العراق في وضع لا يُحسد عليه، ومهدد بالسقوط في الهاوية في أية لحظة، والسبب هو أن قسماً من العراقيين لا يدركون خطورة الموقف، والقسم الآخر على أهبة الاستعداد ليضحوا بمصلحة شعبهم وبلدهم في سبيل مصلحة إيران والسعودية وإسرائيل، وذلك بمعاداة أمريكا التي حررتهم من أبشع نظام همجي عرفه التاريخ. الغرض من الهجوم على السفارة الأمريكية هو استدراج العراق إلى مواجهة غير متكافئة مع أمريكا.
المشكلة كما يلي: إيران تتجنب الصدام المباشر مع كل من أمريكا وإسرائيل والسعودية. وكذلك كل من هذه الدول الثلاث تتجنب الصدام المباشر مع إيران. ولكن هؤلاء جميعاً يريدون حرباً بالوكالة على الأرض العراقية وبدماء العراقيين. والكارثة أن العراقيين يسهل استخدامهم لتنفيذ مهمات تلك الدول التي لا تريد للعراق خيراً.
فهناك محاولات لزج الحشد الشعبي في هذه المهمة التدميرية، بل وحتى توريط المرجعية الشيعية أيضاً.
فالحشد الشعبي ليس حشداً واحداً، بل هناك عدة حشود وفصائل مسلحة منها موالية لإيران مثل (كتائب حزب الله في العراق)(1)، زعيمها غير معروف لحد الآن، و(عصائب أهل الحق) بزعامة الشيخ قيس الخزعلي. قامت كتائب حزب الله العراقي يوم الجمعة (27/12/2019) بهجوم صاروخي على موقع أمريكي في العراق قتل على أثره متعاقد أمريكي، وإصابة أربعة من أفراد الخدمة الأمريكية. ورداً على هذا الهجوم قصفت طائرة أمريكية من طراز F-15E ليلة الأحد عدداً من مواقع كتائب حزب الله أدى إلى مقتل 25 مقاتلاً، وإصابة العشرات. لاحظ الفرق في نسبة الخسائر بين الطرفين (1 إلى 25 في صالح أمريكا). فكما جاء في تقرير بي بي سي: "هذه هي أول ضربة مضادة للقوات الأمريكية ضد الميليشيات الشيعية العراقية المتحالفة مع إيران منذ عقد. إنها تبشر بديناميكية جديدة ، يبدو أن الحرب ضد داعش في العراق من المرجح أن تطغى عليها المواجهة المتزايدة بين الوكلاء الإيرانيين في العراق والوجود العسكري الأمريكي القوي البالغ 5200 في البلاد."
ورداً على ذلك اندلعت أمام مقر السفارة الأمريكية في بغداد، صباح الثلاثاء (31/12/2019)، مظاهرات حاشدة رافقتها أعمال عنف ضد السفارة. واتهم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إيران بالوقوف وراء "الهجوم" على السفارة، مهددا إيران بأنها ستتحمل "المسؤولية الكاملة" عن هذه الأحداث.
والجدير بالذكر أن شارك بالتظاهرات المنددة بالقصف الامريكي، أمام السفارة الامريكية، الأمين العام لعصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، والأمين العام لمنظمة بدر، هادي العامري، ورئيس هيأة الحشد الشعبي، فالح الفياض، ونائبه أبو مهدي المهندس، ونائب الأمين العام لسرايا الخراساني، حامد الجزائري، فيما رفع عضو مجلس النواب، عن كتلة الصادقون النيابية، حسن سالم، علمي الحشد الشعبي وكتائب حزب الله على السياج الخارجي للسفارة.(2).
إضافة إلى هذا التصعيد الجديد، فـ(التظاهرات التشرينية) المؤيدة لأمريكا والسعودية، والمعادية لإيران، مازالت مستمرة تواصل أعمالها التخريبية بحق الشعب والوطن، وليس هناك أي ضوء في نهاية النفق لإنهائها، أو إيجاد "المرشح المعجزة" كبديل للسيد عادل عبدالمهدي ليشكل الحكومة الجديدة، ينال قبول الجميع بمن فيهم الشارع، الذي هو الآخر منقسم على نفسه.
