خُلُودُ الثَّورَةِ الحُسَيْنِيَّةِ
    السبت 5 سبتمبر / أيلول 2020 - 07:50
    زعيم الخيرالله
    الخُلودُ نَزْعَةٌ فِطْرِيَّةٌ في أَعماقِ الانسانِ تَحُثُّهُ على البقاءِ والتَشَبُّثِ بالحياةِ ، ومواجهةِ الفناءِ وهذهِ النَّزعةُ وجدناها في الاساطير البابِلِيَّةِ التي تَحَدَثَ عنها "جِلجامش" في ملحمتهِ حينما رأى بِأُمِّ عينيهِ موتَ صديقهِ " انكيدو" ، الذي أَرَّقَهُ كَثيراً ؛ فبدأَ يبحث عن البقاءِ وسِرِّ الخُلودِ ، وبعد رحلةٍ مُضنِيَةٍ عثر "جِلجامش" على عشبةِ الخلود ، ولكن هذه العشبة سرقتها منهُ افعى ... بعدها توصلَ "جلجامش" الى ان الخلودَ من نصيب الالهة ، وماعداهم فالموتُ قدرٌ حتميٌّ بالنسبةِ لهم .
    والمِصريونَ القُدامي الذينَ صَنّعُوا مادةَ التحنيطِ لحفظِ أجسادِ فراعنتهم من الانحلال والتفسخ ، انما كانوا يبحثون عن الخلودِ والبقاء. وقد اشارَ القُرآنُ الكريم الى بقاء جسدِ فرعون موسى " رمسيس الثاني " بقوله تعالى :
    (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).يونس: الاية: 92.
    والهندوس تحدثوا عن فكرة الخلود عن طريق القول بتناسخ الارواح ، وهذه الفكرة موجودة عند البوذيين ومعظم ديانات الشرق. وفكرة تناسخ الارواح هي دورة الموت والحياة وانتقال الروح من جسد الى اخر ، والعقاب والثواب يتم في هذا العالم عن طريق هذه الدورات المتتالية التي تنتهي بما يعرف بالنرفانا عند البوذيين ، والاتحاد ببراهما عند الهندوس. امّا الديانات السماوية فتتحدث عن يوم آخر فيه الخلود .
    القرآنُ الكريم يتحدث بأنَّ الشيطان اغوى آدمَ عليه السلام عن طريق اثارة مسألةِ الخلود في وعيه . يقول الله تعالى :
    (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ).طه: الاية: 120. ، وقوله تعالى:
    (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ). الاعراف: الاية: 20.
    ماهي طرقُ البَشَرِ الى الخُلودِ؟
    ----------------------------
    الانسان قد يرى طرقاً متعددة توصلهُ الى البقاء والخُلود ، ولكنّ القرآنَ الكريمَ لايرى هذه الطرقُ موصلة للخلود بل يراها ظُنوناً وأوهاماً ومزاعمَ . بعض هذه الطرق "المال" وقد اشارَ القُرآنُ الكريمُ الى هذا الطريقِ واعتبرهُ حسباناً لاواقعيةَ له . يقول اللهُ تعالى :
    (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ). الهُمَزَة: الاية: 3. وقد يحسب الانسان الطريق الى الخلودِ هو امتلاك البساتين والزروع والحقول ، يقول الله تعالى :
    (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ). الكهف: الاية:35.
    وقد يَظُنُّ الانسانُ أَنَّ الطريقَ الى الخُلُود بكثرةِ الأَموالِ والاولادِ :(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).سبأ: الاية: 35. وهكذا كان الحالُ مع قارون الذي ابطرتُهُ النعمةُ واغتر بماله :
    (۞ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).القصص: الاية: 76.وهكذا كان الحالُ مع فرعون الذي كان يتصور الخلودَ بملك مصرَ والانهار التي تجري من تحته ، كما يصورُ القرآنُ ذلك :(وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). الزخرف: الاية: 51.، كلهم كان يتصور الخلودَ عن طريق متاع الحياة الدنيا الزائل .
    الخلودُ الحسيني بَوابَتُهُ الموتُ
    ----------------------------
    خُلودُ عاشوراء خُلُودٌ مختلِفٌ ، وبوابتُهُ مختلفةٌ .. لم يكن خُلوداً طريقُهُ المالُ ولاالضياعُ ولاالبساتينُ والزروعُ والعقارات والقصورُ الفارهة ، وانما دخلهُ الحسينُ عليه السلام من بوابَةٍ أُخرى يحسبها الناسُ فناءً وعدماً ، ألا وهي بوابَةُ الموت ، ولكن ايُّ موتٍ هذا الذي كانَ طريقاً للخلود الحُسَيْنِيَِ ؟ ليس كُلُّ موتٍ يكونُ طريقاً الى الخُلُودِ ، فَبَعضُ الموتِ يكونُ عاراً وشناراً على صاحبِهِ ، كالذين يموتون وهم يمارسون اعمالاً غيرَمُشَرِّفَةٍ كالذين يُقتلون وهم في عصاباتِ المافيا ، وتجارة المُخَدِّراتِ . هذا الموتُ لايُشّرِّفُ صاحبه ، ولايبعثُ الفخر في نفوس عائلة المقتول في هكذا مواقف ، بل يجلب لهم العار .
