انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي.. ورطة أم مكسب؟
    الأثنين 28 ديسمبر / كانون الأول 2020 - 05:48
    د. حميد الكفائي
    باحث وأكاديمي
    أخيرا توصلت بريطانيا إلى اتفاقية تنظم علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، وقد اعتبرها المسؤولون نصرا كبيرا، لكن الحقائق مختلفة عن الادعاءات. فهل حققت بريطانيا مكسبا بانسحابها؟ ولماذا أصرت على التوصل إلى اتفاقية قبل موعد الانسحاب؟ إن كانت العلاقة مع الاتحاد الأوربي بهذه الأهمية، فلماذا ضحت بعضويتها في تجمع دولي يضم 27 دولة، بعد أن كانت عضوا فاعلا فيه لنصف قرن؟

    كبير المفاوضين البريطانيين، اللورد فروست، أعلن بفخر عن إيجابيات الصفقة مع الاتحاد الأوروبي قائلا إن "بريطانيا تخلصت من قيود محكمة العدل الأوروبية، وتحررت من القوانين الأوروبية، وخرجت من السوق الأوروبية والاتحاد الجمركي، ولم يعد هناك أي ارتباط بالاتحاد الأوروبي"! إن كان هذا هو الإنجاز الأعظم، فلماذا سعت بريطانيا جاهدة إلى للانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة سابقا؟ وإن كانت قد تحررت فعلا من (كابوس) الاتحاد الأوروبي، فما هي منافع هذا التحرر؟ ولماذا قال الوزير الفرنسي لشؤون أوروبا، كلمنت بيون، إن الاتفاق بين لندن وبروكسل "يُخضِع بريطانيا لقيود الاتحاد الأوروبي أكثر من أي بلد آخر في العالم"؟

    لقد عارضت بريطانيا أي تقارب بين دول أوربا منذ البداية لأسباب كثيرة يتعلق معظمها بمخاوفها من الهيمنة الألمانية الفرنسية على أوروبا، والتهميش (المعنوي) الذي يمكن أن يطالها، لذلك سعت إلى أن تبقى أوربا متفرقة كي تبقى في الصدارة وتبقى حليفتها الولايات المتحدة زعيمة للعالم الحر.

    في عام 1955، عقد أول مؤتمر للتقارب الأوربي في مدينة مَسينا الإيطالية ضم ست دول أوربية هي ألمانيا (الغربية) وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسومبورغ، عرف بمؤتمر مسينا والذي أنشأ (مجموعة الفحم والفولاذ الأوروبية). أرسلت بريطانيا مندوبا للمؤتمر، باعتبارها دولة منتجة للفحم والفولاذ، لكنه انسحب بعد أن رفض ممثلو الدول الست، مقترح بريطانيا بإنشاء منطقة تجارة حرة، كبديل للتقارب الاقتصادي الأوروبي.

    وفي ذلك المؤتمر، أُقرَّت المبادئ الأولى للتقارب الاقتصادي الأوروبي، الذي يقود إلى الاندماج في تكتل متجانس يجنِّب أوروبا والعالم مآسي الحروب. لم يغِب عن المؤتمرين أن الحربين العالميتين انطلقتا من أوروبا ودمرتا بلدانا كثيرة وعرقلتا التقدم العلمي والاقتصادي العالمي. كلَّف المؤتمر رئيس الوزراء البلجيكي، هنري سباك، بصياغة الأسس التي يقوم عليها التقارب الأوروبي المقترح. وكان سباك من كبار الساسة الأوروبيين الداعين إلى الوحدة، وسبق له أن أسس للتقارب بين دول البنيلولكس (هولندا وبلجيكا ولوكسومبورغ).

    وفعلا، تمكن سباك من صياغة وثيقة شاملة للتقارب الأوروبي، شكَّلت أساسا لمؤتمر روما عام 1957، الذي انبثقت عنه معاهدة روما التي أنشئ بموجبها "الاتحاد الاقتصادي الأوروبي".

