د. حميد الكفائي
لا شك أن أغلى ما يملكه المرء هو الوطن الذي ينتمي إليه ويشكل هويته وثقافته وتأريخه، ومهما ابتعد المرء جغرافيا عن وطنه، أو اغترب لظروف حياتية معينة، فإنه يبقى ينتمي إليه، نفسيا وثقافيا وتأريخيا، ويظل حتى أبناؤه وأحفاده ينتمون إليه أو يتعلقون به بطريقة أو بأخرى، وإن ولدوا وترعرعوا في بلدان أخرى.
لم ينسلخ كارل ماركس أو ألبرت أنشتاين أو هنري كيسنجر عن ثقافتهم الألمانية وانتمائهم إلى ألمانيا، حتى بعد أن انتقلوا إلى البلدان الغربية وعاشوا وأبدعوا وحققوا فيها أعظم إنجازاتهم. ظل هنري كيسنجر، الذي ارتقى أعلى المناصب في الولايات المتحدة، مستشارا للأمن القومي ثم وزيرا للخارجية لثماني سنوات، من 1969 حتى 1977، ألمانياً في تفكيره واهتماماته ولهجته.
ولم ينسَ العالم أن الرئيس الأرجنتيني الأسبق، كارلوس منعم، سوري الأصل، وقد ظلت عائلته متمسكة بالكثير من أعرافها العربية، وقيل إن زوجته كانت تطلب من زائريها أن يخلعوا أحذيتهم عند الباب، وهي عادة غير مألوفة في البلدان غير الإسلامية. رئيس وزراء بريطانيا الحالي، بوريس جونسون، قال مفتخرا إنه من أصول إسلامية تركية، وكان مهتما بتركيا في كتاباته وشعره، وأتذكر أنه نظم قصيدة هاجم فيها أردوغان قبل 15 عاما تقريبا.
ولم يغادر إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران عالمهم العربي عندما انتقلوا إلى أمريكا، بل ظلوا يكتبون الشعر بلغتهم العربية، ويتوقون إلى سوريا ولبنان ويتغنون بهما. ولم يتخلَ أدوارد سعيد وحنا بطاطو ويزيد صايغ ومجدي يعقوب وأحمد زويل ومير بصري واسحاق نقاش وسامي زبيدة وجميل الخليلي عن هوياتهم الفلسطينية والمصرية والعراقية، رغم اغترابهم وابتعادهم عن أوطانهم، إذ ظلوا متمسكين بها لأنها ببساطة هوياتهم التكوينية المغروسة في وجدانهم، ولا يمكنهم التجرد منها.
عاد مجدي يعقوب إلى مصر، بعد تقاعده عن العمل في بريطانيا، وحصوله على أعلى المراتب العلمية والشرفية، ومنها حصوله على لقب (سير) الذي منحته إياه الملكة إليزابيث الثانية، اعترافا من الدولة البريطانية بإنجازاته العلمية وخدماته الجليلة للبشرية جمعاء، لينشئ "مركز مجدي يعقوب للقلب"، بمساعدة دولة الأمارات العربية المتحدة، من أجل خدمة بلده، مصر، ورعاية أبناء شعبه، ومشاركة خبراته وعلومه مع أطباء بلده، بعد أن أمضى عشرات السنين يداوي مرضى القلب من مختلف أنحاء العالم.
وظل أدوارد سعيد حاملا القضية الفلسطينية طوال حياته، فكتب فيها الكتب والمقالات والقصائد، وأجرى حولها المقابلات الإذاعية والتلفزيونية والصحفية، وألقى عنها المحاضرات الأكاديمية والعامة، حتى رحيله المبكر في سبتمبر عام 2003. ولأنه نشأ في في ثقافة غربية إنجليزية، شعر سعيد بأن لغته وثقافته العربيتين لم تكونا بالمستوى الذي يطمح أن تكونا عليه، فذهب إلى لبنان ودرس العربية على أصولها، وتزوج من سيدة لبنانية، هي مريم مقدسي. واللافت أن سعيد، الذي حقق تفوقه وإنجازاته الأدبية والعلمية في الولايات المتحدة، إذ كان أستاذا للأدب الإنجليزي في جامعة كولومبيا المرموقة طوال حياته، أطلق على كتاب مذكراته عنوان (خارج المكان)، موحيا بأنه عاش خارج المكان الذي كان يجب أن يعيش فيه، وأن مكانه الحقيقي هو فلسطين وليس أمريكا.
