مدرسة جنيف والعولميون: مساهمة سويسرا في دعم النظام النيوليبرالي العالمي
    الأحد 21 فبراير / شباط 2021 - 19:53
    فرانكلين فردريك/ترجمة: عادل حبه
    أثارت الثورة الروسية في عام 1917 ذعر الطبقات الوسطى العليا في أوروبا، التي فقدت مصداقيتها وضعفها بالفعل جراء المأساة الهائلة للحرب العالمية الأولى، نتيجة جشعها وعدم مسؤوليتها وعدم كفاءتها. وأدى الإنهيار الإقتصادي في عام 1929، الذي ألحق الخراب الإقتصادي تقريباً بمعظم البلدان الرأسمالية الصناعية، ولكنه لم يؤثر كثيراً على الاتحاد السوفيتي الفتي فحسب، بل إلى تعزيز البديل الذي طرحته الثورة الروسية. واجهت هذه "البرجوازية" بعد ذلك مهمتين كبيرتين: إعادة بناء النظام الرأسمالي العالمي والاستجابة للتحدي الذي يمثله البديل الماركسي والثورة الروسية.
    وسعت مجموعة من المفكرين المعادين للشيوعية، والمعادين لليسار بشكل عام ، وحتى للرأسمالية الجديدة في الولايات المتحدة، إلى تطوير وفرض إعادة إعمار أكثر استبداداً ومناهضة للديمقراطية: النيوليبرالية. وكما ورد في مقال سابق، كانت سويسرا أول دولة رحبت بهؤلاء المثقفين ومولتهم، ولعبت دوراً رئيسياً في تشكيل النظام النيوليبرالي. وقد أضفى الباحث كوين سلوبوديان، مؤلف كتاب "العولميون" ، اسما ًعلى مساهمة سويسرا في النيوليبرالية:" مدرسة جنيف".
    تضم مدرسة جنيف مفكرين شغلوا مناصب أكاديمية في جنيف، ومن بينهم ويلهلم روبك، ولودفيج فون ميزس، ومايكل هيلبرين؛ أولئك الذين تابعوا أو قدموا الأبحاث الرئيسية حول هذه المدرسة، إضافة إلى فريدريش هايك وليونيل روبينز وجوتفريد هابرلر؛ وأولئك الذين عملوا في أمانة الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات)، مثل جان توملير وفريدر روسلر. وقام الليبراليون الجدد في مدرسة جنيف بنقل الفكرة الليبرالية النظامية عن "الدستور الاقتصادي"، أو مجمل القواعد التي تتحكم في الحياة الاقتصادية إلى نطاق يتجاوز الأمة ".
    لا يزال يؤكد هذا المؤلف قائلاً:" أصبحت جنيف فيما بعد مهد منظمة التجارة العالمية، العاصمة الروحية لمجموعة المفكرين الذين سعوا لحل لغز النظام ما بعد إنهيار الأنظمة الإمبراطورية بعد الحرب العالمية الأولى" ، أي الفترة التي أعقبت نهاية الإمبراطورية النمساوية المجرية، والتي تضمنت بوضوح التحدي الذي يمثلته الثورة الروسية للنظام الراسمالي. ويضيف سلوبوديان:
    "ما سعى إليه الليبراليون الجدد في مدرسة جنيف ليس إلى حماية جزئية، بل حماية كاملة لحقوق رأس المال الخاص، ومنح القدرة للهيئات القضائية فوق الوطنية مثل محكمة العدل الأوروبية ومنظمة التجارة العالمية على تجاوز التشريعات الوطنية التي قد تعطل الحقوق العالمية لرأس المال"، وباختصار، أنه دستور اقتصادي للعالم.
    بالنسبة لمدرسة جنيف، إعتبرت على الدوام، حسب سلوبوديان:"إن الالتزام بالسيادة الوطنية والحكم الذاتي يعد أمراً خطيراً إذا تم أخذهما على محمل الجد. وهكذا اعتقد أنصار مدرسة جنيف أنه بعد إنهيار المنظومة الإمبراطورية، يجب أن تظل الدول جزءاً لا يتجزأ من نظام مؤسسي دولي يحمي رأس المال ويحمي حقه في التحرك بحرية في جميع أرجاء العالم. لقد كانت الخطيئة الأساسية في القرن العشرين هي رفع وتطبيق شعار الاستقلال الوطني غير المقيد، وكان النظام العالمي النيوليبرالي يتطلب استقلالية له قابلة للتنفيذ، أو "نفس القوانين"، كما أطلق عليها هايك لاحقاً، ضد وهم الاستقلالية، أو "القوانين الخاصة".
