د. محمد فلحي
الهبوط السريع في أسعار النفط إلى ما يقارب نصف الأسعار السائدة،قبل أيام،وصف من قبل بعض المحللين ب(الصدمة النفطية) ولكنها في الحقيقة نوع من الحرب الاقتصادية،يشوبها دخان سياسي،بين إرادات عالمية متصادمة في عالم مضطرب!
في هذه الحرب يكاد يكون موقف العراق مثل قصة أحد الأخوين المتخاصمين اللذين قابلهما وحكم بينهما نبي الله سيدنا داوود عليه السلام،كما وردت في سورة(ص) في القرآن الكريم،حيث قال أحدهما:إن هذا أخي، يمتلك (۹۹) نعجة، وأنا لا أملك إلاّ نعجة واحدة، وهو يُصِرُّ علي أن أُعطيَهُ نعجتي ليضُمها إلى بقية نعاجه، وقد شدد عليّ في القول وأغلظ،فحكم النبي داود عليه السلام للمدعي بأن أخيه قد ظلمه، وذلك دون أن يستمع إلى الخصم المقابل، لأن الكثير من الشركاء يبغون على أصحابهم في العادة، واقتنع الطرفان بحكم داود وسلّما له وغادرا المكان، وبعدها أدرك سيدنا داود تسرعه في الحكم فأناب إلى الله وخرّ ساجداً مستغفراً الله، وتدارك الحكم بينهما!
العراق من البلدان المؤسسة والناشطة في منظمة أوبك،منذ تأسيسها عام 1959 وهو في الوقت نفسه،من أكثر الدول المصدرة للنفط تضرراً في كل أزمة أو حرب تشهدها السوق النفطية،ولن يكون حاله،كما يبدو، في هذه الأزمة الأخيرة المفتوحة على المستقبل المجهول أفضل من سابقاتها!
تعاملت بعض القيادات العربية،قبل نحو نصف قرن، مع النفط باعتباره سلاحاً سياسياً في مواجهة الهيمنة الغربية والانحياز الأميركي إلى جانب الكيان الصهيوني،وهو سلاح أثبت فعاليته وتأثيره في حرب تشرين عام 1973 وما بعدها،لكنه سلاح ذي حدين،كما تبين في تجارب أخرى،فقد انقلب إلى الضد،في وقت لاحق،واستخدمته واشنطن وحلفاؤها ضد العراق بعد غزو الكويت عام 1990،من خلال حصار شامل غير مسبوق، كما طبقت أميركا السلاح نفسه ضد ليبيا،ثم إيران،فقد انقلب السحر على الساحر،في ظل عالم تحكمه القوة الظالمة وتغيب فيه العدالة والمنطق والحق،في كثير من المواقف،ولا شك أن النفط يعد من أقذر الأسلحة،عندما يستخدمه الحكام في صراعهم،ويعاني منه الفقراء في الحصول على رغيف خبزهم!
كانت بداية انهيار الأسعار في سوق النفط قد برزت في أزمة فايروس كورونا التي ضربت الاقتصاد الصيني ودول أخرى،منذ نحو شهرين، وأدت إلى تقليل الطلب على النفط من قبل أهم الدول المستوردة،ومن ثم انخفاض الأسعار بشكل مفاجيء،وهذا يمثل الجانب الاقتصادي من الصدمة النفطية الحالية، لكن ردود الأفعال والقرارات السياسية غير الرشيدة ومواجهة هذه الأزمة من قبل الدول المعنية التي تسمى دول(أوبك +) وتضم منظمة البلدان المصدرة للنفط المعروفة وروسيا وأوكرانيا وغيرهما من خارج المنظمة،قد نقلت القضية من الإطار الاقتصادي إلى الصراع السياسي الدولي،وذلك عندما رفضت روسيا في اجتماع فيّنا الأخير مقترحاً من دول أوبك، وبخاصة من السعودية، يدعو إلى تخفيض الإنتاج بما يساوي مليون ونصف مليون برميل يومياً، لمجاراة الانخفاض في الطلب والحفاظ على مستوى الأسعار التي ظلت مستقرة حول سعر خمسين دولاراً منذ نحو ثلاثة أعوام!
روسيا قالت(لا تخفيض) في قرار سيادي من دولة عظمى لا تريد التفريط بمكانتها وقوتها،وطلبت من دول الأوبك تحمّل نتائج الأزمة لوحدها،معتبرة أن بعض دول أوبك تبيع أكثر من حصتها واحتياجاتها وحجمها السكاني،وعليها أن تدفع ثمن الكساد العالمي،فكان الرد السعودي الانتقامي الذي يمثل قمة المزاجية والتهور من خلال اللجوء إلى(سياسة الإغراق)عن طريق زيادة انتاج السعودية عبر شركة أرامكو من تسعة ونصف مليون برميل إلى ثلاثة عشر مليون برميل،أي ضخ زيادة قدرها ثلاثة ملايين ونصف المليون برميل يومياً، في سوق نفطية متخمة وراكدة ولا تحتمل هذه الزيادة غير المنطقية،التي وصفت بأنها نوع من(عض الأصابع) بين موسكو والرياض، ومن ثم ليّ الأذرع بين محور موسكو ومحور واشنطن،ولكن نتائج العضّ وآلامه سوف تنعكس على حياة الملايين في دول أخرى،وقد يكون العراق في مقدمتها،نتيجة أوضاعه السياسية والاقتصادية الصعبة!
يمكن تخيل جانب من الحوار المتشنج الذي جرى في مؤتمر الدول النفطية الأخير،فقد طلب الوزير السعودي تخفيض الإنتاج من قبل الجميع بنسب متساوية،حيث تخفض دول أوبك مليون برميل وتخفض روسيا وحليفاتها نصف مليون برميل..يضحك الوزير الروسي ثم يجيب:أنتم تصدرون تسعة ملايين ونصف المليون برميل يومياً،وسوف تخفضون مائة ألف برميل فقط،فلا تتأثرون أبداً،وكيف تريدني أن أتحمل نتائج الأزمة مثلكم وأنتم أصلاً سببها، حيث تصدرون كميات هائلة وتكدسون الأموال الفائضة في خزائنكم وهناك شعوب تعاني من الجوع في دول نفطية عديدة!
ينتفض الوزير العراقي،ويضيف إلى كلام زميله الروسي قائلاً: نعم نحن من هذه البلدان الغنية بخزينها النفطي، لكنها فقيرة لم تستفد من هذه الثروة، بسبب الحروب والحصار والإرهاب ،فعدد سكان العراق يقارب سكان السعودية، لكننا نصدر ثلث ما تصدره السعودية أي ثلاثة ملايين برميل يومياً فقط، وهناك عجز في ميزانية العام الحالي يزيد عن أربعين مليار دولار،ثم يطالبني شقيقي السعودي بتخفيض الإنتاج..فأين العدالة؟!
يبتسم الوزير السعودي ويهمس في أذن الوزير العراقي:ثروتكم ليست قليلة يا أخي وهي تكفيكم وتزيد لو أحسنتم توزيعها وإدارتها، وما فائدة زيادة الإنتاج النفطي لديكم أو زيادة الأسعار إذا كانت الأموال تذهب إلى جيوب الفاسدين؟!..العراق هو صاحب النعجة الوحيدة،لكنه قد لا يكون على حق دائماً،وعليه أن يجيد حلب نعجته أولاً!
رفعت الجلسة وتفرق الشركاء، واتفقوا على قسمة ضيزى!