكير المعمار والمهندس ينطلق من البيئه المحيطه وخواصها المناخية وتكوينها الجيولوجى, بالاضافة الى موقع قطعة الارض من اتجاه الشمس, جنوبيه, شرقيه....الخ. من ناحية اخرى فانه تفكيرة يرتبط بمستوى تطور قوى الانتاج, نوعية المواد الانشائية, العدد والالات وانظمة العمل, وما يوفره مستوى تطور قوى الانتاج فى التأثير فى الطبيعه, هذا يعنى ان البناء والتشييد يمثل انعكاسا لمرحلة تاريخية معينة تحددها مستوى التطور الذى بلغته قوى الانتاج, بمعنى ان كل مرحلة تاريخيه لها محددتتهاالانشائية والجماليه وهذا ما نشاهده من تطور مختلف الطرز والاساليب فى التصميم والانجاز.              ينطلق المعمار والمهندس المعمارى من هذه الاوليات سوى ان كان شرقيا, اوروبيا وحتى الامريكى, وتاخذ الاشكال والجماليات التقليدية بنظر الاعتبار. يكاد عمل المعماريين فى قرون ما قبل الثورة الصناعية لا يختلف كثيرا فى محدداته, الا ان التطور الهائل فى قوى الانتاج, مواد انشائية جديده, ادوات واساليب عمل فاعلة واجهزه مؤثرة فى الطبيعة فتح المجال امام تنوع فى الشكل والحجم والموضوع. 
           ان المعمار الشرقى, العراقى قد شيد المدينة ومناطقها المتنوعه, السكنية والميادين العامه بما يتلائم مع طبيعة المناخ  ووسائل النقل وما توفره الطبيعه من مواد انشائية. ان الصيف الطويل بشمسه الساطعه ودرجه حرارته العالية فرضت نمطا معينا من التشكيل المعمارى: ان الاماكن العامه, الشوارع والميادين التى يرتادها السكان ويستخدموها لمختلف انواع النشاطات تمتد شرفات مسقفه للابنية فى مستوى الطابق الاول وتقوم على دعامات على جانبى الشارع. ان هذه الشرفات المسقفه تفرز فضاءات, مساحات مضلله تتيح المجال للسابلة تفادى حرارة الشمس الساطعه ان يستخدموا الجهة الثانية المضلله من الشارع,انه يطرح بديلا يجد فيه راحه افضل من تعرضه لاشعة الشمس , كما ان الاسواق البغداديه  القديمه مازالت مسقفه يقصدها السكان للتبضع ويقضوا فيها وقتا مريحا بعيدا عن الشمس وبدون هذا التسقيف سوف تفقد عملية التسوق فرحتها وتقاليدها, وربما سوف تتغبر اوقات التسوق الى ساعات ما بعد العشاء.  ان تصميم المحلة السكنية ينطلق ايضا من مشكلة الشمس وحرارتها العاليه, يقوم التصميم على ازقه وطرق ضيقه (دربونه) لها عدة تفرعات وتقوم على جانبى هذه الازقة "البيوت البغداديه". ان الازقة الضيقه والبيوت المتقابله على جانبي الزقاق والدربونه تحدد كمية الشمس وتسمح فى اوقات معينه من النهار فقط التسلل اليها وبالتالى الى البيوت  بما يجعل السكن والحركة مع الظروف المناخية الطاغية ممكنا. ان المحله السكنية  تتالف من عدداكبيرا من البيوت المتقابله والمتراصه بعضها ببعض, للاستفادة من مساحة الارض وتقليل نفوذ الشمس الى المنطقه. ان الجهود مستمره فى التعامل مع الجدران الخارجية للبيت البغدادى, ان الجدار يخلوا من الشبابيك واذا قدر ان يكون احدهم فهو صغير وتقتصر وظيفته على الضؤ والهواء, ولا يقل عرض هذا الجدار عن 50 سم ويستخدم فى بنائه الطابوق الفرشى او الطابوق االمفخور والنوره المحلية كعنصر للربط. ان  عرض الجدار والمواد المحلية المستخدمه,انها مواد عازله, تعتبر اجراءات تمثل التفكير فى الحد من  تسرب ونفوذ الحرارة الى داخل البيت. اما المبدأ الذى يقوم علية التصميم الداخلى للبيت فهو مركزية الفناء الداخلى المفتوح الذى تقوم حواليه بقية المرافق وهو يعمل على عملية دوران الهواء ونفوذ الضؤ فى ارجاء البيت, بالاضافة الى محدودية نفوذ الشمس, هذا بالاضافة الى ما ابتكره المعمار البغدادى فى  بناء فتحات مفتوحه فى اعلى البيت وفى اتجاه الرياح الباردة والتى سوف تنفذ الى الطابق الاول والى الطابق الارضى ( البادكير) وتساعد على تبريدة. وليس اخيرا تسقيف البيت الذى يستخدم فيه الخشب والطين المخمور بالتبن وتعتبر هذه المواد عازلة جيده للحرارة.
