العدالة الاجتماعية بين اشكالية المفهوم والتطبيق- اقتصادياً
    الجمعة 19 مارس / أذار 2021 - 11:05
    أ. د. وليد ناجي الحيالي
    مؤسس ورئيس الأكاديمية العربية في الدنمارك
    استهلال..
    قبل أن نتناول حقيقة العدالة الاجتماعية ومضمونها الاقتصادي، نستهلّ هذا الموضوع بالقول: إن ما جاء به المفهوم الرأسمالي يقوم على أساس إطلاق الحريات الاقتصادية من دون حدود، وعلى فكرة أن السوق تقوم هي الاخرى على القائمين عليها دون حاجة إلى تنظيم من الدولة. بيد أن الحياة أثبتت أن هذا المفهوم يقود إلى زيادة الأغنياء غنى، وزيادة الفقراء فقراً، فالأغنياء وحدهم القادرون على الاستفادة من حرية السوق في تعظيم ثرواتهم وقدراتهم. وهذا السلوك استخدم في تقويض المعنى والجوهر الحقيقي للحرية، فالحرية تعني أن يعيش الإنسان حرا من الخوف ومن العوز، كما تنص مواثيق الأمم المتحدة. ولكننا نلاحظ أن هناك الملايين من البشر لم يجد قوت يومه، وأن الخطر يتهددّ مستقبل هؤلاء البشر، إذ إنهم لا يشعرون بالأمن والعدالة والضمان الاجتماعي، وعدم القدرة على العيش بحرية، بل إنهم لم يتمكنوا من ممارسة حقوقهم في الحرية الفردية والعامة، سواء في التعليم أو السياسة أو الصحة، لأن من يملك الثروة يملك النفوذ، وبالتالي يستطيع تشكيل مراكز ضغط ونفوذ تعمل على مساحات الابتزاز السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في اطار توجيه التصورات والتصرفات، بما يخدم مصالح أصحاب الثروات، والتأثير على روافد الحياة وما يستتبعها من نتائج، من خلال سلطة التدخل المالي والاقتصادي والسياسي.
    ومن البديهي القول: إن مبدأ السوق الحرة غير المنضبطة، اجتماعيا واقتصاديا واخلاقيا، والذي يستد إليه المفهومُ الرأسمالي، بمعزل عن المسؤولية الاجتماعية، قد أسّس واقعاً مشوهاً يطغى فيه القويُّ على الضعيف ويستعبده ويعمل على تدميره متى يشاء. ومع أهمية التذكير بتلكم الحقيقة، وإذا كنا نتفق على أهمية عنصر الربح في تشجيع وتطوير الإنتاج والانتاجية، وفي مراعاة الفروق الفردية بين الناس، وكذلك القناعة بأن هذا التصّور هو أساس الاختلاف مع الرؤية الاشتراكية التي تحاول إذابة أية فروق طبيعية بين أبناء المجتمع، نقول: مع الأخذ بعين الاعتبار هذا التصّور، فأن الربح يجب ألا يكون المرتكز الوحيد لفلسفة الاقتصاد، بل ينبغي إعادة صياغة الأهداف الاقتصادية لتمتزج بالاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية والتضامن الاجتماعي المتصل بمصالح الناس وكل الأفراد.
     وعليه، ينبغي أن تشمل الفلسفة الاقتصادية إقامة مجتمع الرفاه والتضامن، وتحقيق الحد المقبول من المعيشة لجميع الأفراد، وتقليص الفجوات بين الأغنياء والفقراء، وتفتيت تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة، وتوسيع قاعدة المساهمة لأكبر عدد ممكن من الأفراد في الشركات والمشاريع الاقتصادية، وفرض الضرائب التصاعدية على الأفراد والشركات لصالح العدالة والتضامن الاجتماعي. فامتلاك المال ليس ميزةً فحسب، بل يعني مسؤوليةً أكبر، فالغنيّ مرتبط بجملة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ساعدته في تكوين ثروته، لذلك فإن من واجباته ومسؤولياته المشاركةً الكيفية والكمية بغرض تحقيق التضامن والعدالة الاجتماعية داخل الدولة والمجتمع الذي ينخرط فيه.
    المال اداة للتحريك النافع وليس التملك فحسب 
    وفي هذا السياق، قد يكون مفيداً الاشارة والتذكير بأن الفلسفة الماركسية  أكدت أن المال هو أداة تحريك للنشاط الاقتصادي وليس أداةً للتملك والكنز ، فهدف المال تقويم حياة الناس وتيسير معاشهم . والهدف الاقتصادي المنشود  هو تفتيت تركيز الثروة وتوسيع قاعدة توزيعها: . ولذلك فرضت الانظمة الاقتصادية مهما اختلفت اتجاهاتها الضريبة التصاعدية في الاجزاء ، ، وسنَّ تشريعات المواريث كي يقل تركيز الثروة باستمرار، فتتفرق أموالُ الفرد الواحد إلى عشرة أو عشرين فرداً. والنشاط الاقتصادي الذي يهدف إلى الربح وجمع الأموال فقط يتقاطع مع الانسانية الاجتماعية والقيم الاخلاقية العليا، بل يتناقض مع الوظيفة الإنتاجية للمال. 