فالعراق يواجه تصعيداً جديداً ومتواصلاً في أزماته بلا توقف، كلها تهيئ لمواجهة غير متكافئة مع الدولة العظمى أمريكا. نعم أمريكا التي حررت العراق من أبشع نظام دكتاتوري فاشي عنصري طائفي، لم يكن العراقيون يحلمون يوماً بالخلاص منه. فبدلاً من أن يوحِّد العراقيون صفوفهم ويستثمروا العلاقة الحميمة مع الدولة العظمى لصالح شعبهم، نراهم يساهمون بحماس شديد في تصعيد الصراع لتحويل العراق إلى خرائب وأنقاض كما حصل لسوريا واليمن.
فالعراق اليوم يُطحن بين طابقي رحة، الطابق الإيراني بقيادة زعماء فصائل الحشد الشعبي ضد أمريكا. راجع مقالنا الموسوم (العراق بين سندان أمريكا ومطرقة إيران)(3)، والطابق الأمريكي-السعودي-الإسرائيلي ضد إيران والفصائل الموالية لها. وهذا الطابق الأمريكي يمثله ما يسمى بـ(التظاهرات التشرينية)، التي تمولها السعودية والإمارات، وتدعمها وسائل إعلامهما، ومهمتها إشغال الحكومة وقواها الأمنية بالصدام المباشر. فالحكومة العراقية هي ضعيفة أصلاً، لا حول لها ولا قوة، تقدم المثال النموذجي لما يسمى بالدولة الفاشلة. وهذا هو غرض أعداء العراق من دول الجوار لإبقائه في قعر قائمة الدول الفاشلة.
هناك مساع محمومة متواصلة من قبل هذه الدول باستخدام العراقيين أنفسهم لتصعيد الفوضى الهدامة لإيصال الشعب إلى مرحلة اليأس، والقبول بانقلاب عسكري يعيد الأمن، ويوعد بنظام ديمقراطي في أول الأمر، و تدريجياً يأتي بعناصر بعثية للسلطة، وتحت مختلف الأسماء، ينفذون لهم ما يريدون من سحق القيادات الشيعية، وإقناع الشعب العراقي، والرأي العام العالمي، بأن الشيعة إرهابيون، وقادتهم السياسيون فاشلون وغير صالحين للحكم، وأن الشعب العراقي غير مؤهل للديمقراطية، لذلك فإعادة الوضع إلى ما قبل 2003، هو الحل السليم، والعداء لإيران، والخضوع التام للسعودية وحلفائها في المنطقة، وإلغاء اتفاقية الإعمار مع الصين، والموافقة على ما يسمى بـ(صفقة القرن) الهادف إلى التطبيع مع إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.
لذلك على العراقيين من جميع المكونات، والكيانات السياسية أن ينتبهوا إلى أنفسهم، ويعوا أنهم بإمكانهم إنقاذ بلادهم، وتحقيق الأمن والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي فيما لو وحدوا صفوفهم، وركزوا على مصلحة شعبهم، ورفضوا الانحناء أمام من يريد ركوب ظهورهم. فليس من مصلحة العراق معاداة أمريكا، لأن معاداة أمريكا بمثابة انتحار جماعي، فأمريكا دولة عظمى، لا تريد نهب خيرات العراق كما تدعي إيران وأتباعها من العراقيين، وهي أغنى دولة في العالم، وذات إمكانيات هائلة يمكن الاستفادة منها، وهي التي تصرف الكثير على الدول المتحالفة معها، بل وتهدد اليابان وكوريا الجنوبية وحتى السعودية والدول الخليجية الأخرى بسحب حمايتها لهم ما لم يساهموا بدفع تكاليف حمايتهم. فمن الغباء معاداة أمريكا بدلاً من كسبها وخاصة في هذا الظرف الحرج حيث العراق مازال في غرفة الانعاش. كما نؤكد مرة أخرى، أن رفضنا معاداة أمريكا لا يعني أننا ندعو إلى معاداة إيران وهي دولة جارة، ولكن لا نريد أن يضحي العراقيون بمصلحة وطنهم في سبيل إيران بذرائع وهمية واهية، تارة باسم السيادة وأخرى باسم الكرامة.
