انتقل سعر الصرف الرسمي من 1182 إلى 1450 ديناراً للدولار. بين ليلة وضحاها فقد الدينار 22.6% من قيمته. بطبيعة الحال لا يقتصر هذا التراجع على العلاقة بين الدينار والدولار بل يشمل جميع العملات الأجنبية الأخرى. إذ تتحدد علاقة الدينار بجميع العملات وفق سعر صرف الدولار مقابل هذه العملات.
قاد هذا الإجراء إلى تذمر المواطنين الذين يعانون أساساً من أزمة اقتصادية واجتماعية وأمنية وصحية حادة. ارتفعت أسعار السلع المستوردة الأمر الذي أسهم بفاعلية في زيادة معدل التضخم. لأن الواردات تشكل نسبة مهمة من الناتج المحلي الإجمالي. كما يلاحظ العراقيون ارتفاعاً لأسعار السلع والخدمات المحلية. وكلما تصاعدت الأسعار تضرر المستهلكون خاصة أصحاب الدخول المنخفضة والثابتة. أصبح الفقر سمة أساسية من سمات المجتمع العراقي.
لكن هنالك نقطة أخرى في غاية الأهمية. تتعلق بكيفية تأثر مختلف المتعاملين مع الدولة بتخفيض قيمة الدينار.
من المعلوم أن أهم باب للنفقات العامة هو مرتبات الموظفين العاملين. انتقل حجم هذه المرتبات من 50.5 ترليون دينار في عام 2020 إلى 41.5 ترليون دينار في عام مشروع ميزانية 2021. بمعنى أن نسبة الهبوط تعادل 17.8%. لكن قيمة الدينار هبطت بنسبة 22.6%. وبالتالي فأن 41.5 ترليون دينار في عام 2021 تعادل 32.1 ترليون دينار قبل التخفيض. وعلى هذا الأساس هبطت الرواتب بنسبة 36.4%. يقود هذا الوضع إلى تراجع مستوى معيشة أكثر من ثلثي عدد السكان الذين يقتاتون على المرتبات. وتزداد معاناة جميع المواطنين من الموظفين وأصحاب الأجور في القطاع الخاص وأصحاب المهن والعاطلين عن العمل وغيرهم تحت تأثير عاملين إضافيين. أولهما الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم التي تشهد ارتفاعاً هائلا في السنة الحالية. وثانيهما استمرار التدهور السنوي لمخصصات البطاقة التموينية التي انتقلت من 3928 مليار دينار في عام 2008 إلى 648 مليار دينار في عام 2021 أي من 3069 مليون دولار إلى 446 مليون دولار. ومن المعلوم أن هبوط القوة الشرائية للمرتبات وفرض ضرائب مرتفعة وتخفيض ثم إلغاء البطاقة التموينية تمثل البنود الأساسية لبرنامج صندوق النقد الدولي المطبق في العراق. سيزداد إذن عدد الفقراء لينتقل قريباً من ثلث إلى نصف عدد السكان.
أما الجانب الثاني لنفقات الدولة فيتعلق بالمدفوعات المقررة للأجانب. ومن بينها مستحقات شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق وقدرها حوالي عشرة مليارات دولار في السنة. وهذه المستحقات على عكس المرتبات تقدر وتدفع بالدولار وليس بالدينار. وبالتالي فأن هذه الشركات تحصل على مستحقاتها وكأن سعر صرف الدينار لم يتغير مقابل العملات الأخرى.
ونفس هذا التحليل ينطبق على أقساط وفوائد الديون الخارجية البالغة 4730 مليون دولار في العام الجاري. وهي مستحقة لعدة دول ومؤسسات مالية في مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والولايات المتحدة وبريطانيا. كما تأخذ نفس هذا الحكم التعويضات المقررة للكويت وأثمان مشتريات العراق من الكهرباء والغاز الطبيعي من إيران.
لا شك أن اللامساواة بين المواطنين والأجانب تحدث في جميع الدول التي تخفض عملتها. وبالتالي فهي للوهلة الأولى لا تقتصر على العراق. ولكن يتعين التفرقة بين أمرين:
الأمر الأول التخفيض من أجل تحسين مركز الميزان التجاري. عندئذ تزداد الصادرات فيرتفع الإنتاج المحلي وتنخفض البطالة ويتصاعد النمو. وهكذا تتقلص التداعيات السلبية لارتفاع أسعار السلع المستوردة الناجم عن التخفيض. هذا لا يحدث في العراق لعدم وجود صادرات يمكنها الاستفادة من عملية التخفيض.
الأمر الثاني التخفيض لتمويل عجز الميزانية العامة. هذه هي الحكمة من تخفيض قيمة الدينار. فقد سجل العجز المالي رقماً قياساً قدره 58.2 ترليون دينار في مشروع ميزانية عام 2021. وبسبب عدم كفاية القروض في تمويله لجأت الدولة إلى الإصدارات النقدية فانخفض سعر تعادل الدينار. عندئذ يهبط بالضرورة مستوى معيشة المواطنين خاصة أصحاب الدخول الضعيفة وأصحاب المرتبات.
هنالك لا شك آلية لدى القطاع الحكومي تتمثل في زيادة المرتبات عندما ترتفع أسعار استهلاك السلع والخدمات (مخصصات غلاء المعيشة). وحتى لا يهبط مستوى المعيشة ينبغي أن يرتفع الراتب بأكمله بنسبة لا تقل عن نسبة تخفيض قيمة الدينار. وهذا لن يحدث لسبب واحد وبسيط وهو أن أية زيادة في المرتبات تقود إلى ارتفاع النفقات العامة فيزداد العجز المالي. هنالك إذن تناقض واضح بين زيادة المرتبات وتخفيض قيمة الدينار. في حين لو كان الهدف دعم الميزان التجاري لما ترددت السلطات العامة في زيادة هذه المخصصات.
نستنتج مما تقدم بأن تخفيض سعر صرف الدينار يفضي بالضرورة إلى تراجع مستوى معيشة المواطنين دون أن يؤثر على مستحقات الأجانب.