    ان تصميم المدينه وتقسيماتها الاداريه, المحلات السكنية, البيوت البغدادية تعتبر نظاما متكاملا  استمر فاعلا لقرون عديده فى العراق والشرق بشكل عام فى  مرحلة ما قبل الحداثة والثورة الصناعية. الا هذا النظام لم يعد قائما وقد تجاوزته التطورات العلمية والتكنولوجيه, الا ان موضوع الشمس وحرارتها وشهور الصيف الطويله  مازال فاعلا وربما اصبح اكثر فاعلية نتيجة لامتداد المدينه والزيادة السكانيه وبروز الحاجه الماسه الى اراضى, وهذا بدوره ادى الى تقلص الاراضى الخضراء والاراضى الزراعية.            لم يعد البيت البغدادى نموذجا للسكن وجاء الابتعاد عنه مع الحداثة , منذ احتلال بريطانيا للعراق, مع دخول افكار واساليب عمل ومواد انشائية جديده, وجاء هذا تدريجيا واستمر الى منتصف الخمسينيات. ان توزيع الدوله للمواطبين, الموظفين خاصة بالاضافة الى بعض ملاكى الاراضى الذين عرضوا بعض اراضيهم كقطع سكنية للبيع( مدينة البياع),فى مساحات تترواح بين 150م2- 600م2 وظهور الجمعيات التعاونيه والنقابات المهنيه وسيعها المتواصل للحصول على اراضى سكنيه لاعضائها ومنتسبيها, وليس اخيرا قروض البنك العقارى المشجعه قد افرزت حركة قويه لبناء الوحدات السكنية وتكونت احياء ومدن سكنيه عديده , مدينة الحرية , مدينه الثوره, مدينة البياع..الخ وتم تصميم هذه الاحياء على قاعدة لوحة الشطرنج: شوارع عريضة مستقيمه متفاطعه يشيد على جوانبها الوحدات السكنيه., هذا يعنى ان هيكلية المدينه العربيه قد تغيرت واصبحت فضاءات للعمل, اخرى للسكن وثالثة للخدمات والنرويح مما جعل ضروة استخدام الاليات والسيارات لنقل البضائع والسكان, لقد اصبحت المدينه العربية مفتوحة ليس فقط للشمس والغبار وانما ايضااسرارها ومفاجأتها وجماليتها. ان شوارع الاحياء السكنيه وكذلك الشوارع الرئيسيه اصبحت مفتوحة لاشعة الشمس ولا توفر ظلالا للسابله. لقد اصبحت متعة التمشى و التسوق فى شوارع بغداد الرئيسية غير ممكنه ان لم تكن عملية عذاب. لقد مات شارع الرشيد واصبح التجول فيه عذاب اليم بعدما كان جميلا بهيا فى خدماته ومعارضه ورقيه, وكما ان الابنية التراثية التى شيدت عليه على مدى مدى 100 عام اصبحت ايلة الى السقوط  تعبر عن الاهمال المتعمد الذى ليس له علاقة بالتراث الثقافى ان لم يكن مناصبا له واصبحت مجالا خصبا للمافيات العقاريه. النخبه الى لااصل لها تحارب الجمال والاصاله.                  