    وبعبارة أخرى، فبالنسبة إلى الليبراليين الجدد في مدرسة جنيف ، يجب أن تتداخل القوانين التي تدافع عن "حقوق" رأس المال مع القوانين الوطنية المتعلقة بحقوق العمال أو حماية البيئة، على سبيل المثال.
    أصبح العديد من المشاركين في مدرسة جنيف من بين مؤسسي جمعية Mont Pélerin في سويسرا، وهي منظمة لعبت دوراً رئيسياً في البناء الفكري للنيوليبرالية والنشر لمقترحاتها في سائر أنحاء العالم. وعملت جمعية مونت بيليرين كمصدر إلهام ونموذج لمنظمات أخرى مهمة تعود لليمين الدولي مثل شبكة أطلس والمجلس الأطلسي.
    وانحازت النخب السويسرية في وقت مبكر جداً إلى جانب رأس المال، في مواجهة التحدي الذي تمثله الثورة الروسية، واحتضنت حتى أكثر التيارات المتطرفة استبداداً في الرأسمالية التي تمثلها النيوليبرالية، كل ذلك لمواجهة "الخطر" الأكثر تهديداً من جانب اليسار، الذي يشكل تهديداً أشد خطراً، من وجهة نظر رأس المال مقارنة بأي تهديد استبدادي من جانب اليمين. 
    تقدم كتابات هاري جمور، الكاتب والشيوعي السويسري، شهادة مهمة عن الحملة الصليبية للبرجوازية السويسرية ضد الشيوعية واليسار بشكل عام. ولد هاري جمور في برن عام 1908، وشهد صعود الفاشية في أوروبا ورد فعل النيوليبراليين في سويسرا، وكلاهما رد فعل على التحدي الذي تمثله الحركة العمالية والثورة الروسية. وعلى عكس العديد من السياسيين المعاصرين، اعتنق جمور اليسار القيم الإنسانية. ففي نص نُشر في عام 1965 تحت عنوان "حرب هتلر وسويسرا"، كتب جمور: "بعد اندلاع الحرب، سارعت الحكومة في برن تحت ضغط ألماني، لكنها استفادت من هذه الفرصة بكل سهولة، إلى حظر وإخضاع للمراقبة جميع الأحزاب والجمعيات والصحف وموزعي الكتب المعادية للفاشية باستمرار، وما إلى ذلك".
    انعطاف سويسرا الخطير إلى أقصى اليمين
    وفي مقال آخر نُشر في ذلك الوقت في سويسرا في عام 1975، كتب جمور:
    "تعرض اليسار السويسري لضغط خاص خلال الحرب. فبعد اندلاع الحرب، قام المجلس الفيدرالي السويسري، بدفع من حملة مناهضة الشيوعية و الخنوع للرايخ الثالث، بغلق صحيفة "الحرية" (Freiheit)، لسان حال الحزب الشيوعي السويسري، والصحيفتان اليوميتان للاشتراكيين اليساريين في فو وجنيف، اللتين انفصلتا عن الاشتراكية الديموقراطية. وبعد استسلام الفرنسيين، تم حظر الحزب الشيوعي السويسري والأحزاب الاشتراكية اليسارية السويسرية الناطقة بالفرنسية ومعارضة الحزب الاشتراكي السويسري للناطقين باللغة الألمانية (فصيل يعمل ضد المسار اليميني في قيادة الحزب) وجمعية  الإتحاد السوفياتي –سويسرا. وتمت مصادرة ممتلكاتهم، من مطابع ومكتبات وحتى مخزون المكاتب، ولم يتم إعادتها أبداً حتى بعد ذلك. وقد رفض رئيس القضاء والشرطة الشكاوى المبررة من قبل الصحافة السوفياتية بشأن معاملة أسرى الحرب السوفيت الذين فروا إلى سويسرا ".
    وتم نشر مقالتين لـجمور في مجلة "المسرح العالمي" الصادرة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، تحت اسم مستعار هو ستيفان ميلر، لتجنب القمع من قبل الجناح اليميني في سويسرا. ومع ذلك، فإن الوثيقة الأكثر أهمية حول سلوك البرجوازية السويسرية وحربها المستمرة ضد اليسار ودفاعها الذي لا هوادة فيه عن رأس المال قبل كل شيء هو تقرير بيرجير.