إن الهجوم على السفارة الأمريكية ليس دليل الشجاعة والوطنية، بل دليل التهور وغياب الحكمة، وعدم شعور قادة تلك التظاهرة بالمسؤولية، وما يترتب عليه من تبعات خطيرة جداً. يجب أن يعرف العراقيون أن حكام السعودية والدول الخليجيه الأخرى وإسرائيل، يتبادلون التهاني الآن بهذه الهجمةِ لإقناع أمريكا إن الشعب العراقي، وخاصة الشيعة، هم حلفاء إيران، لذلك من العبث أن تسندونهم، أو تقفوا مع العراق الذي لا يصلح له النظام الديمقراطي.
إن التجاوز على السفارة الأمريكية، يذكِّر بهجوم الطلبة الإيرانيين على السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 بُعيد انفجار الثورة الإيرانية، واختطاف طاقمها وأسرهم لمدة 444 يوماً، وما ترتب على ذلك من عواقب كارثية وخيمة من بينها الحرب العراقية- الإيرانية لثمان سنوات أهلكت الحرث والنسل من الجانبين. وعواقب الهجمة على السفارة الأمريكية في العراق أخطر و أسهل بكثير، إذ بإمكان أمريكا و إسرائيل شن حرب بالطائرات المسيرة، والصواريخ الموجهة ضد جميع فصائل الحشد الشعبي، أو أي موقع استراتيجي عراقي، إضافة إلى استمرار "الثورة التشرينية المباركة" لاستنزاف كل طاقات الشعب العراقي.
غني عن القول، أن تصعيد الصراع الإيراني - الأمريكي في العراق هو حرب بالوكالة بينهما ولكن بدماء العراقيين. ولا أدري لماذا لا يدرك المسؤولون العراقيون من أمثال هادي العامري، وقيس الخزعلي وفالح الفياض مغبة عملهم هذا. إن هذا العمل ليس شجاعة ولا وطنية بل تهور إلى أبعد الحدود يجعل العراق في مهب الريح من جميع الجهات، من جهة ما يسمى بـ( الثوره التشرينية) التي تباركها وتمولها السعوديه وأمريكا وإسرائيل، والتظاهرات المعاديه لأمريكا الآن التي تباركها إيران. وكلا الطرفين يستخدمون العراقيين لتنفيذ مخططاتهم الجهنمية على حساب الشعب العراقي.
اللهم أحفظ العراق من العراقيين.
ـــــــــــــــــــــ
روابط المصادر
1- ما هي كتائب حزب الله في العراق؟
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-50945835
2- عبدالمهدي يتلقى اتصالا هاتفيا من ترامب
https://www.akhbaar.org/home/2019/12/266431.html
3- د. عبد الخالق حسين: العراق بين سندان أمريكا ومطرقة إيران
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=652763
روابط ذات صلة
وزير الدفاع الأمريكي: اتخذنا إجراءات هجومية ضد جماعة ترعاها إيران
https://www.akhbaar.org/home/2019/12/266354.html
اعتصام أمام السفارة الأمريكية في بغداد احتجاجاً على قصف مقر الحشد بالقائم
https://www.akhbaar.org/home/2019/12/266403.html
تقرير بي بي سي: ضربات أمريكا لكتائب حزب الله العراقي "مرحلة جديدة" في المواجهة مع طهران
https://www.bbc.com/arabic/inthepress-50958393