الرشاقة الإستراتيجية في زمن الكورونا
    السبت 24 أكتوبر / تشرين الأول 2020 - 09:03
    د. وجيه العلي
    أكاديمي عراقي
    مقدمة:
    أوقع الهجوم الشرس وغير المتوقع لجائحة كورونا أعنف صدمة اقتصادية لمنظمات الأعمال منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع، لم يكن الأمر مجرد صدمة اقتصادية وحسب؛ بل كان حدثاً كارثياً بكل المقاييس وتحدياً سافراً لمنظومة القيم والتقاليد والممارسات السائدة في المجتمعات المختلفة وتهديداً مباشراً لنماذج الأعمال التي تتبعها الشركات والمؤسسات العامة والخاصة على حد سواء. وإزاء حدث كهذا، بات لزاماً على منظمات الأعمال أن تتحول أو تتغير لكيلا تفشل؛ وأن تتخذ خطوات استراتيجية جريئة وأن تعتمد نماذج تشغيل جديدة من أجل التكيّف السريع مع تداعيات الجائحة وتحسين الإنتاجية وتحقيق نتائج إيجابية في وقت قياسي.
     واليوم، يرى العديد من قادة الأعمال ورجالات الفكر والسياسة ضرورة إعادة تشكيل المنظمة لذاتها من خلال تبني طرق جديدة للعمل وإجراء تغييرات بنيوية تسمح بالاستجابة بسرعة للتحديات والفرص الناشئة التي أفرزتها العولمة والثورة الصناعية الرابعة وجائحة كوفيد-19. ولعل أهم التغييرات المقترحة تتمثل في تسريع نطاق الإبداع والابتكار، والتوسع في استخدام التقنيات والبرمجيات الرشيقة، وتنفيذ الأعمال عن بُعد، والتركيز على التمكين والتعاون وخفة الحركة، وتحسين الاتصالات، وتشجيع المبادرات، وتعميق العلاقات، وترقية المنتجات والخدمات لتلبية احتياجات العملاء، وزيادة سرعة اتخاذ القرارات، والانتقال الى الهياكل التنظيمية المسطحة غير الهرمية، والدخول في تحالفات وشراكات إستراتيجية، وإطلاق العنان للفرق الرشيقة والعالية الذكاء؛ وأخيرا وليس آخرا، إنشاء منصات لنشر المهارات وجلب القدرات المتطورة في مجالات التنبؤ والتحليل والتسويق والذكاء الاصطناعي واتمتة العمليات. 
    كذلك، ثمة جدل واسع يدور الآن بين الأكاديميين والممارسين العمليين بشأن أفضل الممارسات التي يمكن لمنظمات الأعمال إتباعها بهدف البقاء والتميّز في عالم سريع التغير وفي بيئة مضطربة يكتنفها الكثير من الغموض وعدم الاستقرار. وسواء أكانت هذه الاضطرابات أو التغيرات ناتجة عن إدخال تقنيات جديدة، أو ظهور منافسين جدد لم يتوقعهم أحد، أو انتشار الفيروسات الوبائية، أو حدوث تحولات جذرية في السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية -- فإن الشركات التي تنجو وتتصدر الموقف هي عادةً تلك الشركات الذكية والرشيقة التي تتبنى منهجية "الرشاقة الإستراتيجية" والتي تكون بحكم رؤيتها ومرونتها قادرة على التكيّف والاستجابة السريعة لكل التبدلات المفاجئة الحاصلة في ظروف السوق واحتياجات العملاء؛ لا بل وحتى توظيفها واستغلالها لمصلحة الشركة وجني الأرباح.
    المقال الحالي محاولة أولية للتعريف بمفهوم "الرشاقة الاستراتيجية" وبيان خصائصها الأساسية وأهمية تبنيها من قبل منظمات الأعمال المختلفة في العالمين النامي والمتقدم لتحقيق التميز والاستدامة في بيئة تنافسية مضطربة ومتغيرة باستمرار كتلك التي نعيشها اليوم بفعل التطورات العلمية والتكنولوجية غير المسبوقة وبفعل تفشي فيروس كورونا المستجد. 