    واذا كانت الرؤية الاجتماعية المتوازنة روحياً ومادياً، أن يحصل كلُّ فرد على الطعام والدواء والمسكن والتعليم، فإن هذا المبدأ يُعدّ حقاً أساسياً يعطى لكل إنسان مقابل إنسانيته، وليس مقابل عمله، فمجرد ولادة أي فرد في المجتمع يفرض على هذا المجتمع تأمين الحد الأدنى له من الطعام والكساء والدواء والمسكن والتعليم. وليس من الأخلاق في شيء أن يترك إنسان في مواجهة الجوع أو المرض أو العراء، بحجة عدم ملكيته أو عدم استحقاقه. فإذا استطاعت الحكوماتُ المعنية، توفير فرصة عمل لكل إنسان كان خيراً، وإن لم تستطع فإنها ملزمة بتوزيع ثروات المجتمع بالكيفية التي تضمن تأمين الحد الأدنى من ضرورات الحياة الاجتماعية والاقتصادية لكل فرد من الأفراد، وإن كان ثمة تمايز بين الناس، فليكن بعد ضرورات المعيشة. أما إذا كان ابنُ الفقير يتضور جوعاً أو يتلوى ألماً، في الوقت الذي يلقي فيه الغني فائض طعامه في القمامة ويبدد أمواله ترفاً وبطراً، فإن مفهوم الملكية الخاصة يغدو بلا قيمة، مثلما روي عن أبي ذر الغفاري: "عجبتُ لمن لا يجدُ قوتَ يومه ألا يخرجَ على الناس شاهراً سيفه". وهذه المقولة جسدت مفهوم الصراع الطبقي الذي جاء به كارل ماركس فيما بعد.
    مؤشر نضج الاقتصاد وأخلاقيته
    معلوم لكل باحث في العدالة الاجتماعية وما يستتبعها من ظروف اقتصادية، إن مؤشر نضج الاقتصاد وأخلاقيته يجب أن يركز على العدالة الاجتماعية وليس على زيادة الأرباح فحسب، فسعيُ الأغنياء إلى زيادة أرباحهم تتكفل به الطبيعة الإنسانية، ولن تعدم إيجاد وسيلة إليه في أي ظروف، لكن المشكلة الأكبر التي يعاني منها العالمُ المعاصر الآن، هي في اختلال توزيع الثروة بين دول غنية ودول فقيرة، ناهيك عن ان الهوّة في تزايد بشع وقاهر. لذلك، فإن اتجاه الفكر الاقتصادي المنشود ينبغي أن يكون البحث في طرق تقليص الفروق الطبقية بين الدول من جهة، وداخل المجتمعات من جهة ثانية، مع الأخذ بالحسبان أهمية توسيع المساهمة الشعبية في الشركات والمنظمات، وكسر تركزّ الثروة والاحتكار في أيدي فئة قليلة من الأفراد والعوائل الغنية.
