وافق مجلس النواب العراقي قبل أيام على قانون تمويل العجز المالي. أنه الثاني من نوعه خلال خمسة شهور فقط. وستصدر قوانين أخرى مماثلة في العام المقبل. ولما كان التمويل مقتصراً على القروض عندئذ ستتفاقم المديونية العامة وستنهار القيمة التعادلية للدينار فيتدهور مستوى معيشة المواطنين.
القانون الجديد يختلف عن الوثيقة الأولى المرتبطة به والتي رفضها البرلمان. في هذه الوثيقة قدرت الإيرادات النفطية لغاية نهاية العام الجاري بمبلغ 19.7 ترليون دينار. وتنص الوثيقة في هذه الفقرة المتعلقة بالإيرادات النفطية على التعويضات للكويت بموجب قرارات أممية قدرها 0.5 ترليون دينار وعلى الأموال التي يتعين دفعها للشركات النفطية الأجنبية بمبلغ 5 ترليونات دينار. أما الإيرادات غير النفطية فقدرت بترليوني دينار وتتأتى من الضرائب والرسوم الجمركية وغيرها.
وأما النفقات العامة فقد بلغت 57.8 ترليون دينار. منها نفقات جارية تتعلق بالرواتب قيمتها 53.9 ونفقات استثمارية بمبلغ 3.9 ترليون دينار. وعلى هذا الأساس يصبح الحساب كالتالي:
(19.7 – 0.5 – 5) +2 – 57.8 = 41.6 ترليون دينار. وهو العجز لغاية نهاية العام الجاري. يمول بالقروض الداخلية والخارجية.
رفض البرلمانيون إذن هذه الوثيقة لأن مبلغ العجز مفرط بتقديرهم. وبالتالي لابد من أن تبحث الحكومة عن وثيقة أخرى. وهكذا تم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين على وثيقة تحتوي على ما يلي:
إيرادات صافية لغاية نهاية العام الجاري بمبلغ 10.5 ترليون دينار. ونفقات ضرورية بمبلغ 26.1 ترليون دينار. وبذلك يصبح العجز المالي 15.6 ترليون دينار. لدى وزارة المالية رصيد مدور قدره 3.6 ترليون دينار. حاصل طرح الرصيد المدور من العجز يساوي العجز النهائي. وهكذا وافق البرلمان على أن تقترض الحكومة 12 ترليون دينار من الداخل والخارج لتغطيته.
وتستوجب الوثيقة الثانية (القانون) تخصيص 20% من القروض للمشاريع الاستثمارية.
نلاحظ مما تقدم أن القانون يطرح تعويضات الكويت ومستحقات الشركات الأجنبية من الإيرادات النفطية الإجمالية للوصول إلى الإيرادات الصافية. وهذا خطأ في إدارة المالية العامة. لأن هذه التعويضات والاستحقاقات لا علاقة لها بالإيرادات حتى وأن احتسبت بموجب العوائد النفطية. ينبغي وضعها ضمن النفقات العامة. لا شك أن النتيجة الحسابية واحدة لكن الإدارة السليمة لمالية الدولة تستوجب ذلك. تتطلب الشفافية ذكر جميع الإيرادات والنفقات بالتفصيل دون إجراء مقاصة. كما جاء القانون بفكرة النفقات الضرورية. وكأن الوثيقة الأولى كانت تتضمن نفقات غير ضرورية.
ولكن كيف هبط حجم العجز المالي من 41.6 ترليون دينار في الوثيقة الأولى إلى 15.6 ترليون دينار في الوثيقة الثانية؟
تم تقليص المصروفات العامة الأمر الذي سيقود إلى عدم حصول المستحقين على كامل حقوقهم. ويشمل التقليص النفقات الاستثمارية.
ومن زاوية أخرى تختلف حسابات الإيرادات والنفقات في الوثيقتين. الوثيقة الأولى تتناول الشهور الأربعة الأخيرة من السنة الحالية. في حين تغطي الوثيقة الثانية الشهور الثلاثة الأخيرة من هذه السنة.
