عن أوهام وحقائق الحوار الوطني في العراق
    الجمعة 29 يناير / كانون الثاني 2021 - 04:26
    د. عقيل عباس
    منذ سقوط نظام صدام حسين، برزت في عالم السياسة في العراق مصطلحات جديدة كثيرة، كالعملية السياسية والتداول السلمي للسلطة، والمصالحة الوطنية والتوافق والمحاصصة.

    "الحوار الوطني" كان أحد هذه المصطلحات التي شاع استخدامها كثيراً، غالباً في سياقات احتفائية وإيجابية، من دون أن ينتج عن هذا الحوار الوطني نتائج إيجابية ملموسة، كما هو حال معظم المصطلحات الأخرى التي قاد تطبيقها في السياق العراقي إلى المزيد من المشكلات والتعقيدات، وصولاً إلى المعضلة الحالية التي يعيشها البلد.

    "الحوار الوطني" مصطلح يُطلق في سياقات مختلفة ودول كثيرة ويرتبط عادةً بسعي النخبة، عبر الدولة، إلى فتح نقاش أوسع بخصوص قضايا خلافية هامة من أجل الوصول إلى إجماع بشأنها أو في حالة تعذر تحقيق مثل هذا الإجماع المتمنى، تقريب وجهات النظر بخصوصها وصناعة فهم أفضل لهذه القضايا من خلال إزالة سوء الفهم المرتبط بها وبمواقف الأطراف المختلفة منها.

    الهدف من الحوارات الوطنية هو مساعدة الدولة على صياغة سياسات منطقية ومعقولة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الفئات السكانية المختلفة التي تتأثر بهذه السياسات، أي أن "الحوار الوطني" هو إحدى الأدوات المهمة في صناعة السياسات التي تلجأ إليها الدولة في حالات وجود خلافات كثيرة ووجهات نظر متباعدة بخصوص سياسة ما.

    هنا بالضبط تكمن الخاصية الأهم في أي "حوار وطني،" أي إشراك الجمهور في صناعة السياسات، فالسياسات بشكل عام تقع ضمن تخصص النخب الرسمية التي تدير الدولة، سواء كانت هذه نخباً حزبية سياسية أو نخباً متخصصة فنياً في حقول المعرفة التي تتعلق بها السياسات، وفي آخر المطاف، حتى بعد الانتهاء من "الحوار الوطني،" تقوم هذه النخب بتبني السياسات واتخاذ القرارات المتعلقة بتنفيذها.

    من خلال "الحوار الوطني" تُتاح للجمهور غير النخبوي المشاركة في صياغة السياسة المعنية، وهذا يمنح السياسة النهائية التي تتبناها الدولة واقعية اجتماعية وشرعية شعبية. على هذا النحو، يسهم الحوار الوطني في امتصاص سخط شعبي شائع، يمكن أن يتحول إلى توجهات شعبوية مضرة أو احتجاجات شعبية، في حالة تجاهل النخب الصانعة للقرار صوت المجتمع أو قطاعات منه.

    بخلاف نقاشات الرأي العام المفتوحة والعائمة أحياناً، تمتاز نقاشات "الحوار الوطني" بوجود آلية ومخرجات محددة لها، إذ هي تبدأ بقرار حكومي أولاً ويدعى إليها أناس معينون، من خارج النخب الحكومية والسياسية، يمثلون الشرائح السكانية المتأثرة بالسياسة التي يجري بشأنها الحوار وتُعد محاضر بالمواضيع التي تُثار في جلسات النقاش، فضلاً عن التوصيات والمخرجات التي خرجت بها هذه الجلسات وتُرفع لأصحاب القرار. يحدث كل هذا في إطار زمني محدد يتراوح في العادة بين بضعة أشهر، ليصل في أحيان قليلة إلى بضعة أعوام حسب تعقيد وحساسية القضايا التي يتناولها الحوار.