    وليس مستنكراً أن تتقدمَّ منظمة العمل الدولية (ILO) بتصورات تجاه الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، عبر مفاهيم شتى، مثل (التعاونيات، الجمعيات، المؤسسات، المؤسسات الاجتماعية.... الخ) والتي تتمثل خصوصيتها في إنتاج السلع والخدمات والمعرفة لأكبر شريحة من شرائح المجتمع. وفي هذا التحوّل الذي تسعى فيه إلى تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز التضامن، فإن ما نراه متوازناً هو أن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يشبه التوفيق بين النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية من خلال المنظمات والجمعيات الاجتماعية، من أجل ضمان تكافؤ الفرص بين أبناء الجنس البشري داخل الدولة الواحدة أو بين مجموع الدول. لذلك ينبغي أن يكون الاقتصادُ الاجتماعي والتضامن الاجتماعي، أحد أهم الأدوات لتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، على مستوى الاقتصادات النامية والمتقدمة في العالم فحسب، لكونها تدخل في المساحات والمساهمات الايجابية الرامية الى نمو الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك الثروة وخلق فرص العمل وتحسين الأداء البشري والمادي، الاقتصادي والاجتماعي المتوازن. من الطرف الآخر، فإن كل إنسان في أي ارض، وفي أي وطن ومجتمع، ينبغي أن يفتح ذهنه، وان يفكرّ في استثمار الثروات الموجودة في بلاده، من الأرض والمياه والثروات المعدنية، وأن يتساءل: كيف نستثمرها؟ وكيف نستفيد منها؟ 
    هنا لا ينبغي أن نعزف عن هذا الأمر، بل لابد أن نفكر في ما نضيف إلى المجتمع، وإلى الوطن، في مجال الاعمار، والتنمية الاقتصادية، ولو أن كل إنسان فكرّ على هذا الصعيد، كيف ننهض بالزراعة في البلاد، وكيف نعيد عجلة  الصناعة والتجارة بل عموم الحركة الاقتصادية لتحقيق التنمية الاقتصادية ومن خلالها الاجتماعية ...  ما يتطلب التعبئة المجتمعية بأهمية المساهمة الفعلية في النمو الاجتماعي والاقتصادي من خلال مساهمة حقيقية من قبل موسسات الدولة الماسكة بمفاتح التعبئه الوطنية   .اعتقد  ان   الانسان الواغي  والمعني بأهمية التنمية الوطنية سيسهم دون ادنى شك بعمليه العاداله الاجتماعية  ، ولعل التجارب المجتمعية للبلدان الاسكندنافيا خير  دليل لما ذهبت اليه  ،  ما أحوجنا أن نستفيد من همتهم في مجال الفكر المادي والعمل والانتاج والجودة. وعليه، فإن اعمار الأرض والبلاد وتنميتهما في أي مجتمع يحتاج إلى منظومة متكاملة من العناصر والقدرات البشرية والمادية والاجتماعية المتوازنة، الأمر يرتبط بالوضع السياسي والاقتصادي، وباقتصاد السوق الاجتماعي، وبالمستوى العلمي المعرفي، وكذلك يرتبط بالبيئة المشجعة، إذ إن كل إنسان يستطيع أن يقوم بدورٍ ما على هذا الصعيد.
    اقتصاد السوق الاجتماعي وموجبات ظهوره
    أولاً- الخلفية التاريخية لاقتصاد السوق الاجتماعي:
    بدأ نظامُ اقتصاد السوق الاجتماعي في أكثر الدول الأوربية الغربية تطوراً وخصوصاً تلك التي حكمتها أحزابٌ اشتراكية ديمقراطية، كبريطانيا والدول الإسكندنافية عموماً وألمانيا الاتحادية والنمسا وفرنسا وإيطاليا, فقد دعمت هذه الأحزابُ وقياداتها هذا النظام لأنها تتبنى قضايا العمال، ووضعت القوانين لمعالجتها في إطار حوار اجتماعي متعدد الأطراف. فقامت الدول المذكورة بترشيد السوق لتحقيق المزايا الاجتماعية، وطبقتّ النظام الجديد على إنه نظام اقتصادي سياسي اجتماعي يتحدد بتقاطع المصالح للفئات الاجتماعية من جهة، ويقوم على استخدام جزء من الفائض الاقتصادي للتوسع الاستثماري والإنماء الاقتصادي والأمن الوطني الاستراتيجي, واستخدام جزء آخر منه للخدمات الاجتماعية والإنماء الاجتماعي من جهة أخرى. وكان الهدف من هذا النظام تحقيق التنمية الاقتصادية بالتلازم مع تخفيف الأعباء المعيشية على الفقراء، وتأمين الخدمات الأساسية للفئات الاجتماعية الفقيرة والعاملة بأجر، وخاصة الصحة والتعليم والسكن وتوفير مياه الشرب والحاجات الاجتماعية الأساسية وتسهيل حصولهم عليها. ولقد ساعد على ظهور هذا النظام في الدول الرأسمالية الصناعية المتطورة عاملان أساسيان:
    العامل الأول: إن قيام الثورة الصناعية في دول أوروبا الغربية ثم الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر، والزّج بالعمال والنساء والأطفال بعد سحبهم من الريف والزراعة, في خطوط الانتاج بالمصانع، واستخدامهم المتزايد في عملية الإنتاج بأجور مخَفضة, أدى إلى ظهور الاحتجاج الاجتماعي والدعوة المتزايدة إلى الاشتراكية , وبعد الحرب العالمية الأولى قامت الدولُ الرأسمالية الأوروبية بقمع الثورات والانتفاضات وأعمال التمرد العمالية، كما في ألمانيا، حيث اتّحدت الرأسمالية والنازية, وفي إيطاليا اتّحدت الرأسمالية المهزومة في الحرب بالفاشية. وفي تلك الفترة بُنيت المدنُ الجديدة وأُمَنت الخدمات، ولكنها لم تكن بالمستوى المطلوب، وأُقرّ مبدأ مجانية التعليم، كما ظهرت شركات عامة مثل "فولكسفاكن" للسيارات وشركة النفط الحكومية "أيمي". وأدت أزمة الكساد الكبرى في عام 1929(التي حدثت في العديد من الدول الغربية وقذفت بملايين العمال خارج سوق العمل إلى البطالة)، إلى إحداث أزمة اجتماعية وفكرية عميقة للغاية، ودفعت الكثير من العمال إلى تبني الأفكار الاشتراكية .وهذا أدى إلى دخول الرأسماليين الجدد في معارك عنيفة مع عمال المصانع مما دفع الدولة إلى التدخل طرفًا وسيطًا في هذا النزاع الاقتصادي والاجتماعي, وقامت بصياغة تسويات تاريخية وعقود اجتماعية مع قادة العمال والنقابات فيها. وقد تزامنت هذه الأحداث مع ظهور فكر اقتصادي جديد قاده المفكر "كينز" يدعو الدولة إلى إقامة مشاريع لتأمين فرص عمل لتشغيل الأيدي العاملة. أما في الدولة السوفيتية فقد دعت الأحزابُ الشيوعية في فترة الحرب الباردة لقيام نظام اجتماعي عادل، واعتماد إستراتيجية اقتصادية واجتماعية عمادها التصنيع الثقيل، وتطوير الاقتصاد السوفيتي، ورفع مستوى المعيشة بصورة مستمرة في إطار التخطيط الاشتراكي المركزي.
    العامل الثاني: ظهور الأنظمة الديمقراطية الاجتماعية في الدول الأوروبية والأميركية, وعقدها تسويات تاريخية من خلال مزاوجة المصالح بين العمال والرأسماليين, وبين النقابات العمالية, وذلك برعاية الدولة وضماناتها. مما أتاح قيام تعاون اقتصادي واجتماعي ثلاثي بين الدولة "المحايدة", وكل من أرباب الصناعة والمال والاقتصاد, وقادة النقابات وجماهير العمال، فأسسّوا جميعاً نظام اقتصاد السوق الاجتماعي، حيث لا تترك النشاطات الاقتصادية فيه لآليات السوق وحدها, وإنما تقوم الدولة بضبطها وتوجيهها لترشيد فعلها الاقتصادي والاجتماعي, وتخفيف تقلباتها, ومعالجة مظاهر الغش أو الاحتكار أو الإغراق التجاري فيها, وتصحيح اختلال الدخول الاجتماعية بفعلها, وكذلك إيجاد فرص العمل للحد من البطالة, والتأمين على العمال, ومنح التقاعد المعاشي, وتأمين السكن, حتى تحول بذلك دون اتجاههم نحو الشيوعية وتبنيّ عقيدتها. وقد ساعد على تطبيق هذه الإصلاحات الاجتماعية التطور الصناعي الكبير لهذه الدول, وتحققَّ بفضل إنتاجها الكبير فائضٌ اقتصاديٌ كبير وقيمٌ مضافة عالية في الصناعة التحويلية والخدمات المتطورة، لتتمكن من أن تقتطع جزءاً معتبراً من هذا الفائض، بغية صرفه في مفاصل وحلقات التنمية الاجتماعية.
    ثانياً- المبادئ الأساسية لاقتصاد السوق الاجتماعي
    معلوم للجميع، أن مختلف مجالات الحياة الفردية لا يمكن أن تنعزل عن بعضها، ولا يمكن صياغتها وفق مبادئ وقواعد متناقضة، لأنَّ تشابك وتداخل النظام العام، يفترض التنسيق بين مختلف أجزائه وعناصره المكوّنة له، والتي يمكن أن تعمل عملها، فيما إذا تم صياغة مجمل مبادئ وقواعد هذا النظام، بشكلها المتكامل مع بعضها البعض. وهذه الوحدة المتكاملة لقواعد ومبادئ النظام الاجتماعي، تعكسُ معاييرَ حرية الفرد، التي يجب أن تصان في جميع مجالات الوجود الإنساني في ظل شروط الندرة الاقتصادية الطبيعية، واختلاف المصالح الداخلية الموجودة في كل مجتمع. ويعتبر البعضُ أن نهج (اقتصاد السوق الاجتماعي) ينطلق من هذا التداخل والاندماج بين مختلف مجالات الحياة وأجزاء النظام العام، حيث تحتل مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والضمانات والخدمات الاجتماعية، المرتبة الأولى من سّلم الاهتمامات, وبالتالي فهو من حيث الجوهر محاولة للجمع بين قوانين الاقتصاد الحر ومبادئ تتعلق بالجانب الاجتماعي. مما سبق نستنتج أن أساسيات اقتصاد السوق الاجتماعي هي:
    1-بناء نظام أسعار فعال للسلع والخدمات وأسواق المال .