أما جميل الخليلي، الذي أبدع في مجال اختصاصه (الفيزياء النووية والكمية) ونال جوائز عدة منها جائزة مايكل فرادي للاتصالات العلمية، وميدالية وجائزة كلفِن، وميدالية ستيفن هوكينغ للاتصالات العلمية، إضافة إلى حصوله على لقب شرفي من ملكة بريطانيا، اعترافا بإنجازاته، فقد ظل مرتبطا بالعراق والعالم العربي، وعندما منحته بي بي سي الفرصة ليقدم برامج علمية في الإذاعة والتلفزيون، اغتنمها ليقدم برامج للتعريف بفضل العلماء العرب الأقدمين على العلوم الحديثة.
عبير السهلاني، النائب الحالي في البرلمان الأوروبي، ظلت متمسكة بعروبتها وعراقيتها، وبقيت مهتمة بالقضايا العربية، إضافة إلى اهتمامها بمصالح البلد الذي تمثله في البرلمان الأوروبي، وهو السويد. وعندما فازت بعضوية البرلمان السويدي قبل عشر سنوات، ذهبت إلى البرلمان مرتدية الزي النسائي العراقي الجنوبي (الهاشمي)، كي تؤكد على هويتها وانتمائها العراقي. أما عضو البرلمان النمساوي، عمر الراوي، ورغم أنه ولد لأم نمساوية، إلا أنه ظل متمسكا بعراقيته وعروبته، وهو يكتب بلغة عربية سليمة، ويتفاعل مع العراقيين في وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما انتقص أحد النواب النمساويين اليمينيين من بغداد، انبرى له عمر الراوي مدافعا عن بغداد، مبينا تأريخها وفضلها على الحضارة العالمية.
يبقى الوطن قيمة عليا يتمسك بها المرء حتى وإن ابتعد عنه، ويظل الانتماء إليه أهم من أي انتماء آخر، حتى لمن يغادره للعيش في وطن آخر، فكيف بالذي يعيش فيه وينتمي إلى ثقافته؟ وبسبب عمق الارتباط بالأرض، يضحي الناس بأغلى ما لديهم، وهو النفس والمال، من أجل الوطن، ويدافعون عنه بكل ما لديهم من قوة، خصوصا إذا تعرض للتهديد. وعندما اندلعت انتفاضة تشرين في العراق عام 2019، هب العراقيون المنتشرون في كل بلدان العالم لمساعدة أخوانهم في ساحات الاحتجاج في بغداد والناصرية والبصرة والنجف وكربلاء وبابل والديوانية والعمارة، فدافعوا عنهم وبينوا مطالبهم وتبرعوا لهم بالأموال، ولم يفكر أحد منهم بغير هموم الوطن الذي ينتمون إليه.
منذ سنوات والعراقيون يشعرون بأن وطنهم يتعرض إلى احتلال إيراني بطيء، وأن هويتهم وثقافتهم وانتماءهم تتعرض إلى التهميش، الذي سيؤول إلى الإلغاء إن نجح الإيرانيون في مساعيهم. ويحصل كل هذا الاحتلال الإيراني تحت غطاء الدين والمذهب، وكأن على العراقيين أن يختاروا بين الانتماء إلى الوطن أو الانتماء إلى المذهب، الذي يتحدث باسمه الإيرانيون.
ومنذ عام 2019 يتعرض العراقيون المناهضون للاحتلال الثقافي والاقتصادي والعسكري الإيراني، إلى عملية إبادة منظمة تقوم بها جماعات إجرامية مسلحة بتوجيه ودعم وحماية من النظام الإيراني. وبالإضافة إلى الإبادة الجسدية، هناك حملة من الأكاذيب والافتراءات تطلقها الأبواق الإيرانية التي تملأ فضاء العراق زعيقا ونعيقا، لتشويه سمعة كل من يقاوم الوجود الإيراني ومحاولات إيران ابتلاع العراق وإضعافه.
المقاومة للنفوذ الإيراني في العراق تتصاعد كل يوم، خصوصا مع اتساع الفقر والفساد والفشل الحكومي، الذي يعزوه العراقيون بحق، إلى التدخل الإيراني في الشؤون العراقية. وقد تسبب هذا التغلغل في زعزعة الاستقرار، وفاقم التدهور الأمني والاقتصادي، وقاد إلى إيقاف الاستثمارات وتدمير السياحة، وفي الوقت نفسه أغرق السوق العراقية بالمنتجات الإيرانية، ما تسبب في تراجع الإنتاج الوطني وزيادة الفقر بين العراقيين. ومع تصاعد المقاومة للتدخل الإيراني، تتكثف عمليات القمع والخطف والقتل والنهب التي تشنها إيران وأتباعها على العراقيين عبر جماعات مسلحة ليس لها أي انتماء وطني أو قيم أخلاقية أو إنسانية، رغم ادعاءاتها وتشدقها بالدين.