    وبعض الموت يثير الشفقة كأغلبِ حوادثِ الطرق وحوادثِ السير، والذين يقتلون وهم في ريعانِ شبابهم .
    وبعضُ الموتِ يبعث على الفخر كموت الابطال في سوح المعارك .
    ويكفي مرورُ الزمنِ ، لنسيانِ هذه الحوادث .
    امّا بوابه العبور الحسينيّة الى الخلود ، فهي الموت ُ المضمخ بالدم ، والمُعَطَّرُ بأَريجِ الشهادةِ . والذي اختارهُ الامامُ الحسينُ عليه السلام بارادتهُ . الشهادةُ كما يعرفها الشيخ الشهيد مرتضى المطهري بانها : ( الموتُ الواعي على طريقِ الهدف المقدس) .
    المنطقُ الماديُّ الدنيويُّ ، لايفهمُ الشهادةَ الحُسَيْنِيّةَ ، فيصفها بالانتحار . كلُّ انواعِ الموتِ التي اشرتُ اليها ، الانتحار والموت الباعث على الشفقة ، والموت الجالب للعار ، كلها تشترك في صورة الموتِ الذي هو خروج الروح ونهاية الحياة . ولكن الفارِقَ نوعيٌّ بين صور الموت هذهِ ، المنتحر الذي انهى حياتهُ وازهق روحهُ ، هو هاربٌ من الحياة ، هاربٌ من مسؤولياتِ الحياة وتبعاتها . والذين يقتلون في عصابات المخدرات هم يبحثون عن متع الحياة ومتاعها الزائل ، والابرياء الذين يثيرون شفقتنا ، لم يخططوا لموتهم بل كانوا ضحايا في هذا الموت الذي يثير الاسى والحسرة والشفقة عليهم .
    امّا الشهادة الحسينيّة فهي اختيارٌ واعٍ للموتِ ، عن قَصْدٍ وتصميمٍ ، فهو موتٌ فاتحٌ للعقولِ والارواحِ والقلوب .
    حينما نتحدث عن الامام الحسين عليه السلام ، فهو الذي طارد الموت وامسكهُ حسب تعبير " عبدالرزاق عبدالواحد " :
    وخُضْتَ وقد ضُفِرَ الموتُ ضَفْراً
    فَما فيهِ للـرّوحِ مِن مـَخْرَمِ
    وَما دارَ حَولَـكَ بَل أنتَ دُرتَ
    على الموتِ في زَرَدٍ مُـحـكَمِ
    من الرَّفْضِ ، والكبرياءِ العظيمةِ
    حتى بَصُرتَ ، وحتى عـَمِـي
    فَمَسَّـكَ من دونِ قَصدٍ فَمـات
    وأبقاكَ نجمـاً من الأنـْجُـمِ !
    وتحدث الجواهريُّ عن الحسين عليه السلام بأَنَّهُ يُسَيِّرُ ركبَ الخُلودِ :
    وأنتَ تُسَيِّرُ رَكْبَ الخلودِ
    ما تَسْتَجِدُّ لهُ يَتْبَعِ
    ويقولُ الجواهريُّ أَيضاً:
    وياواصلأ من نشيد الخلـود ====== ختام القصيدة بالمطلــــع
    هناكَ فرقٌ بين خلودٍ ميّت وخلودٍ حيٍّ ، الاهراماتُ خالدةٌ ، والاثارٌ الخالدة التي تحكي حضاراتٍ كانت مزدهرة لم يبقَ منها الا هذه الآثار . هذا خلودٌ ولكنَّهُ خُلودٌ ميّتٌ جامدٌ لاحراكَ فيه ، ولاحرارةَ فيه ، ولكنَّ خلودَ الملحمةِ الحُسَيْنيَّةِ خلودٌ حيٌّ ، لم يُمِتْهُ الزمن ، مايزال الحدثُ ينبض بالحرارةِ والحياةِ وكَأنّهُ حدثَ الساعةَ .
    ومن عوامل الخلود شخصيات الامام الحسين وشخصيات اهل بيتهِ واصحابهِ . هذه شخصياتٌ فريدةٌ لاتتكررُ بأعيانها .ومن عوامل الخلود البشاعة المتفردة في القتل والسبي ، ومن عوامل الخلود دور الاعلام الذي خطط له الامام الحسين عليه السلام بجلبه النسوة معه . كان الامامُ السَّجادُ عليه السلامُ والسيدة زينب وبنات الرسالة ، صوت الثورةِ الناطقُ بالحق ، والهادر بحملِ لواء الثورة .
    الصدق والاخلاص لدى الامام الحسين عليه السلام من عوامل الخلود ، فهي ملحمةٌ خالصةٌ قصدَ بها وجهُ الله تعالى ، لم تشبها شائبةُ طمعِ بدنيا أَومنصبٍ أَو متاعٍ زائلٍ.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media