    2-سياسة نقدية تتأسس على استقرار قيمة النقد .
    3-ضمان حرية التعامل والنفاذ إلى الأسواق .
    4-حرية تملك وسائل الإنتاج  .
    5-مبدأ الالتزام والمسؤولية المتكاملة لمالكي وسائل الإنتاج عن ملكيتهم .
    6-حرية التعاقد.
    7-ثبات واستقرار السياسة الاقتصادية.
    انطلاقاً من هذه المبادئ التأسيسية في أعلاه، تشتق مبادئ ناظمة، وقواعد تحدد السياسة الاقتصادية للدولة وتعمل بموجبها، وتبني سياسة فاعلة على مستوى دعم الصناعة، وتطوير التقانة، والبنية التحتية للاقتصاد والمجتمع, وتبنيّ سياسة اجتماعية شاملة، من أجل تضييق فجوة التفاوت الاجتماعية وتخفيضها، تدريجياً، من خلال:
    1-المراقبة المستمرة للاحتكارات. 
    2-السياسة البناءة للدخل لإعادة توزيعه وتصحيح اختلالاته تلقائياً عبر السوق. 
    3-المحاسبة الاقتصادية وفقاً لمبدأ الأسباب.
    ثالثاً- مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي:
    يرتكز مفهومُ اقتصاد السوق الاجتماعي على محورين اقتصادي واجتماعي, ويقوم على التوازن بين نظام السوق القائم على التفاعل بين العرض والطلب ومبدأ المنافسة وتحقيق الربح من جهة, ونظام الرفاه والتنمية الاجتماعية باعتبارها غاية النشاط الاقتصادي والاجتماعي والأداة المثلى لتحقيقه في الوقت نفسه من جهة أخرى, أي أن نظام اقتصاد السوق الاجتماعي يهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي في إطار السوق، وإلى تحقيق التنمية الاجتماعية في آن واحد. ولتوضيح هذا المفهوم بشكل أوسع نطرح بعض الأسئلة الهامة:
    -ما هو الفرق بين اقتصاد السوق واقتصاد السوق الاجتماعي؟ 
    -ما هو دور الدولة الاقتصادي ودورها الاجتماعي في اقتصاد السوق الاجتماعي؟ 
    -هل نظام اقتصاد السوق الاجتماعي قابل للتحقق ببعديه الاقتصادي والاجتماعي؟ وكيف تتم الموازنة بين البعدين؟
    -ما هي آليات اقتصاد السوق الاجتماعي؟
    الفرق بين اقتصاد السوق واقتصاد السوق الاجتماعي
    عُرّف اقتصادُ السوق بأنه تشكيلة اجتماعية تولي دوراً أساسياً لقوانين السوق القائمة على العرض والطلب، وهذه التشكيلة تتأقلم مع قوانين السوق إذا كانت جيدة وتحاول تعديلها إذا كانت سيئة. ‏فاقتصاد السوق هو الاقتصاد الذي يلعب السوق فيه دوراً أساسياً وفقاً لرغبات الفاعلين فيه، وليس من الضروري أن يلتقي المتعاملون في مكان جغرافي محدد، لكن من الضرورة التقاء الرغبات لتتشكل الأسواق، فالسوق هو آلية مدروسة تقوم بتنسيق عمل الناس والأنشطة الاقتصادية من خلال تلاقي قوى العرض والطلب، وتتحدد بذلك الأسعار، ولقد وضعت خمسة مبادئ لاقتصاد السوق، وهي على الشكل الآتي:
    1.الحد من تدخل الحكومات في قوانين السوق .
    2.التزام الشركات في سلوكها الاقتصادي بقواعد العرض والطلب .
    3.الاعتماد في التسعير على أساس عوامل الإنتاج .
    4.السعي للعمل ضمن بيئة تجارية بعيدة عن الدعم والإغراق .
    5.اعتماد أسلوب التسعير الكامل للمنتجات .