    لم تقف بريطانيا مكتوفة الأيدي تجاه هذا التقارب الأوربي الذي همّش دورها، بل عملت على إنشاء تكتل منافس يتكون من دول غير مشاركة في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي، وهي النمسا والسويد والبرتغال والدنمارك وسويسرا، عقدت لها مؤتمرا في ستوكهولم عام 1959 وانبثق عنه "ميثاق ستوكهولم" الذي انشأ "المنظمة الأوروبية للتجارة الحرة". لكن هذه المنظمة لم تستطع أن تنافس المشروع الطموح للاتحاد الاقتصادي الأوروبي، بل ظلت حبيسة المصالح التجارية الضيقة ثم تلاشت لاحقا.

    أدرك رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، هارولد ماكميلان، الذي يعتبر من عظماء الساسة البريطانيين بعد ونستون تشترشل، أن بقاء بريطانيا خارج التوجه الأوروبي الجديد، ليس في مصلحتها، خصوصا وأن منافستيها الرئيسيتين، فرنسا وألمانيا، مصممتان على إنجاح مشروع الاتحاد الأوروبي، لذلك تقدم بطلب للانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة عام 1963.

    لكن فرنسا في ظل رئاسة تشارلس ديغول، عارضت انضمام بريطانيا، لأسباب كثيرة أهمها علاقتها غير المتكافئة بالولايات المتحدة، التي تسعى أوروبا لأن تبني علاقة متكافئة معها، بينما تتسم علاقة بريطانيا بأمريكا بأنها علاقة عضوية مبنية على أسس ثقافية عميقة وتتسم بالتبعية. ومن المعوقات الأخرى أن بريطانيا تقود تكتلا آخر هو الكومونولث، وقد يكون وجودها في الاتحاد الأوروبي معرقلا بسبب ارتباطاتها العالمية الأخرى. وكان هناك اعتراض على سياسة بريطانيا الزراعية في ظل قانون الزراعة لعام 1947 الذي يعيق المنافسة، والذي سُن في ظروف مأزومة أملتها الحرب العالمية الثانية التي ولدت مخاوف بحصول شحة في المواد الغذائية.

    لكن حكومة المحافظين برئاسة أدوارد هيث، تمكنت من الانضمام إلى المشروع بعد أن تخلت فرنسا عن معارضتها في ظل رئاسة جورج بومبيدو. كان أدوارد هيث رجلا حكيما ولديه شعور بالانتماء إلى أوروبا، رغم كونه زعيما لحزب المحافظين، لذلك تمكن من إقناع الأوروبيين بأن بريطانيا ستكون سندا لهم.

    لكن حكومة هارولد ولسن العمالية الثانية، التي خلفت حكومة أدوارد هيث، لم تكن راضية عن شروط الانضمام للمجموعة الاقتصادية الأوروبية، بل اعتبرتها ضارة لبريطانيا، لذلك أجرت استفتاءً عام 1975 حول شروط الانضمام، كي يكون لها مبرر للانسحاب منه، لكن الشعب صوت بقوة للبقاء في أوروبا.

    وعند فوز المحافظين بقيادة رئيسة الوزراء اليمينية المتشددة، مارغريت ثاتشر، عام 1979، عادت المشكلة مع أوروبا بقوة إلى السطح، خصوصا مع تولي جاك ديلور، السياسي الاشتراكي الفرنسي البارع والمؤمن بمشروع الوحدة الأوروبية، رئاسة المفوضية الأوروبية في الفترة 1985-1995. حاولت ثاتشر إعاقة مشاريع التقارب الأوروبية، خصوصا مشروع العملة الموحدة، اليورو، رغم محاولات الأوروبيين استيعاب بريطانيا عبر تقليص مساهمتها المالية في ميزانية المفوضية واستثنائها من معاهدة شنغن. ومما شجع ثاتشر على عرقلة التقارب الأوروبي، علاقتها الوطيدة بالرئيس الأمريكي رونالد ريغان، الذي اتبع سياسة اقتصادية مشابهة لسياسة ثاتشر.