تتأتى القروض الخارجية من الحكومات والمؤسسات الأجنبية. وكذلك وبصورة خاصة من صندوق النقد الدولي. لجأ العراق إلى الصندوق عدة مرات خلال السنوات الأخيرة. ترتب على ذلك تردد الحكومات والمصارف الأجنبية في إقراض العراق أو فرض أسعار فائدة مرتفعة. كما يشكل هذا الوضع عاملاً أساسياً من العوامل غير المشجعة على جلب الاستثمار الأجنبي.
أدت الأزمة المالية التي يمر بها العراق منذ سنوات إلى أن يضع صندوق النقد الدولي برنامجاً للإصلاح الهيكلي. يتناول تقليص النفقات العامة المقررة للرواتب ولدعم أسعار الكهرباء. كما يحتوي صراحة على ضرورة معالجة الفساد المالي المستشري. عندئذ يمكن للصندوق إقراض العراق شريطة أن تتجه الأموال المقترضة نحو الاستثمار والاعمار.
تستجيب الورقة البيضاء لتقليص النفقات العامة حسب رغبة الصندوق. لكن محاربة الفساد ليست على جدول أعمالها.
أما الحصول على الأموال للاستثمار والاعمار فلا يدخل في أولويات الحكومة العراقية. فهي تحاول الحصول دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين. أي استخدام القروض لأغراض استهلاكية.
بسبب عدم كفاية القروض الخارجية في تمويل العجز المالي تلجأ الحكومة إلى التمويل المحلي الذي ينقسم إلى مصدرين: المصارف التجارية والبنك المركزي.
وبالنظر للحجم الهائل للأزمة المالية والإمكانية المحدودة للمصارف التجارية سيتم الاعتماد في عام 2021 على السحب من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي.
انتقل هذا الاحتياطي النقدي من 66.5 مليار دولار في كانون الأول 2019 إلى 59.4 مليار دولار في آب 2020 (الأرقام بالدينار مذكورة في الورقة البيضاء). وبسبب ضخامة العجز المالي سيستمر الاحتياطي النقدي بالهبوط ليصل في نهاية العام المقبل إلى اقل من خمسة مليارات دولار (تقديرات صندوق النقد الدولي). ولا أمل في زيادته في السنوات اللاحقة.
من الناحية العملية الاحتياطي النقدي هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن القيمة التعادلية للدينار مقابل الدولار وبالتالي العملات الأجنبية الأخرى. وعلى هذا الأساس فأن تفاعل انخفاض النقد الأجنبي مع ارتفاع الديون العامة واستمرار العجز المالي سيقود بالضرورة إلى هبوط سعر صرف الدينار.
وفق حساباتنا سيصل الدين العام في نهاية العام الجاري إلى 138 مليار دولار أي أعلى من حجم الديون الناجمة عن الحرب ضد إيران. وسيستمر التصاعد في العام القادم. وكلما زادت الديون ارتفعت خدمتها (الأقساط والفوائد). وارتفاع خدمة الديون يعني تزايد النفقات العامة. وتزايد هذه النفقات يضخم العجز المالي. والعجز المالي يفضي إلى إصدار قوانين أخرى للتمويل عن طريق القروض. وكلما تعددت هذه القوانين ارتفعت المديونية من جديد وهبط مستوى معيشة العراقيين لأن الدولة تدفع الأموال للدائنين بدلاً من دفعها للمواطنين. وهكذا دخل البلد في حلقة مفرغة بسبب فشل السياسة المالية وليس بسبب هبوط أسعار النفط.
لا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بتطبيق سياسة مالية جديدة ترتكز على محاربة الفساد وتسعى إلى إلغاء النفقات غير الإنتاجية المتمثلة في مرتبات الحشد الشعبي والأوقاف والقسط الأكبر من المصروفات العسكرية. وتخفيض المرتبات العليا. والتخلص من النظام الفيدرالي الفاشل بما فيه الكيان القانوني لإقليم كردستان. لا يمكن معالجة الأزمة المالية بفاعلية إلا عن طريق هذه السياسة.
تستوجب الحالة المتردية للصناعة والزراعة والخدمات الأساسية والبنية التحتية المدمرة والمتهالكة توظيف الأموال لتحسين الأداء الاقتصادي. أما تخصيص القروض لدفع الرواتب فيقود بالضرورة على تفاقم الأزمة الاقتصادية.
sabah.6001@outlook.fr