د. عبد الخالق حسين
هذا هو القسم الثاني والأخير من الحوار بيني وبين الأخوة الذين علقوا على مقالي الموسوم (
متى يتخلص العراق من الهيمنة الإيرانية؟)(1). وهو مخصص للرد على تعليقين للأخ الكاتب عبد الرضا حمد جاسم، في صحيفة المثقف الغراء، حيث دار حوار بيننا في قسم التعليقات. لذلك رأيت من المناسب أن أقدم خلاصة ما دار من حوار في مقال لتعميم الفائدة. أنقل أدناه نص التعليق الأول للأخ عبدالرضا، ومن يرغب في قراءة تعليقه الثاني أحيله إلى رابط المقال في الهامش(1).
نص التعليق الأول
((الاستاذ الدكتور عبد الخالق حسين المحترم
لكن متى يتخلص العراق من الهيمنة الامريكية؟
اشك في عقل شخص يتصور ان امريكا في العراق عبارة عن عشرات الشواذ السفلة المنحرفين المتواجدين في مئات وربما آلاف القواعد و بطلب من الحكومة. ايران جارة من اكثر من سنوات التقويم الهجري اي اكثر من 1400 سنة وهي على اكثر من هذا الرقم من الكيلومترات [طول الحدود]... ليس من الشرف ان يطرح البحث في الوجود الايراني و يترك الوجود الامريكي. نحن جيران لا نستطيع الافتراق ولن تتمكن امريكا مهما حاولت او غيرها من نقل العراق الى رقعة جغرافية خارج هذا المكان.
ارجوك اخذ الامور باتزان...لو ضحت امريكا بوجودها لن تتمكن من تغيير حرف جر واحد بسيناريو العلاقة العراقية الايرانية و كل الاصوات التي تتوقع ان تتمكن امريكا من التأثير بكيومتر واحد من العلاقة هو نباح كلاب حرمة من عظمة حشاك. محب العراق عليه حماية ايران من السفلة الامريكان الذين دمروا العراق ويريدون تدمير ايران لتدمير المنطقة، ايران لا تحب العراق لكنها تدافع عن نفسها ... اللقيطة تعتدي كل يوم على سوريا بحجة منع التواجد الايراني ولا احد يتطرق الى ذلك وهي تقول انها تدافع عن نفسها...لو نقيس بنفس القياس فيجب ان نقبل ان ايران تدمر العراق و تمحيه من الخريطة لأنها تدافع عن نفسها...كان لي سجال من طرف واحد مع جنابك استمر اكثر من 15 جزء...تحياتي و امنياتي لك بالسلامة)) انتهى.
الجواب:
الأستاذ عبد الرضا حمد جاسم المحترم
شكراً جزيلاً على تعليقك القيم. أتفق معك أن لنا مع إيران علاقات دينية ومذهبية وتاريخية ضاربة جذورها في العمق لآلاف السنين، وجغرافية لأكثر من 1400 كم من الحدود. وأنا في العديد من مقالاتي دعوتُ، وما زلت أدعو لعلاقات ودية وحميمة مع إيران، مبنية على المصالح المشتركة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي. كما أستنكرتُ مراراً موقف أولئك الذين يدقون طبول الحرب والكراهية ضد إيران لأسباب طائفية وعنصرية مقيتة، حتى أن البعض منهم اتهمني بأني أستلم أجوراً من إيران وبالتومان! أدرج أدناه رابط لإحدى تلك المقالات(2).
أما العلاقة مع أمريكا فهي أكثر تعقيداً من العلاقة مع إيران، لعدة أسباب. أولاً، لما لأمريكا من تاريخ سيء مع العالم الثالث من تركة مرحلة الحرب الباردة. ثانياً، أنا لم أترك الوجود الأمريكي في العراق، بل تناولته في عشرات المقالات، ولكن شتان ما بين الوجود الإيراني و الوجود الأمريكي في العراق.
