ارتخاءة الشعر-11
    الجمعة 8 مايو / أيار 2020 - 04:37
    خالد جواد شبيل
    أول الكلام:

    الحب المادي (والجنس تحديداً) قديم وارتبط عند الإنسان منذ القدم بالسحر والمعتقد الديني، وأبرز ما وجدتُه في المعابد الهندوسية حيث الممارسات الجنسية الجماعية والثنائية تجسد في نقوش الجدران وتجسم في منحوتات، مما يكسب المعابد قدسية وفق غائية الحياة وفق الهندوسية وهي: الكاما (الشهوة الإباحية)، والدارما ( الحياة الأخلاقية) ووالأرثا (المكاسب المادية وتحقيقها) والموكشا (التحرر من دورة الحياة- الموت)، تجد ذلك في الممارسات مجسدة في المعابد الأشهر خاجوراهو ومعبد الشمس وكذلك ما شاهدته في كهوف أجانتا وإلورا، وهو ماسبق أن كتبت عنه في سلسلة "في مضارب بوذا"....

     وفي الجزيرة العربية كان الجنس يمارس جماعياً في أماكن العبادة وفي الحرم المكي، وللأسف لم تصلنا مدونات أو مجسمات من العصر الجاهلي، ففي مرحلة التدوين تم غربلة كل ماله علاقة بطقوس الدين الجنسية بما يتلاءم مع مبادىء الدين الجديد..ونجد أن العرب على خلاف الأمم الأخرى ينزِّهون الجزيرة العربية في العصر الجاهلي من المثلية الجنسية لذا لم نحصل على شعرهم الى أن حان العصر العباسي!! لأن الإسلام تشدد في تحريم الممارسات الجنسية خارج مؤسسة الزواج واعتبرها من الزنا (أو الزنى): " ولا تقربوا الزِّنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلا" الإسراء 32.

    ***

    والحج على ثلاثة أنواع: حج الإفراد، وحج القرآن، وحج التمتع، والأخير هو الذي يعنينا، وهو أن يأتي الحاج محرما فيؤدي الأشواط السبعة من الطواف، يعقبها بركعتي صلاة الطواف، ثم السعي بين الصفا والمروة ويقصّر، فيحل إحرامه من كل شيء وهنا يعمل ماشاء من التطيب و  التمتع الجنسي مع حليلته وهذه هي مرحلة التمتع!!

    وقد مارس الرسول هذا التمتع وبقي سائداً طيلة خلافة أبي بكر حتى حرمّه الخليفة الثاني بقول ابن عباس ، قال سمعت عمر بن الخطاب يقول" والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله وقد فعلها رسول الله ". (صحيح النَّسائي تحقيق الألباني ، ج2 ص 268 ، طبعة الرياض).

    إذن الحرم المكي كان موئلا للحب المادي والعذري الذي شاع في العصر الأموي، حتى أن زعيم الغزل الحضري الفتى القريشي الوسيم المُعطَّر عمر بن أبي ربيعة (23هج – 93هج) صيّاد النساء الحِسان الحاجّات  في موسم الحج قال:

    ليت ذا الدهرَ كان حتماُ علينا – كلّ يومين حجةً واعتمارا

    جملة القول يتمنى أن يدوم الحج بما يسمح له بالحج والاعتمار كل يومين! لمَ لا وقد اعتاد الحج ليتحرش بالظباء العربيات الارستقراطيات، حيث يأتي بكامل الحلل والوشى يضوع عطراً على ظهور النِجاب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج! فيلتقي الجميلات فيتعرفن عليه وهل يخفى القمر على الصغرى والوسطى والكبرى من الأخوات؟!!

    قف بالطواف ترَ الغزال المُحرما – حجّ الحجيج وعاد يقصد زمزما

    عند الطواف رأيتُها متلثمه  –  للركن والحجر المعظم تلثما

    أقسمت بالبيت العتيق لتخبري – مالاسم؟ قالت: من سلالة آدما

    الأسم سلمى والمنازل مكة – والدار ما بين الحجون وغيلما

    وسبق أن كتبت عن علاقة ابن عباس (حبر الأمة) بعمر بن أبي ربيعة الذي دخل علية المسجد وكان يوعظ بالناس فاستنشده من رقيق شعره وأخذ الفتى القريشي يلقي الشعر والشيخ القريشي يتمايل طرباً!!