    ما هي الرشاقة الإستراتيجية؟ 

     تعد "الرشاقة الإستراتيجية" Strategic Agility  من المفاهيم الإدارية الحديثة نسبياً والتي ظهرت بقوة في الأدبيات المتخصصة خلال السنوات القليلة الماضية. وفي جوهرها، تعبر الرشاقة الإستراتيجية عن قدرة المؤسسة على التكيّف والمرونة والإبداع ورؤية التحولات او التبدلات غير المتوقعة داخل وخارج بيئة الأعمال التي تعمل فيها والاستجابة لها بسرعة وفاعلية. الخبير الإستراتيجي كارل لونغ يعرف الرشاقة الإستراتيجية بإنها القدرة على إنتاج المنتجات المناسبة في المكان المناسب في الوقت المناسب بالسعر المناسب وللزبون المناسب. كما وصفها البروفيسور إيف دوز وزميله ميكو كوزنن في كتابهما (الإستراتيجية السريعة) والصادر عام 2008، بأنها القدرة على تعديل او تشكيل إستراتيجية المنظمة بشكل ديناميكي في بيئة متغيرة من خلال الترقب المستمر والتكيّف مع حاجات الزبون. وبشكل عام، ينظر إلى الرشاقة الإستراتيجية على إنها منهجية تتبناها عادة المنظمات المعاصرة لتحقيق التميز والتفوق على منافسيها في بيئة مضطربة ومتقلبة يسودها عدم الاستقرار وعدم التأكد.

    الرشاقة الإستراتيجية مقابل الرشاقة التشغيلية:

    للرشاقة الإستراتيجيةStrategic Agility  عدد من الخصائص تميزها عن الرشاقة التشغيلية أو التصنيعية  Operational Agility. ستيف دينينغ، كاتب كبير في فنون القيادة والإدارة ومؤلف كتاب "عصر الرشاقة" الذي أصدرته الجمعية الأمريكية للإدارة عام 2018، يرى أن الرشاقة التشغيلية تتمثل في سعي المؤسسة إلى جعل منتجاتها أو خدماتها الحالية أفضل وأسرع وأرخص للعملاء الحاليين؛ في حين تركز الرشاقة الإستراتيجية على الاستدامة في تعزيز القيمة وإعادة تكوينها من خلال اختراق المؤسسة لأسواق جديدة، وتبني نماذج أعمال جديدة، وطرح منتجات جديدة لتصل إلى زبائن جدد؛ بمعنى أن المؤسسات الرشيقة إستراتيجيا هي تلك التي تعتمد الابتكار والإبداع والسرعة في خلق السوق وزيادة العوائد والأرباح مقارنة بغيرها من المؤسسات المنافسة. 

    وللتمييز بين الرشاقتين، نقدم بعض الأمثلة السريعة:

    - تصنيع شمعة بمواصفات أفضل، هي رشاقة تصنيعية؛ في حين صنع مصباح كهربائي، هي رشاقة إستراتيجية.
    - تعزيز تربية سلالات من الخيول السريعة، هي رشاقة تصنيعية؛ في حين صنع سيارة، هي رشاقة إستراتيجية.
    - تحديث مناهج دراسية جامعية، هي رشاقة تشغيلية؛ في حين طرح برامج أكاديمية جديدة واستخدام بيداغوجيا متقدمة تلبي حاجات الأجيال القادمة في مجالات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المستدامة والمتجددة، هي رشاقة إستراتيجية. 
    - تطوير هواتف محمولة من قبل شركات مثل (نوكيا وبلاك بيري)، هي رشاقة تصنيعية؛ في حين قيام شركة ِ(آبل) بتطوير جهاز متعدد الوظائف (آي فون) لجذب مجموعة أكبر من الزبائن، يعد رشاقة إستراتيجية.
    - تحسين أقراص (دي في دي) من قبل بعض الشركات، هي رشاقة تصنيعية؛ في حين قيام شركة (نت فليكس) في بث الأفلام عبر الإنترنت، يعد رشاقة إستراتيجية.
    - قيام شركة غوغل بتحسينات مستمرة لعملية البحث المستند إلى لوحة المفاتيح ( كي بورد-بيس )، هي رشاقة تشغيلية؛ في حين ريادة شركة أمازون للبحث المنشط بالصوت (أي كو)، هي رشاقة إستراتيجية. 
    ومن دون الدخول في تفاصيل أكثر، لابد من الاعتراف بأن الرشاقة التشغيلية بالنسبة لمنظمات الأعمال هي أمر جيد، لا بل وضروري من أجل البقاء على قيد الحياة؛ ولكن لها عيبها كونها لا تمنح الشركة ميزة تنافسية بسبب سهولة النفاذ الى أسواق القرن الواحد والعشرين ومسارعة الشركات المنافسة إلى محاكاة أو مطابقة هذه التحسينات، وبالتالي قد لا تجني الشركة من وراء تلك التحسينات الكثير من المال!! 