لقد حاولت إيران عبر التأريخ أن تستولي على العراق تحت ذرائع دينية، وكانت دائما توظف المذهب من أجل التغلغل في العراق. إيران غيرت مذهبها مرات عدة حسب طموحات أو مصالح النظام السياسي القائم. البويهون، مثلا، كانوا يتبعون مذهبا مختلفا عن الصفويين، الذين استبدلوا مذهبهم بمذهب آخر من أجل محاربة العثمانيين الذين كانوا يشتركون معهم في القومية والمذهب، بعد أن رفض الأتراك الإيرانيون محاربة الأتراك العثمانيين بسبب وشائج القربى بينهم. كما أن مذهب الصفويين يختلف عن مذهب النظام الحالي، لكن التوجه لم يختلف كثيرا، وهو التوسع والهيمنة على الدول المجاورة.
غير أن عملية توظيف المذهب وتأجيج الصراعات الدينية والمناطقية اتسعت كثيرا بعد مجيء النظام الحالي إلى السلطة، ليس في العراق فحسب بل في بلدان أخرى. الدعاية الإيرانية لا تتوقف عن الإساءة إلى العرب، وكما وظف الإيرانيون أحداث التأريخ الإسلامي لتشويه صورة العرب، إذ ركزوا على أحداث معينة دون غيرها، وجعلوا من بعض الشخصيات التأريخية صورة نمطية للعرب، فإنهم يعيدون الكرّة الآن ويحاولون الإضرار بعلاقات العراق مع الدول العربية ودول العالم الأخرى، خصوصا الولايات المتحدة، من خلال مهاجمة الأهداف الأمريكية في العراق، بما فيها السفارة، المحمية بموجب المواثيق الدبلوماسية الدولية، والهدف واضح وهو إضعاف العراق وجعله دولة هزيلة تدور في فلك إيران.
لم يعد هذا المسعى الإيراني خافيا على العراقيين، الذين أدرك معظمهم مطامع إيران وخططها التوسعية ومحاولات استغلال المشاعر الدينية لخدمة مصلحة النظام التوسعية، وأساليبه التخريبية والإجرامية لإضعاف العراق وتهميشه، والتي ساهمت بشكل مباشر في تصاعد المشاعر العراقية المناهضة لإيران، والتي لن تخدم العلاقات بين البلدين مستقبلا.
الأمر الذي يجب على الإيرانيين أن يفهموه هو أنهم لن يستطيعوا أن يبتلعوا العراق، فهذ الأمر لن يسمح به العراقيون، في الداخل والخارج، لأن الوطن عندهم قيمة عليا ولا يخضع للمساومة. المجتمع الدولي هو الآخر لن يسمح لإيران أن تتمدد خارج حدودها، خصوصا وأنها معادية لدول المنطقة. إن كان الإيرانيون قد حققوا تقدما محدودا في مسعاهم لإضعاف العراق وزعزعة استقراره، فإن عواقب تدخلاتهم المدمرة سوف ترتد عليهم وتلحق بإيران أضرارا قد لا يمكنهم تصورها حاليا.
كان يفترض بإيران أن تسعى لدعم الاستقرار في المنطقة عموما، وفي دول الجوار تحديدا، كي يستقر الناس ويعم الأمن والسلام والوئام، لكن الغرور والجهل والغطرسة والقراءة الخاطئة للأحداث والسياسات، التي ميزت زعماء إيران خلال العقود الأربعة المنصرمة، لم تعُد على هذا البلد إلا بمزيد من الحروب والعداء والعقوبات والمقاطعة الدولية.
آن الأوان أن يضع المجتمع الدولي حدا لسلوك إيران العدواني، وأن يتخذ الشعب الإيراني زمام الأمور بيديه، ويسعى لتخليص نفسه من هذا المأزق الذي وضعته فيه مجموعة من المتطرفين المتقوقعين في الماضي السحيق، الذين لا يفهمون السياسة الدولية وكيف يسير العالم المعاصر، وبالتالي فإنهم لن يقودوا إيران إلاّ إلى مزيد من العزلة والتراجع والمعاناة.