    أما مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي، فقد ظهر في فترة ما بين الحربين العالميتين، والهدف منه هو التوفيق بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية من خلال التركيز على ثلاثة محاور أساسية:
    الأساس الأول- تدخل الدولة عندما تعجز آلياتُ السوق عن تأدية دورها، فجوهر اقتصاد السوق الاجتماعي هو( تدخـّل الدولة لتوجيه بعض الإنفاق والاستثمار لتلبية الاحتياجات الاجتماعية وتقليل الفروقات الطبقية وضمان الاستقرار الاجتماعي باعتباره الأساس المادي للانطلاقة الاقتصادية), وهو يقوم على فكرة التفاعل بين الأسواق وحركتها, والدولة وتوجـّهاتها, لاسيما أنّ السعر لا يعبـّر دائماً عن القيمة في ظلّ عدم مراقبة الأسواق. فإذا زاد العرضُ قلّ السعر والعكس صحيح، لذا تسعى الدولة متمثـّلة بالحكومة للتدخّل من أجل إعادة التوازن سواء من خلال القوانين والأنظمة أو من خلال قدرتها الإنتاجية والتسويقية، ولـكن يجب أن تكون درجة التحكم والتدخّل مدروسـة بدقـة ومراعية لاقـتصاد الـسوق بأشـكاله وأنواعه المختلفة ‏(سوق البضائع، سوق الرساميل، سوق قوة العمل) والمطالبة بتحرير أي منها يتطلـّب تحريرها جميعاً. أي أن اقتصاد السوق الاجتماعي يعتمد على التخطيط لصالح المجتمع ككُل.
    الأساس الثاني- خلق نوع من تكافؤ الفرص بين الهيئات والفعاليات الاقتصادية المختلفة والحد من القدرة ليس فقط على الاحتكار، بل وأيضاً الحد من سيطرة أقليات على مقاليد الأمور الاقتصادية والاجتناعية.
    الأساس الثالث- المنافسة أي ضرب الاحتكار من أي مصدر كان، لأن الاحتكار دائماً يؤدي إلى الركود ويعطلّ إمكانية استخدام كل الطاقات الكامنة. ‏
    ومن خلال المقارنة السابقة بين اقتصاد السوق واقتصاد السوق الاجتماعي، نجد أن الاجتماعي هي صفة تطلق على اقتصاد السوق الحر عندما يصل إلى مرحلة متقدمة من الرقي والتطور, وبعد إن تبدأ حصيلة العملية الإنتاجية تذهب أكثر فأكثر إلى رعاية الشركاء فيها من العمال والموظفين وذوي الدخل المحدود، وبالتالي فإن اقتصاد السوق الاجتماعي هو آلية ضبط أعلى مرتبة من اقتصاد السوق, وهي آلية ضبط معرفية تنظيمية، على أن تقوم بها سلطة الدولة وترتكز على المجالس العلمية، وهي بهذا المعنى ترسم تراتبية بين آليات الضبط السوقية وآليات الضبط التنظيمية, مع إعطاء أولوية للثانية كإطار للأولى. وعليه تبدو مسألة تراتبية مرجعيات الضبط مسألة ثابتة, وهذا يعني أن اقتصاد السوق الاجتماعي يتميز بإعادة تشكيل العلاقة بين المنافسة والتضامن، وبين اقتصاد السوق والعدالة الاجتماعية، وهو فكرة لنظام سياسي يهدف إلى تأكيد تحققه من خلال ربط المبادرة الفردية الحرة بالتقدم الاجتماعي، ومن خلال أداء اقتصاد السوق العام، وعلى قاعدة وأساس اقتصاد المنافسة.
    وهنا, يمكن الإشارة إلى أن هناك مَن يقولُ: ما هي ضرورات تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي في ظل نظام الصراعات؟ أليس هناك العديد من الدول التي أخذت باقتصاد السوق وحققت الكثير من التقدم الاقتصادي والاجتماعي؟. ألا يحدّ تدخل الدولة من النشاط الاقتصادي؟. والحقيقة أن الفكر الاقتصادي الجديد ينطلق من فرضية أن السوق آلية مثلى للعمل الاقتصادي، وإن تحقيق التقدم الاقتصادي يكون بتفعيل اقتصاد السوق ووقف تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. إلا أن هذه الفرضية ليست صحيحة، فحتى في الدول المتقدمة اقتصادياً كان دور الدولة فيها كبيراً كما في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا والصين وحتى في أمريكا. فالقول أن اقتصاد السوق يعني عدم تدخل الدولة مقولة غير صحيحة وغير عملية، لأنها تتناقض مع الواقع التاريخي. لذلك فإن إطلاق العنان لقوى السوق سوف يؤدي إلى المزيد من الاحتكار والفوضى, وبالتالي اتساع دائرة الفقر وزيادة الفروق في الثروة والدخول, وحتى إذا أمكن تحقيق مستوى عالي من النمو الاقتصادي، فإن ذلك سوف يجري لمصلحة فئة معينة ويؤدي إلى زيادة فقر الفقراء وزيادة ثراء الأغنياء, في حين أن هدف اقتصاد السوق الاجتماعي هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة التي لا يمكن تحقيقها ألا بدور فاعل ومتوازن للدولة في الاقتصاد والمجتمع.


    دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في اقتصاد السوق الاجتماعي 
    حتى الآن يحمّل البعضُ انخفاض الفعالية الاقتصادية لنشاط الدولة لأعبائها الاجتماعية، والواقع أن العبء الاجتماعي هو دور وواجب للدولة، لا مبرر لوجودها دونه في العالم المعاصر، ولكن السؤال: كيف يجب ممارسة هذا الدور؟.. إن رفع الفعالية الاقتصادية على مستوى المنشأة عبر القضاء على النهب والفساد والهدر، يؤمن الفوائض الضرورية لممارسة الدولة لدورها الاجتماعي في التعليم والصحة والثقافة.. الخ، التي هي مجالات للاستثمار البعيد المدى وليست استهلاكاً لا تقوى الدولة عليه. فاقتصاد السوق الحر بطبيعته يجنح للربح متناسياً الجانب الاجتماعي لتطور المجتمع، وقد جنح الكثيرُ من الدول حتى الرأسمالية منها لاعتماد دور سُميّ بالاجتماعي لتخفيف وطأة استغلال القطاع الخاص، بأن عملت على تقوية قطاعها العام في المشاريع التنموية ذات الطابع الاجتماعي، مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية والخدمات والمرافق العامة. كما فرضت ضرائب مختلفة لسد حاجة الإنفاق على هذه المجالات، تلافياً لتآكل الطبقات الوسطى وتزايد أعداد الفقراء وهبوط المزيد منهم تحت خط الفقر, فالدولة هنا هي الضامنة مقابل القطاع الرأسمالي. وفي الحقيقة الجميع يعتمد على الأسواق لتحقيق بعض الأهداف, ولكن يسند إلى الدولة بعض الأدوار تكون بطبيعتها اجتماعية, مع ملاحظة إن ارتباط الدولة بالسوق يختلف من بلد لآخر. 
    إذن يجب على الدولة التوفيق بين المتناقضين: السوق القائمة على التنافس والربح والمؤدية إلى استقطاب الدخل والثروة, والنظام الاجتماعي القائم على تحكم المجتمع في السوق, وضبط آلياتها آلياً, وتصحيح تشوهاتها اقتصاديا, وإعادة توزيع الدخول, وتخصيص حصة مطلوبة ومتزايدة معاً من الفائض أو الناتج الاقتصادي للرعاية والتنمية الاجتماعية, ويعتبر ذلك مهمة تاريخية انتقالية مطروحة في نظام العولمة بأسره, في بلدانه المتطورة والنامية. و حتى يتحقق هذا النظام "اقتصاد السوق الاجتماعي", يجب أن تتطور الدولة باتجاه تنموي وعلى أساس ديمقراطي, بحيث يعد المبدأ الجوهري المؤسس للديمقراطية بكافة أشكالها هو اكتساب السلطة لشرعيتها من خلال تعبير الشعب الحر عن إرادته، ومن ثم فإن تعزيز الديمقراطية أمر لا غنى عنه لتحقيق اقتصاد السوق الاجتماعي, كما يجب على الدولة أن تجمع بين التحفيز والتنسيق والتوليف على أساس التضامن الوطني والتوازن في المصالح والتوافق في السياسات, والتناسب الحركي بين الأسعار والخدمات الاجتماعية.
    وعلى هذا الأساس، يعتبر اقتصاد السوق الاجتماعي مفهوما ذا بعدين: اقتصادي يقوم على دمج قائم على الموازنة المتجددة بين نظام السوق المبني على التفاعل المتجدد بين العرض والطلب, وعلى مبدأ المنافسة واستهداف الربح من جهة, ونظام الرفاه والتنمية الاجتماعية باعتبارها غاية النشاط الاقتصادي والاجتماعي والأداة المثلى لتحقيقه في الوقت نفسه من جهة أخرى. لذلك فاقتصاد السوق الاجتماعي نظام يحتمل الوجهين, التوازن الحركي بين النمو الاقتصادي في إطار السوق وعلى أساس المنافسة والربح والتفاوت المتعاظم في الدخول والثروات وغلبة الأرباح على الأجور من جهة, ورفع الأجور وزيادة المزايا والرفاهية الاجتماعية وتنمية القوى البشرية وتحقيق التنمية الاجتماعية من جهة أخرى. هذا التوازن الحركي بين المتناقضين المتكاملين في نظام السوق الاجتماعي، أي الربح الفردي والتنمية الاجتماعية, يتعرض لصعوبات وضغوط خارجية وداخلية معاً, تتمثل الضغوط الخارجية بنظام العولمة الرأسمالية الراهنة وهيمنة السوق الصارمة والمنافسة الضارية عليها وفعل قواها العالمية والإقليمية, وتجلياتها التجارية والمالية والتكنولوجية, وتتمثل الضغوط الداخلية بمستوى التطور والتطوير في مجالات التكنولوجيا والصناعة والإنتاج والتصدير, ومستوى الإنتاجية, وإنتاجية العمل المترتبة عليها مصداقية الدولة فيما يخص الرعاية والتنمية الاجتماعية وقدرتها على تحقيقهما وتطويرهما المستمر, والمتعلقة أيضا بالمعطيات السياسية وعمق الديمقراطية وفعالية تعديلها وتداولها والمعطيات النقابية والمهنية, وكفاءة الحوار الاجتماعي ونظامه التعاقدي والتفاوضي, وإدارة السلمّ المتحرك للأجور من خلاله. أما آليات اقتصاد السوق الاجتماعي فتتمثل بالفقرات الآتية:
    1-آليات تسعيرية حرة.