    وفي مقابل تحالف ريغان-ثاتشر المبني على رأسمالية "الليبرالية الجديدة"، تبنى جاك ديلور تفسيرا مختلفا للرأسمالية، أصبح أساسا للهيكلية الاجتماعية الأوروبية. عمل ديلور على ترسيخ ثلاثة مبادئ مثَّلت الأسس التي ارتكز عليها الاتحاد الأوروبي. هذه المبادئ هي إعادة توزيع الثروة وحماية الضعفاء، وتعظيم الانتاج الصناعي، واعتماد اقتصاد السوق. لقد ركز ديلور على البعد الاجتماعي للاتحاد الأوروبي الذي أصبح عنصرا أساسيا في "الاستثنائية" التي ميزت الاتحاد الأوروبي عن التكتلات العالمية الأخرى. ويتعارض هذا مع النزعة الرأسمالية المتشددة التي مثلها ريغان وثاتشر سابقا، ويمثلها دونالد ترامب وبوريس جونسن حاليا.  

    وبالعودة إلى الاتفاقية الأخيرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، المدونة في وثيقة بـ1246 صفحة، وقبل استعراض بنودها، يجب القول إن بريطانيا، كدولة متوسطة القوة والثروة، لا يمكن أن تكون لها اليد العليا في المفاوضات مع تكتل يضم 27 دولة أوروبية، بينها دول صناعية كبرى كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا.

    نقاط الخلاف بين الطرفين كثيرة، ولكن يمكن تلخيصها كالتالي:
    الأولى كانت حول سلطة محكمة العدل الأوروبية التي أراد الاتحاد الأوروبي أن أن تكون المرجعية المباشرة للاتفاقية، إن أرادت بريطانيا نفاذا حرا إلى السوق الأوروبية. وكان هذا من أهم المطالب البريطانية، لأنه يتعلق بالسيادة. وافق الاتحاد على ألا تكون المحكمة مرجعا مباشرا في عموم بريطانيا، لكنها ستبقى مرجعا في أيرلندا الشمالية، التي ستبقى جزءا من السوق الأوروبية والاتحاد الجمركي. أي أن سلطة المحكمة الأوروبية ستسود في أحد مكونات المملكة المتحدة الأربعة.

    الثانية كانت حول كيفية حل الخلافات التجارية بين الطرفين، وهل يمكن فرض تعرفات أو ضرائب شاملة على البضائع في حال حصول مخالفات، أم يجب قصر التعرفات على القطاع موضع الخلاف؟ كانت بريطانيا ترغب بألا تتعدى التعرفات القطاع موضع الخلاف، لكن الاتفاقية أعطت الطرفين حق فرض عقوبات تتجاوز القطاع موضع الخلاف، ولكن يجب إنشاء آلية محددة لحل الخلافات. المفاوضات في هذا المجال سوف تستمر.

    الثالثة كانت حول المنافسة العادلة بين البضائع والسلع البريطانية ومثيلاتها الأوروبية. الاتحاد الأوروبي لديه معايير تضمن حقوق العمال وتتقيد بضوابط بيئية واجتماعية معينة، وتشترط دراسة تأثير القوانين والمساعدات على السوق والمجتمع قبل تطبيقها. لذلك من الصعب أن يوافق على استقبال بضائع أُنتجت بطرق مخالفة للمعايير المعمول بها في الاتحاد. وافقت بريطانيا على الالتزام بالمبادئ العامة المتبعة في الاتحاد، وعلى تأسيس وكالة للنظر في التسهيلات والمساعدات الحكومية المقدمة للصناعات البريطانية لتجنب ارتكاب مخالفة الإغراق. ويمكنها أيضا أن تطوِّر نظاما لاتخاذ قرارات تصحيحية عندما يتوفر الدليل على وقوع منافسات غير منصفة.      

    الرابعة كانت حول صيد الأسماك في المياه البريطانية والأوروبية، وقد استخدمت بريطانيا هذه النقطة كوسيلة ضغط في المفاوضات، باعتبارها جزيرة ولها سواحل طويلة تمتد مئتي ميل بحري، حتى تصل إلى شمالي المحيط الأطلسي. كانت بريطانيا تطالب بتقليص الصيد الأوروبي في مياهها بنسبة 80% ابتداءً، ليتقلص نهائيا لاحقا، لكنها حصلت على تقليص بنسبة 25%، يخضع للمراجعة بعد خمس سنوات ونصف. 