    في كانون الأول عام 1996 ، تم إنشاء لجنة مستقلة من قبل المجلس الفيدرالي السويسري تحت إشراف المؤرخ جان فرانسوا بيرجييه مع التفويض، ووفقاً لما ذكره بيرجير نفسه في تقريره:"تم الإجابة على سلسلة من الأسئلة المحددة: حول الأصول غير المطالب بها من قبل مودعيها"، أي الأصول المودعة في البنوك السويسرية قبل الحرب (العالمية الثانية) من قبل ضحايا (النازية) ولم يستردوها فيما بعد من قبلهم أو من ورثتهم؛ وبشأن معاملة اللاجئين ؛ وبشأن جميع العلاقات الاقتصادية والمالية والتجارية  بين سويسرا وألمانيا النازية ، وفي التعاون فيالإنتاج الصناعي ، وفي حركات الائتمان ورأس المال والتأمين وتهريب الأسلحة وسوق الأعمال الفنية والممتلكات المنهوبة أو المباعة بالقوة، والنقل بالسكك الحديدية والكهرباء ، والعمل القسري في ألمانيا من قبل المؤسسات التابعة للشركات السويسرية ". 
    ومن المعلوم إن تقرير بيرجير ككل يتكون من 11000 صفحة موزعة على 28 مجلد. وهو عمل هائل لا يقدر بثمن.
    أما بالنسبة لبيترو بوشتي، مؤلف كتاب بعنوان "السويسريون والنازيون" (Les Suisses et les Nazis) ، فإنه يلخص تقرير بيرجير ويقتبس منه فقرة بيرجير آنفة الذكر، فقد أكد بشكل عام على ما يعرفه المؤرخون بالفعل: نعم ، كانت سياسة اللجوء قاسية للغاية خلال الحرب ؛ ونعم، اشترى البنك الوطني السويسري الكثير من الذهب المشبوه الوارد من ألمانيا النازية، وبالتالي قدم للنازيين خدمة حظت بتقدير كبير ".
    ويذكر بوشتي في كتابه بعض الأمثلة على تعاون الشركات الكبرى في سويسرا مع ألمانيا النازية على غرار ما كشفه تقرير بيرجير. ومن الأمثلة التي يوردها بوشتي، أذكر بعض منها أدناه  لإعطاء فكرة عن نطاق تقرير بيرجير. وفيما يتعلق بالأعمال التجارية بين سويسرا وألمانيا النازية ، كتب بوشيتي: "من الواضح أن العلاقات بين رجال الأعمال كانت وثيقة جداً ودائمة. وهكذا، وبعد الحرب، فلقد تم توفير الدعم لرئيس [بنك] إس بي إس [رودولف سبيش] ومدير [بنك] يو بي إس [ألفريد شايفر] المصرفي النازي الوحيد كارل راش ، عضو SS ، من بنك درسدنر] الذي أدين من قبل المحكمة الدولية في نورمبرغ ".
    وحول "النزعة الآرية"، فإنه يشير إلى أنه: "يبدو أن شهادات الآرية لإثبات النقاء العرقي كانت ممارسة شائعة إلى حد ما. فعلى سبيل المثال ، من أجل الحصول على حق هبوط  الطائرات في ميونيخ، وافقت "سويس إير" على أن يثبت أطقمها إنحدارهم من الجنس الآري. وفعلت شركة نستله الشيء نفسه، كما فعلت شركات التأمين السويسرية بناء على ضغوطات برلين".
    ومرة أخرى، حول نستله: " ظلت شركة نستله على اتصال طوال الحرب مع السويسري هانز ريجينباخ، الذي كان مسؤولاً عن العمليات الألمانية متعددة الجنسيات في برلين. وباعت نستله منتوج نسكافه إلى الفيرماخت خلال الحملة الروسية، على الرغم من صعوبة استيراد حبوب البن ".
    حول عمل أسرى الحرب القسري: "لقد تأثرت الشركات السويسرية شأنها شأن منافسيها  بسبب نقص الأيدي العاملة،  ولذا لجأت الشركات السويسرية إلى إستخدام العمل القسري. ففي مصانع Lonza في والدشت ، جيء بـ 150 أسيراً فرنسياً في الفترة بين تموز 1940 ونيسان 1942. ومنذ ذلك الحين وحتى نهاية الصراع، عمل هناك أكثر من 400 أسير حرب روسي. ولم يتردد جورج فيشر وبي بي سي  وماجي  ونستله والعديد من الشركات السويسرية في الاعتماد على مجموعة من هذه العمالة القسرية.
    "كان سوء المعاملة ممارسة شائعة، بما في ذلك في الفروع السويسرية ... حتى شهر آب عام 1944 حيث أعادت سويسرا عمال السخرة الفارين ، وخاصة الروس والبولنديين إلى ألمانيا". ويشير بيرجير إلى أن السلطات والمسؤولين عن الشركات السويسرية في ذلك الوقت، "لم يفشلوا في تبرير كل من الإجراءات التي اتخذوها، أو رفضهم اتخاذها، أو ترددهم. لكن تفسيراتهم نادراً ما تصمد أمام الحقائق"، كما كتب بوشتي في مقدمة كتابه.