فقد جرى العرف لدى الناس وخاصة عند أنصار إيران، أنه إذا ما انتقدت التدخل الإيراني في الشأن العراقي والدول الأخرى في المنطقة، فسرعان ما يصرخون بوجهك: وماذا عن أمريكا؟ ويطالبونك بسب الطرفين بمقدار واحد لتثبت حياديتك واستقلالك الفكري حتى لو كان الخطأ واضح من طرف إيران. فإذا أردت أن تنتقد إيران وهي تفعل ما تفعل في العراق، وفي دول المنطقة، عليك أن تسب أمريكا وغيرها في نفس الوقت وإلا فأنت متهم بالانحياز والعمالة!
لذلك أقول، ليس من المصلحة الوطنية أن تضرب اليد التي تمتد لمساعدة وطنك، باسم الحيادية. فأمريكا حررت العراق من أبشع احتلال داخلي ألا وهو حكم البعث الجائر الذي وُصف بـ(دولة المنظمة السرية)، و(جمهورية الخوف)، و(دولة المقابر الجماعية) وقائمة كوارث البعث طويلة.
وأنا لست الوحيد الذي ينتقد التدخل الإيراني في دول المنطقة، بل جاء أقوى نقد لإيران من السيدة فائزة رفسنجاني، ابنة الرئيس الإيراني الأسبق الراحل هاشمي رفسنجاني، والنائبة البرلمانية السابقة، حيث قالت في تصريح لها قريباً إن ("تدخل إيران في سوريا خلف 500 ألف قتيل"، فيما أشارت إلى أن والدها عارض مشاركة إيران في الحرب في سوريا.)(3)
كذلك حتى بعض الأخوة من المدافعين عن التدخل الإيراني والمبررين له في العراق، يعترفون أن إيران تكره العراق ولا تريد له خيراً، فهاهو الأخ عبدالرضا حمد جاسم نفسه يعترف في رده بأن (("ايران لا تحب العراق لكنها تدافع عن نفسها ... اللقيطة [ويقصد إسرائيل]، تعتدي كل يوم على سوريا بحجة منع التواجد الايراني ولا احد يتطرق الى ذلك وهي تقول انها تدافع عن نفسها...لو نقيس بنفس القياس فيجب ان نقبل ان ايران تدمر العراق و تمحيه من الخريطة لأنها تدافع عن نفسها..")) انتهى الاقتباس.
أخي الفاضل هذا الكلام"أن نقيس بنفس القياس" ونبرر لإيران محو العراق مقبول إذا صدر من إيراني يدافع عن بلاده، كما صدر عن إسرائيلي الذي يدافع عن دولته، ولكن أن يصدر من عراقي مثلك ومثلي، و أن يسكت عن إيران حتى ولو محت العراق من الخارطة لأنها تدافع عن نفسها، فهذا الكلام غير مقبول إطلاقاً. فلماذا نحن العراقيين لا يحق لنا نفس الحق في الدفاع عن وطننا، وهو يمر في أخطر أزمة في تاريخه الحديث والقديم؟ علماً بأننا لا نريد أن نمحي إيران من الخارطة ، فكل ما نطالب إيران هو ترك العراق لحاله بدون أي تدخل، ولماذا يستكثرون علينا حتى هذه المطالبة المشروعة؟ لذلك يجب علينا كعراقيين أن لا نسمح لإيران أن تتخذ من العراق ساحة لمحاربة أمريكا وإسرائيل، وإذا تريد محاربتهما فلتحاربهما على أرضها، أو أراضيهما وليس على أرض العراق وبدماء العراقيين.
إن مثال الأخ عبدالرضا أشبه بمن تأتيه صفعة من شخص جالس على يمينه، فبدلاً من أن يرد الصفعة إلى المعتدي، يصفع الشخص الجالس على يساره، وهاهو الأخ عبدالرضا يعطيه الحق في ذلك. إسرائيل تضرب سوريا والقوات الإيرانية في سوريا دفاعاً عن وجودها كما تدعي، ولكن إيران بدلاً من أن ترد على إسرائيل، توجه ضرباتها إلى العراق، ونحن كعراقيين علينا أن نسكت ونعطي الحق لإيران لضرب العراق انتقاماً من إسرائيل؟ بالله عليك أي منطق هذا؟
وبالمناسبة، نفس الحوار من هذا النوع دار في مجموعة النقاش، فبرر أحد الزملاء لإيران ضرب المنشآت الأمريكية في العراق، والذي من نتائجه توريط العراق في مواجهة غير متكافئة مع أمريكا، فرد الصديق الدكتور محمد حسين علي، منسق المجموعة على هذا الزميل سائلاً:
((وفي المقابل اود ان اطرح سؤالا واحداً، وهو: "لماذا تختار ايران ان توجه ضربات للمنشآت العسكرية الامريكية في العراق بينما توجد هناك اهم المنشآت الامريكية قريبة منها في الخليج في كل من عمان والإمارات وقطر والبحرين والكويت والسعودية؟ لماذا يكون دم شباب العراق رخيصا بينما تحتفظ ايران بعلاقات رصينة ومتحفظة مع كل دول الجزيرة والخليج ؟"))
أرى سؤال الدكتور محمد حسين علي مشروعاً.