     ان الوحدات السكنيه قد اتخذت من نظام الوحدة السكنية  ( الاوربيه) الانكليزيه نموذجا.  لم يعد الفضاء الداخلى المفتوح ذو اهمية, فقد تم تسقيفه فى الطابق الاول والثانى, وجاء التسقيف فى البداية بالحديد والطابوق ( عكادة) ثم اصبح الكونكريت المسلح المفضل لما يقدمه من متانة واستمراريه,  كما فتحت الجدران الخارجيه بشبابيك واسعة كبيرة, كما احيط البيت بسياج للحفاظ على بعض من الخصوصيه. مما لاشك فيه فان "البيت  الانكليزى" اكثر متانه وافضل من ناحية الاداء الوظيفى حيث تتوفر فيه مرافق مهمه مستقله , المطبخ والحمام, بالاضافة الى تصريف المياه الثقيله. ان الاشكاليه الكبيرة التى افرزها تبنى النموذج الانكليزى فى العراق عدم الاخذ بالتدابير الضرورية اللاازمه فى التعامل مع حرارة الصيف وبرد الشتاء وتم نقلة حرفيا دون التفكير بمدى صلاحيته فى ظروف طبيعية مختلفة تماما: ان الشبابيك الكبيره الواسعه وتعرضها المباشر للشمس, ثم التسقيف, خاصة الكونكريت المسلح الذى يعتبر عنصرا جيدا لنقل الحرارة ودخولها البيت, ثم ضعف دوران وتجديد الهواء, كما ان الجدران الخارجية اخذت تكسى بطبقة من الاسمنت بما يعرف بـ ( اللبخ) واخذت الارضيات تغلف ( تطبيك) بالكاشى الذى هو خليط من الرمل والاسمنت وبعض الاحجار. فى واقع الامر ان هذه البيوت فى هيئتها المغلقه والمواد الانشائية المستخدمه  كانت اقرب الى ( فرن حرارى) منها الى وحدوات سكنيه تعمل على راحة السكان وبذلك اصبح ضروريا وقضية لابد منها استخدام وسائل تكنولوجيه لتخفيف درجات الحرارة لجعل الاقامه فيها ممكنه اصلا.                              لم تحصل محاولات جديه لتكييف وتحديث البيت البغدادى وجعله وحدة سكنية معاصرة تحلو الاقامة فيها, وهذا لم يحصل عمليا وانما نظريا ايضا من قبل المهندسين المعماريين وعلماء الاجتماع والفنانين. انى اعتقد بان هيكلية البيت البغدادى اكثر ملائمة للعائله العراقية, خاصة فيما يتعلق بمركزية الفناء المفتوح وما يوفره من مجال للحركه بالاضافة الى ما يوفره الفضاء من تشكيلات جماليه, كما يمكن اضافة مرافق ضروريه لم تكن متوفرة فيه, الحمام, المطبخ و اسالة وتصريف المياه.  لقد اصبح ضروريا بعد هذه السنين الطويلة وتجربتنا مع البيوت الاوربيه وعجز الكهرباء الدائم والحاجة المستمرة لاستخدام تكنولوجيه حديثه ان نعيد النظر فى تفكيرنا وعاداتنا ونفكر بشكل عملى وجدى فى البحث عن سكن مريح جميل يحمى العائله ويحفظ الخصوصيه ويتعامل مع الطبيعه ويكون صديقا لها. 
     
    دكتور حامد السهيل
     13/8/2019                              

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media