    ومع ذلك ، فقد تم إحباط النقاش الذي جرى بعد نشر التقرير بين أوساط الرأي العام الذي وتم عرقلة الهدف النهائي لكل الجهود المبذولة لعقد مؤتمر حول هذه القضية، على حد تعبير بيترو بوشيتي: 
    ومع ذلك فإن سويسرا بلد يثير الفضول! ففي الوقت الذي أكمل للتو عملاً جديراً بالثناء من سبر غور التاريخ المعترف به في كل مكان تقريباً باعتباره عملاً نموذجياً، وفي الوقت الذي استثمر موارد كبيرة لتمكين المؤرخين من العمل بجدية واستقلالية، وفي الوقت الذي نجا البلد من "أزمة الهوية" الناجمة عن فضيحة الأصول الآرية غير المطالب بها والتي أثارت كل أنواع المبالغات والتجاوزات، فإن هذا البلد الذي يمتلك المادة التاريخية اللازمة لإجراء مناقشة هادئة، رفض عقد المؤتمر…. ويا للأسف!
    كان قمع هذا النقاش انتصاراً جوهرياً للبرجوازية والشركات الكبرى في سعيهم لحماية صورتهم والحفاظ داخل سويسرا على المساحة والمصداقية اللازمة لمواصلة توسيع الأجندة الليبرالية الجديدة. ولولا ذلك، لم تكن هناك أية إمكانية لإستقرار مؤسسات مختلفة مثل المنتدى الاقتصادي العالمي والصندوق العالمي للطبيعة (WWF)، في سويسرا، وكلاهما يعتبران ورثة وداعما الرؤية النيوليبرالية للعالم، أي السوق كأداة رئيسية لتنظيم المجتمع وحتى "منقذ" الكوكب، وربما لا يكونا قد حققا مثل هذه الشهرة دون الدعم من قبل سويسرا.
    يصادف عام 2022 الذكرى العشرين لنشر تقرير بيرجير. إنها مناسبة لإجراء مناقشة مكبوتة ولكنها لا تزال ضرورية حول هذه الوثيقة، ليس فقط من أجل فهم أعمق لدور البرجوازية السويسرية والشركات الكبرى وأيديولوجيتها في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن قبل كل شيء لفهم دورها الحالي. بعد كل ما حدث، لا تزال النظرة النيوليبرالية وممثليها يتمتعون بسلطة سياسية هائلة في هذا البلد، ولا يزال العداء ضد اليسار عدوانياً كما كان خلال الحرب الباردة، ولا تزال سويسرا شريكاً مهماً في بناء ونشر التزييف، شأنها في ذلك شأن الروايات الأمريكية التي تدعم الحملات المناهضة للديمقراطية ضد كوبا وفنزويلا ، على سبيل المثال لا الحصر. إن القوى السياسية والمصالح الاقتصادية التي أدت إلى تعاون الشركات السويسرية الكبيرة مع ألمانيا النازية هي نفسها التي تقف وراء مقترحات إعادة تنظيم الدولة وفقًا لمصالح رأس المال كما دعت إليها جمعية مونت بيليرين والمنتدى الاقتصادي العالمي؛ وهي أيضاً نفس القوى التي حالت دون المناقشة العامة لتقرير بيرجير.
    تستمر الرأسمالية النيوليبرالية في التقدم في سويسرا باعتبارها الحل الوحيد الممكن لمختلف المشاكل التي تواجه البشرية اليوم ، من الأزمة البيئية إلى الأزمة الصحية التي يمثلها الوباء. ولم يُذكر أي دور للرأسمالية النيوليبرالية نفسها كسبب لكل هذه المشاكل. 
    وعندما تجرأت حركة المناخ على مساءلة النيوليبرالية في سويسرا، كان رد الفعل هو التشريع القاسي والقمعي. وعلى الرغم من وجود جمعية مونت بيليرين ومدرسة جنيف والمنتدى الاقتصادي العالمي والصندوق العالمي للطبيعة، إلا أن هناك تقليداً آخراً في سويسرا، تجسد في دور هاري جمور في لجنة بيرجير وهو الآن يظهر مرة أخرى في حركة المناخ. ويعود الأمر الآن إلى هذا التقليد لإعادة فتح النقاش الضروري وتحدي النيوليبرالية في أحد أهم مراكزها وتأثيرها، سويسرا.

    بقلم فرانكلين فردريك
    المصدر: Global Research
    ترجمة عادل حبه
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media