نعم، تدخلت أمريكا في العراق، ولكن بطلب من المعارضة الوطنية العراقية في عهد حكم البعث الصدامي بعد أن فشلت كل محاولات الشعب العراقي للتخلص من ذلك النظام الجائر بقواه الذاتية. نعم لم تتدخل أمريكا لسواد عيون العراقيين، بل لمصلحتها، وعلى رأسها حماية إسرائيل وحلفائها في المنطقة. ولكن هل حقاً كان حكم البعث يشكل خطراً على إسرائيل عدا التهديدات الفارغة (الفاشوشية)، كما التهديدات الإيرانية اليوم بزوال إسرائيل؟ فأمريكا هي التي جاءت بعصابات البعث المافيوية للسلطة، لذلك أمريكا تتحمل مسؤولية أخلاقية لإزاحتها، ولماذا لا نستفيد من هذه الفرصة، أي توافق المصالح؟ وحتى لو كانت أمريكا عدوتنا فرضاً، فالحكمة تفيد: (أضرب رأس الأفعى بيد العدو).
كذلك يجب أن لا ننسى إن التدخل الأمريكي في إسقاط حكم البعث الفاشي كلف أمريكا نحو 4500 قتيل، وأكثر من 40 ألف مصاب ومعوق من قواتها العسكرية، ونحو تريليون دولار خسائر مادية. وبعد كل هذه التكاليف البشرية والمادية والمعنوية، لا يمكن لأمريكا أن تقدم العراق على طبق من ذهب إلى إيران. وليس بإمكان الحكومة العراقية الضعيفة أن تستغني عن الدعم الأمريكي لأن أمن العراق مهدد من داعش، والهيمنة الإيرانية من خلال المليشيات الولائية، وكل دول الجوار الذين يريدون إبقاء العراق ضعيفاً وممزقاً. وقد بات واضحاً لدى كل وطني عراقي شريف وذي عقل سليم، أن التدخل الإيراني ضد مصلحة العراق، بينما التدخل الأمريكي هو على شكل دعم للعراق في حربه على داعش ومساعدته على حل مشاكله الكثيرة الأخرى. ولذلك نقول لا غنى للعراق عن الدعم الأمريكي، لا حباً بأمريكا بل حباً بالعراق.
وكما ذكرتُ في المقال، إن إيران لم ترسل جيوشاً لإحتلال العراق، بل أسست أكثر من 60 مليشيا ولائية لها من العراقيين أنفسهم لزعزعة الوضع في العراق وتحويله إلى دولة عميقة فاشلة لا حول لها ولا قوة.
والحكمة تفيد أنه إذا كان لا بد للإنسان أن يختار بين الخير والشر، فلن يحتاج سوى مستوى عادي من الذكاء البشري. ولكن أن يختار واحد من بين شرين، ففي هذه الحالة يحتاج إلى أكثر من الذكاء البشري، يحتاج إلى الحكمة في اختيار الأقل شراً.
لذلك إذا كان لا بد للعراق أن يختار بين الوجود الإيراني، أو الوجود الأمريكي، فمن الحكمة أن يختار الوجود الأمريكي لأنه ليس الأقل شراً فحسب، بل وفي صالح العراق. لأن غرض إيران من التدخل هو الهيمنة الكاملة على العراق وجعله دولة ضعيفة فاشلة في جميع المجالات. بينما التدخل الأمريكي هو في صالح الشعب العراقي، أي منع الهيمنة الإيرانية أولاً، وحماية العراق من داعش، وتكالب الدنيا عليه من كل حدب وصوب ثانياً، وهو مطلب عراقي.