    أهمية الرشاقة الإستراتيجية لمنظمات الأعمال:

    ما يميز منظمات الأعمال الناجحة هو ريادتها ومرونتها وتنافسيتها.  فلا غرو إذن أن تسعى مختلف المنظمات والمؤسسات إلى تبني إستراتيجيات وفلسفات إدارية غير تقليدية لمواجهة التحديات الجديدة ومواكبة أو استباق التطورات السريعة والتغيرات المتلاحقة الحاصلة في بيئة العمل وتحقيق الميزة التنافسية. ولعل واحدة من أهم تلك الإستراتيجيات أو الخيارات هي "الرشاقة الإستراتيجية"، أو ما يطلق عليها أحيانا بـ "إستراتيجية خفة الحركة". 
    في مقال هام نشرته مجلة Strategic Change عام 2003، صوّر أستاذ الإدارة روبرت مورغان وزميلته كيلي بيج، "الرشاقة الإستراتيجية" بأنها "مفتاح النجاح" في بيئة أعمال سريعة التغير كونها قادرة على التكيّف وقيادة التغييرات المفاجئة من أجل الاستفادة من فرص السوق المتغيرة. كما أن خبير المخاطر والإستراتيجيات ليو تلمان وزميله تشارلز جاكوبي قد قدما في كتاب لهما صدر عام 2019 بعنوان: "أجيليتي: كيفية التنقل في المجهول واغتنام الفرصة في عالم مليء بالاضطرابات" تقييماً شاملاً للطبيعة الأساسية لخفة الحركة التنظيمية وخلصا إلى أن الرشاقة الإستراتيجية تمّكن المنظمة من التغلب على المنافسين من خلال اغتنام الفرص والتعامل بشكل أفضل مع تحديات الثورة الصناعية الرابعة. كذلك وصفت الرشاقة الإستراتيجية من قبل باحثين ومتخصصين آخرين بأنها أفضل خيار للتنافس والبقاء في السوق والتكيّف بسرعة مع التغييرات غير المتوقعة ومواجهة المخاطر الكبيرة واستغلال الفرص المتاحة التي توفرها التغييرات في بيئة العمل. 

    ومن الخصائص الأساسية الأخرى للمنظمات الرشيقة هي:

    1) التمحور حول العميل والتكيف مع احتياجاته الحالية والمستقبلية.
    2) تشكيل فرق ذكية قادرة للاستجابة بشكل جماعي للأزمات والتغيرات السريعة والطارئة.
    3) تبني ثقافة النمو والنجاح واعتبار الفشل كجزء من التعلم للتقدم إلى أمام.

    محددات الرشاقة الإستراتيجية:

    لبلوغ الرشاقة الإستراتيجية يتحتم على منظمات الأعمال امتلاك "المزيج المناسب" من الموارد والقدرات الجوهرية والنادرة. وفي خلاف ذلك، ستتحول هذه المنظمات، مع مرور الوقت، إلى منظمات جامدة ومتقهقرة وغير قادرة على المنافسة واقتناص الفرص والتصدي لتحديات العصر الرقمي. خبراء إستراتيجيين أمثال كارل لونغ (2000) وإيف دوز وزميله ميكو كوزنن (2008) يؤكدون على ثلاث قدرات جوهرية وأساسية تحتاجها المنظمة من أجل المحافظة على رشاقتها ونموها وتميزها؛ نذكرها هنا باختصار شديد:

    1)الحساسية الإستراتيجية: وتعني قدرة المنظمة على فهم وإدراك محيطها الخارجي وبيئتها الداخلية وما يطرأ عليهما من تغيرات من خلال الانفتاح والاستشعار والتبصر واغتنام الفرص بشكل أسرع من المنافسين. 
    2) الشراكة في المسؤولية والالتزام بالعمل الجماعي: وتعني اتخاذ القرارات بالتعاون مع فرق العمل الرشيقة والعالية الذكاء ومنحها صلاحيات واسعة لحل المشكلات واتخاذ القرارات. 
    3) سيولة الموارد: وتعني قدرة المؤسسة على الاستقطاب والتحريك المرن للموارد والمهارات والخبرات الضرورية لبقائها واستدامة نموها وتميزها التنافسي.