    تتناول الحوارات الوطنية قضايا كثيرة ومتنوعة ترتبط بالصالح العام، بمعنى أنها ليست محصورة بنوع محدد من القضايا. ففي الأنظمة الديموقراطية المستقرة عادة ما يُقترح "الحوار الوطني" أو الحوار المحلي (ليس على مستوى كامل البلاد وإنما في جزء منها) في سياق قضايا تتصل على نحو مباشر بحياة الناس اليومية كالتعليم والصحة والأمن والهجرة. في الديموقراطيات الناشئة أو البلدان الخارجة من تجارب قمعية طويلة، يعتبر "الحوار الوطني" أداة مهمة لتفكيك التركة المؤلمة للماضي وتجاوزها، ولهذا كان بروزه في الثمانينات فصعوداً في سياق تجارب دول في أميركا اللاتينية التي مرت بأنظمة حكم عسكرية دكتاتورية وأوروبا الشرقية التي سقطت فيها الأنظمة الشيوعية الشمولية، وإفريقيا التي عاشت بعض دولها خليطاً من الاثنين فضلاً عن تجارب تحرر وطني من الاستعمار الغربي ومن أنظمة تمييز عنصري متفاوتة في القسوة. في بعض هذه البلدان، لم يكن "الحوار الوطني" آلية مستقلة قائمة بذاتها، بل جرى تضمينه في إطار إجراءات حكومية وقضائية أوسع تتعلق بكشف الحقيقة ومحاكمة مرتكبي الجرائم وإنصاف الضحايا كما في تجربة جنوب إفريقيا المهمة عبر "لجنة الحقيقة والمصالحة" في منتصف التسعينات. وسواء كان الحوار الوطني منفصلاً مؤسساتياً او مدمجاً بإجراءات أو آليات مؤسسات أخرى، فإن أهميته لا تتراجع في كلا الحالين، إذا أجري على نحو جدي.

    تكمن هذه الأهمية في دوره في كشف الحقائق وتفكيك المظالم وصناعة سياسات حكيمة ومنصفة بعيداً عن روح الانتقام والاستئثار والغلبة.
    في العراق بدأ الاهتمام المؤسساتي بالحوار الوطني في منتصف عام 2006 مع تولي نوري المالكي رئاسة الحكومة للمرة الأولى، إذ قدمت حكومته مبادرة لتشكيل "الهيئة الوطنية لمشروع المصالحة والحوار الوطني.

    "تضمنت هذه المبادرة جانباً مهماً يميز الحوارات الوطنية الجادة ويتعلق بإشراك ممثلين نخبويين وغير نخبويين عن الفئات الاجتماعية التي تتعلق سياسات المصالحة الوطنية بها وتؤثر في حياتها. فضلاً عن هذه المبادرة، كانت هناك آليات مؤسساتية أخرى، بقيت نخبوية في طبيعة عملها وإن احتوت على عناصر ثانوية مرتبطة بالحوار الوطني، مثل هيئة اجتثاث البعث الحكومية ولجنة المصالحة الوطنية والمسائلة البرلمانية. برغم بعض النجاحات التي حققتها هذه المؤسسات وغيرها التي اشتغلت على تفكيك مظالم الماضي والابتعاد عن العقاب الجماعي، كما في إعادة الكثير من الأملاك المصادرة من الضحايا وتعويض آخرين ومحاكمة جناة، ودفع رواتب تقاعدية لمنتسبي الأجهزة الأمنية المنحلة والعفو عن سجناء، فإن عملها في الغالب كان فاشلاً لأسباب كثيرة ومتداخلة لا ترتبط كلها بالضرورة بهذه المؤسسات (التي أعيدت صياغتها وتغيرت أسماؤها على مدى السنوات)، بل بالثقافة السياسية لصانعي القرار في أعلى الهرم الحكومي والسياسي. كانت هذه الثقافة السياسية ثأرية بطابعها وتتسلح بالغلبة المادية ضد خصم آخر مفترض لأنها قامت على الإيمان بالمظلومية المكوناتية (الشيعية والكردية بالدرجة الأولى)، والإجرام المكوناتي (السنة)، أي تحديد الجناة على أساس المشاركة والاستفادة المكوناتية المفترضة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بدلاً من تحديد المظلومية والإجرام على أساس فردي، كما تفعل الحوارات والمصالحات الوطنية العاقلة والمنصفة في التجارب الكثيرة الناجحة بهذا الخصوص.

    أسهمت هذه الثقافة السياسية في تعميق الانقسامات المجتمعية الناشئة وإدخال البلد في حوار الدم عبر الركون إلى السياسات المتشنجة القائمة على ردود الأفعال التي استفادت منها المجاميع المسلحة والمتطرفة في التجنيد والتجييش في وقت كانت فيه الدولة، لأسباب تتعلق بالفساد وسوء الإدارة وخطأ السياسات، عاجزة ً عن حماية مواطنيها من التوحش الإرهابي المتصاعد.