كذلك لو قارنا بين الدول التي فيها وجود أمريكي مثل: اليابان، وكوريا الجنوبية وألمانيا وغيرها، وبين الدول التي فيها وجود إيراني مثل: سوريا، ولبنان، واليمن والعراق، لرأينا المجموعة الأولى تعتبر من أرقى دول العالم، اقتصادياً وديمقراطياً، وحضارياً، واستقراراً سياسياً، بينما المجموعة الثانية (الإيرانية) فهي خرائب وأنقاض ينعق فيها البوم ، وتعتبر من الدول الفاشلة أو حتى في حالة اللادولة مثل اليمن "السعيد".
الاستنتاج
أولاً، السياسة فن الممكن، وتحقيق المصالح.(أنصار إيران يعتبرون هذه الحكمة نكتة!! ويعتمدون على الغيبيات والتمنيات، ويمنون أنفسهم ليل نهار أن أمريكا في طريقها إلى الزوال قريباً كما انتهى الاتحاد السوفيتي!!). وإذا كانت كل الحكومات تسعى وراء مصالح شعوبها، فلماذا على الحكومة العراقية فقط أن تضحي بمصلحة شعبها في سبيل إيران؟ فالحكومة الإيرانية هي التي اختارت المواجهة مع الدولة العظمى، لذلك يجب علينا نحن العراقيين أيضاً، أن نضع مصلحة الوطن أولاً، و فوق الولاء الطائفي وجميع الولاءات الثانوية الأخرى.
يبدو أننا وصلنا إلى نقطة انعدام الرؤية، وأنا لا ألوم من يختلف معي في تفضيل العلاقة مع إيران على أمريكا، لأننا نعيش في زمن اختلطت فيه الأوراق حتى بات من الصعب التمييز بين الحق والباطل، بين الصديق والعدو. وعندما تتعرض الأوطان إلى كوارث يحصل اختلاف في الرؤى.
ثانياً، إن تسييس الإسلام جريمة لا تُغتفر بحق الإسلام وحق الشعوب. وقد نصح آية الله حسين الخميني (حفيد الإمام الخميني)، العراقيين بعدم تسييس الدين، أو أسلمة السياسة. فقال قوله المأثور: (الدين يفسد السياسة، والسياسة تفسد الدين).
ثالثاً، المشكلة أن دعاة الإسلام السياسي اعتادوا على اتهام كل من لا يوافقهم على آرائهم بأنه جوكر أمريكي، ومتصهين!!، وبذلك يبررون تصفيته جسدياً ومعنوياً. لا أعتقد أن حفيد الخميني جوكر أمريكي ومتصهين. فعلى أنصار الإسلام السياسي أن يعيدوا النظر في مواقفهم، ويستخلصوا الدروس والعبر من التاريخ القريب الذي عشناه، والبعيد الذي قرأناه، حيث حكم بالفشل الذريع على الأنظمة ذات الأيديولوجيات الشمولية، مثل الشيوعية، والقومية، والدينية.
ولكن الإسلاميين كغيرهم من البشر، لم ولن يتعلموا من التاريخ أي درس، بل اعتادوا على أن لا يجربوا الطرق الصحيحة لحل المشاكل إلا بعد أن يستنفدوا جميع الطرق الخاطئة. والإصرار على الخطأ يكلف الشعوب باهظاً. وفي هذا الخصوص يقول أينشتاين: "الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب، و نفس الخطوات، و انتظار نتائج مختلفة."
فالعصر الحالي هو عصر التحولات السريعة، عصر العولمة، والنظام العلماني الديمقراطي، يكون فيه (الدين لله والوطن للجميع)
وإن غداً لناظره قريب
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
2- عبدالخالق حسين: أمريكا وإيران.. تقاسم نفوذ، أم ادارة للصراع بالنيابة؟
3- غضب في إيران بعد تصريحات لرفسنجاني: سليماني خالف النصيحة.. وتَمنّيت فوز ترامب!