    ملاحظات ختامية:

    مع تقدم الثورة الصناعية الرابعة للأمام وتسارع وتيرة الاضطراب والفوضى بسبب تفشي وباء كورونا العالمي؛ لم تجد العديد من منظمات الأعمال سبيلاً سوى التكيّف وإعادة تقييم إستراتيجياتها ونماذج أعمالها من أجل الصمود في وجه العاصفة وامتصاص تداعياتها الخطيرة، لا بل وحتى اغتنام الفرصة لتحقيق المزيد من الأرباح مثلما فعلت شركات الأدوية عبر مساعيها الحثيثة للتوصل إلى لقاح مضاد لفيروس كورونا المميت، ومثلما فعلوا عمالقة التكنولوجيا أمثال أمازون ومايكروسوفت وآبل وفيسبوك ومجموعة علي بابا الصينية وحققوا نجاحا أسطوريا على خلفية الوباء وبفضل الاتجاه لتنفيذ الأعمال عن بُعد، فضلا عن تجار التجزئة الذين يقدمون المستلزمات الضرورية خلال فترات الحظر أو الإغلاق عبر الشبكات العنكبوتية. كذلك أوضحت صحيفة «فايننشال تايمز» في عددها الصادر بتاريخ 21 يونيو2020، أن الشركات المدرجة في البورصة، هي الأخرى، استفادت جيدا من الأوضاع المضطربة الأخيرة، إذ سجلت انتعاشا قويا في سوق الأسهم بشكل مدهش، وهو الأمر الذي يعتقد كثيرون أنه فقاعة لا بد لها وأن تنفجر!
    هناك العديد من الخيارات أو الإستراتيجيات المطروحة والتي يمكن لمنظمات الأعمال ومؤسسات الدولة أن تتبناها من أجل الحفاظ على نموها وتميزها في ظروف بيئية تتسم بالتعقيد والتشابك وعدم الاستقرار. "الرشاقة الإستراتيجية"، وفقا لعدد غير قليل من الأكاديميين والممارسين العمليين، هي أهم تلك الخيارات لما لهذه الإستراتيجية من قدرة على دعم وقيادة التغييرات المفاجئة في الأسواق وفي رغبات العملاء وتحقيق التميز التنافسي. لذلك ينبغي عدم الاستغراب من استمرار الحديث عن الرشاقة الإستراتيجية في الأدبيات المتخصصة ووصفها على أنها "مفتاح النجاح"، ومن أننا نعيش اليوم "عصر الرشاقة"، ومن أن المنظمات الذكية والرشيقة إستراتيجياً هي وحدها القادرة على البقاء والازدهار والتحول السريع إلى الرقمية وتحقيق الميزة التنافسية في بيئة عمل متطورة تكنولوجيا لكنها مضطربة ومتقلبة ويسودها الكثير من الغموض وعدم التأكد.
     
    عام 2020، هو عام كئيب بالنسبة لمعظم الشركات والحكومات ولغالبية الشعوب والمجتمعات. جائحة كورونا وضعت الجميع أمام تحديات واسعة وخطيرة، تمثلت في تعطل أغلب مناحي الحياة في العالم وتراجع حاد في الطلب على الطاقة وتباطؤ شديد في سلاسل الإنتاج والتوزيع وتوقف شبه تام في العديد من الأنشطة والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية. صندوق النقد الدولي حذّر من أزمة ركود أسوأ من تلك التي شهدها العالم عقب الأزمة المالية عام 2008، أما منظمة "أونكتاد" فنبّهت إلى احتمال أن يشهد العالم ما يُعرف بـ "لحظة مينسكي" أي لحظة الانهيار الكبير والمفاجئ في قيم الأصول المالية كالأسهم والسندات والعملات، والتي تؤدي لاحقاً إلى أزمة مالية شاملة وانتهاء مرحلة النمو. 

    خبراء استراتيجيون وقادة إداريون يؤكدون أن أقوى حالات التعافي والنمو ستأتي من الشركات والمؤسسات الرشيقة التي كثفت وطورت من عملياتها وأسست لها وضعاً طبيعياً جديداً؛ واستخدمت الاضطراب غير المسبوق الذي أحدثته أزمة كورونا كفرصة للتعلم والتحول وإعادة ترتيب الأولويات. وفي الوقت الذي يصعب فيه إنكار المأساة الكارثية التي حلت علينا بسبب جائحة كورونا وتأثيرها المرعب والطويل الأمد على الاقتصادات الناشئة وحتى المتقدمة؛ فإن حزم التحفيز المالي التي تجاوزت قيمتها 12 ترليون دولار والتدخلات السريعة التي أجرتها الشركات والمنظمات والحكومات لاحتواء الوباء العالمي والحد من تداعياته الخطيرة؛ توفر بارقة أمل هامة فضلا عن كونها شهادة على قوة المرونة والتصميم في مجتمعاتنا، والتي تعكس بدورها الحقيقة المطلقة بأن الإنسانية ستنتصر على وباء كورونا طبقا لمقولة ألبرت أينشتاين "في وسط الصعوبات تكمن الفرص"!

    دكتور وجيه العلي
    23 أكتوبر 2020
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media