    جاءت نقطة التحول الصعبة والبطيئة والمكلفة في هزيمة التهديد الإرهابي، على شكل لحظة مفاجئة، ومشتركة شعبية-حكومية، عند سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم "داعش" وانهيار معظم الجيش العراقي في صيف ٢٠١٤. كانت لحظة صادمة دفعت صناع السياسات الطائفية ومؤيديهم إلى اكتشاف أن العراق سيتفكك على أيديهم إذا أصروا على ذات السياسات الإشكالية بنفس الوجوه التي ارتبطت بها هذه السياسات.

    رافق هذا التغير النخبوي المهم، خصوصاً إزاحة حكومة المالكي وتشكيل حكومة حيدر العبادي التي ألغت الكثير من السياسات التي قادت إلى كارثة الموصل، تغيرٌ شعبي لا يقل أهمية، خصوصاً في المزاج العام للجمهور الشيعي الذي اتسق عموماً مع السلبية المريحة، لكن المضللة، الكامنة في فكرة المظلومية، إذ شارك هذا الجمهور بفعالية عالية وتضحيات كبيرة في عمليات التحرير التي طردت تنظيم داعش من ثلث الأرض العراقية التي احتلها.

    هذه الروح الإيجابية الجديدة انتقلت بسرعة لافتة وصحيحة، بعد الانتهاء من عمليات التحرير وهزيمة تنظيم داعش، إلى محاسبة السلطة وأحزابها على أخطائها الفادحة في إدارة ملفات الاقتصاد والخدمات وسوء الإدارة ومكافحة الفساد في البلد. من هنا كان الفشل الانتخابي في انتخابات 2018، للعبادي، المسؤول الأول عن تحقيق النصر وإنقاذ البلد من حافة الانهيار الاقتصادي بين عامي 2014 و2018، دليلاً مبكراً على وعي سياسي نقدي وجديد لدى الجمهور الذي لم يعد قادراً على التصويت لقوائم انتخابية معبأة بشخصيات طائفية وفاسدة وفاشلة كما في القائمة الانتخابية الضعيفة التي شكلها العبادي على عجل. هذا فضلاً عن المقاطعة الواسعة لانتخابات 2018 التي جاءت كإعلان احتجاج شعبي ضد النخب الحزبية التقليدية التي أرادت الاستمرار في تسيد مشهد السياسة والقرار والنفوذ في عراق ما بعد التحرير.

    لكن كان إعلان الرفض الأكبر ضد هذه النخب التقليدية عبر احتجاجات تشرين 2019. فقد مثلت المخاضات الصعبة للاحتجاجات على مدى سبعة أشهر، بين تشرين الأول 2019 ونيسان 2020، بالدماء والدموع المسفوكة فيها بغزارة، شكلاً مهماً من حوار وطني عراقي أجراه المجتمع في شوارع البلد ومدنه المشاركة في الاحتجاجات والمتعاطفة معها، بعد أن عجزت النخب الحكومية والسياسية على مدى ١٧ عاماً عن إجراء مثل هذا الحوار في قاعات الاجتماعات، كما هو شأن كل الحوارات الوطنية المعتادة. نتيجة المواجهة التشرينية بين رصاص الحكومة وأجساد المحتجين كانت واضحة وخلاصتها هي أن المشكلة العراقية الأولى والأهم ليست صراعات مكوناتية في المجتمع، بل صراعاً واحداً وأساسياً بين جمهور عراقي عام وواسع يحظى بتعاطف كل المجتمع تقريباً، وطبقة سياسية حزبية هيمنت على الموارد والقرار، أغلبيتها الساحقة من دون أي قاعدة شعبية حقيقية. سيحدد حسم نتيجة هذا الصراع شكل العراق المقبل سلباً أو إيجاباً.

    حمل الأسبوع الماضي دليلاً جديداً على التضامن الاجتماعي العراقي الذي برز من "مخرجات" حوار تشرين الوطني من خلال رد الفعل الشعبي الواسع ضد تفجيرات ساحة الطيران. فلأول مرة منذ عام 2003، ظهر أصحاب الدعاوى الطائفية والمكوناتية أقلية صغيرة، جوبه صوتها العالي، بالرفض والسخرية الشعبية، ليُفهم الضحايا كما الجناة على أنهم أفراد وليسوا ممثلي مكونات أو طوائف.

    "سكاي نيوز عربية"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media