    الخامسة كانت حول حق سفر البريطانيين إلى الاتحاد دون سمة دخول، وهل يمكنهم استخدام بطاقات التأمين الصحي الأوروبية. سمح الاتحاد بدخول البريطانيين وبقائهم تسعين يوما دون سمة، لكنهم سيحتاجون إلى سمة دخول إن أرادوا البقاء لأكثر من 90 يوما. كما يمكنهم أن يستخدموا بطاقات التأمين الصحي الأوروبية حتى انتهاء صلاحياتها.

    السادسة كانت حول الخدمات المالية البريطانية، إذ لم تسمح الاتفاقية للشركات البريطانية بالعمل في الاتحاد، لذلك خلت الاتفاقية من أي ذكر لهذه المسألة المهمة جدا للاقتصاد البريطاني. والسابعة تتعلق بالبيانات المعلوماتية البريطانية، إذ وافق الاتحاد على استمرار تبادل البيانات لمدة أربعة أشهر قابلة للتمديد لشهرين، شريطة ألا يكون هناك تغيير في القوانين البريطانية، ما يعني أن بريطانيا لم تحصل على أي تنازل من الاتحاد في هذه المسألة.

    الثامنة تتعلق بتبادل السلع والبضائع والاعتراف المتبادل لكلا الطرفين بمقاييس الطرف الآخر. بقيت الخلافات قائمة في هذا المجال، وسوف تشهد الحدود الكثير من التأخير وملء الاستمارات. التاسعة كانت حول الاعتراف المتبادل بتقييمات كل منهما حول انسجام السلع مع المعايير السائدة في الاتحاد، وهذه إحدى عوائق التجارة بين الطرفين التي لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق حولها.

    العاشرة تتعلق بالاعتراف بتقييم الطرف الآخر حول الأغذية ذات المنشأ الحيواني، ولم يتوصل الطرفان إلى اتفاق حولها. لكن هناك محاولات للتأسيس لبعض الإجراءات التي تقلص العوائق التجارية. الحادية عشرة تتعلق بالاعتراف بالمؤهلات المهنية والأكاديمية للأفراد والشركات البريطانية، وهي الأخرى لم تُحَل، وسوف يضطر الراغبون في العمل في الطرف الآخر إلى إعادة تأهيل أنفسهم.

    الثانية عشرة حول التعاون الأمني وقد تعثر الاتفاق حولها، ما يعني أن التعاون الأمني لن يحصل بشكل انسيابي كالسابق. ستفقد بريطانيا حق الحصول على المعلومات الأمنية، لكنها ستبقى تحصل على بعض المعلومات، خصوصا المتعلقة ببصمات الأصابع لعموم قارة أوروبا. المعلومات المتعلقة بالطيران لن تكون متوفرة بسهولة. توجد اتفاقية حول تسليم المجرمين ومشاركة بريطانيا في شرطة اليوروبول، ويمكن بريطانيا حضور اللجان الأمنية العابرة للحدود، ولكن ليس التصويت فيها.

    من تداعيات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أن حكومة أسكتلندة مستاءة جدا، وقد تعهدت بالعمل على نيل الاستقلال كي تعود إلى الاتحاد الأوروبي. وقالت رئيسة الوزراء إن أسكتلندة فقدت مزايا كثيرة بسبب الانسحاب، واعتبرت ذلك مجحفا بحق الأسكتلنديين الذين صوت معظمهم للبقاء فيه. أما أيرلندا الشمالية فسوف تكون جزءا من الاتحاد الأوربي فعليا. مقاطعة جبل طارق التابعة لبريطانيا ستبقى أيضا ضمن الاتحاد الأوروبي فعليا. من الواضح أن بريطانيا خسرت كثيرا بسبب انسحابها، أما المكاسب التي حققتها فهي كثيرة حين يعدها السياسيون المحافظون، لكن محصلتها صفر على أرض الواقع. هل كان الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ورطة؟ ربما، خصوصا وأن الحكومة لا تستطيع مخالفة نتائج الاستفتاء إلا بإجراء استفتاء آخر يعكس النتيجة الأولى. وإن حصل هذا، فإن الحكومة الحالية ستضطر إلى الاستقالة، وهذا إجراء لن تقدم عليه.

    "سكاي نيوز عربية"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media