    أمن آل نعمى أنت غاد فمُبكر – غداة غد أم رائحٌ فمُهجّرُ

    مما أغضب يونس بن الأزرق ( زعيم الخوارج الأزارقة) الذي كان يستفتي ابن عباس: الله يابن عباس إنا نضرب إليك بأكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام وأنت تترنم طربا بغزل ابن أبي ربيعة؟!!..الخ..

    ***

    شغلتني هذه الأبيات، فقد ذهب بها الرواة أشتاتاً، وانحصر الأمر بين كُثيِّر (40-105هج)، وبين ابن الطثرية (ت126هج).. وسبب التداخل والنَّحْل بين الشعراء العذريين، هو لأنهم عالجوا موضوعاً واحداً هو الحب ولواعجه وهاموا بمن يعشقون تهياماً عظيما قد أوصل بعضهم الى الجنون! ولا أرى ما يراه الأستاذ طه حسين (1889- 1973) في حديث الأربعاء وهو بسبب توارد الأسماء المشتركة للمعشوقات من قبيل ليلى أو سلمى أو لبنى أو عزّة ..الخ فيتبادر في ليلى قيس المجنون أو ابن ذريح..الخ، ويرى أن هذه الأشعار قد تكون لشعراء غير ذائعن فأخِذوا بالمشاهير وغابت أسماؤهم! بينما أرى أن عصر التديون هو قريب جداً من العصر الأموي وذكر هؤلاء كان شائعا وذائعاً، وأن النقاد القدماء كانوا على دراية بالخصاص الشعرية لكل شاعر..

    فالأبيات فيها نفَسُ كُثير في سلاستها وجمال لفظها وحسن تصويرها، فهو لايُجارى في هذه الخصائص الثلاثة، وأما ابن قتيبة (213 – 276هج) في الشعر والشعراء فرّكز على جمال اللفظ وقال بضعف المعنى وهي ليست المرّة الأولى فقد قال في بيتي جرير (33-110هج):

    إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ – قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا

    يجرحن ذا اللب حتى لا حراك به - وهن أضعف خلق الله إنسانا

    حنانيك يابن قتيبة! ربما يكون قولك فيه بعض الصحة في قول جرير، جمال اللفظ والسبك البلاغي لا التصوير البلاغي، على حساب ضعف المعنى!! لكن الحال يختلف مع كثير، فالتصوير البلاغي وجمال اللفظ وحسن السبك وقوة المعنى اجتمعت وانصهرت وانسابت عسجداً ونضارا.. وقد انصفه عبد القادر الجرجاني 400(- 471) في أسرار البلاغة رغم اعتبارها لابن الطثرية:

    ولمَّا قضَينا منْ مِنًى كُلَّ حَاجَـة - ومسَّح بالأرْكان مَن هُو ماسـحُ
    وشدَّت على دُهْم المَهارَى رحالُنا - ولَم ينظرالغَادي الَّذي هُو رائـحُ
    أخَذنا بأطْراف الأحاديـث بينَنـا - وسالت بأعناق المُطيّ الأباطـحُ

    التصوير في هذه الأبيات متحرك، فقد فرغوا من الطقوس ومسحوا أيديهم بالأركان دلالة مجازية على الرحيل وشدّوا الرحال ولم يهم العاشقين من أتى ومن راح فهما منشغلان متلهفان لخلوة ولوعة على ظهور النجائب، وتقاربا وانسجما بحديث الحب وأرتخت ايديهما عن المسك بالأزِمَّة، فاطلق العنان للنوق التى مدت أعناقها وانطلقت كالسيل على الأباطح كناية على الأرض المنخفضة السهلة..

    أي تصوير وأي انسياب وأي عناق بين اللفظ والمعنى أي قافية حنون بحائها .. عندما اقرأ الأبيات يغيب عني ميزان الشعر فدخل روعي أنه بحر خفيف طائر محلق ولم يدُرْ بخَلدي إلا حين تأمت الابيات فوجدتها من بحر الطويل. غدا واضحا ومؤكداً ان الشاعر الحاذق يحلق بالبحور بفعل اللغة وموسيقاها فتجعل الميزان الثقيل خفيفاً، والشاعر غير الحاذق يجعل البحور الخفيفة  ثقيلة وفي الأمر قضية تستدعي التأمل!!

    الثالث من مايس 2020
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media