    2-حرية دخول الرساميل وخروجها.
    3-حرية أسواق العمل. 
    4-آلية العرض والطلب حرة.
    5-تدعيم قطاع الدولة الاقتصادي.
    6-سياسة دعم الفئات الفقيرة (الدولة الراعية).
    7-دور الدولة يتلخص في التدخل الرشيد لصالح المجتمع، لخلق التوازن بين العرض والطلب، ومكافحة الاحتكار، والحد من التضخم وارتفاع الأسعار، وتخفيض نسبة البطالة، وتعزيز الاستثمارات التنموية. 
    واعتماداً على المقدمات السابقة، نجد أن اقتصاد السوق الاجتماعي ليس بدعة جديدة، بل هو مفهوم قديم أبصر النور في جمهورية ألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وما لحق بألمانيا من خراب ودمار من جراء الحرب، ويهدف إلى التوفيق بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية, وأظهر في التجربة أنه قادر على أن يلبي بنجاح متطلبات مجموعة تعيش تحولات اقتصادية عميقة وتواجه مطالب اجتماعية شتى. مع أهمية الاشارة الى أن التطبيقات التفصيلية لاقتصاد السوق الاجتماعي تتباين بين بلد وآخر، ففي اليابان جرى التركيز على التزام الشركات الخاصة بتثبيت العاملين والمستخدمين فيها مدى الحياة، وفي ألمانيا اتخذ شكلاً آخر لتدخل الدولة حيث رعى التوجه من قبل الشركات الخاصة لتبني الإدارة المشتركة، أو المسؤولية المشتركة، وتأمين تفاهم أرباب العمل مع النقابات بشأن سياسة الأجور. وبرهنت التجاربُ على أن هذه الصيغة ملائمة للمنافسة، كما أنها أولت التدريب المهني أهمية خاصة لأنه يخدم مصالحها ومتطلباتها بالدرجة الأولى. لذلك فاقتصاد السوق الاجتماعي يرتكز على نقطتين أساسيتين وأربع مسلمات:
    النقطة الأولى: تدخلّ الدولة من أجل تصحيح آثار قوانين السوق الرأسمالية، وذلك من خلال التدخل في توزيع الدخل والحد من استغلال القوى العاملة, وكذلك من أجل ضمان الحقوق الاجتماعية للفئات الأجيرة والوسطى والدنيا. والنقطة الثانية: المساومة الاجتماعية بين رأس المال والطبقة العاملة من خلال التعامل مع منظمات ونقابات عمالية قوية, لكن هذه المساومة تراجعت عن النهج الثوري لصالح النهج الإصلاحي. 
    أما  المسلمات فهي: ‏
    الأولى: "دولة الخير العام" أي تحويل الدولة إلى دولة اجتماعية تكون بمثابة حارس الحماية الاجتماعية والتفاوض الحر مع الشركاء الاجتماعيين الآخرين.
    الثانية: تكريس وتفعيل المشاركة في القرار والإدارة. ‏
    الثالثة: جعل الإدارة النقدية ركيزة قائمة بذاتها لضمان الاستقرار. ‏
    الرابعة: رفض أي تدخل وتوجيه اقتصادي من قبل الدولة في حال ترتبَّ على هذا التوجيه تشويه وتعطيل للمنافسة وعدم احترام تكافؤ الفرص وتساوي ظروف المنافسة أمام المشروعات. 
    مما سبق يمكن أن يعرفَّ اقتصاد السوق الاجتماعي بأنه "تنمية اقتصادية تستخدم لتحقيقها آليات السوق وقواعدها مع إخضاعها المستمر وفي الوقت نفسه للتصحيح والتصويب والترشيد حتى تتطابق مع التنمية الاجتماعية وأهدافها ومتطلباتها".‏ والبعض يعرّفه بأنه "اقتصاد السوق (الحر) والذي تتدخل الدولة فيه لمعالجة حالات فشل السوق" وهو مفهوم تروّج له المؤسسات المالية الدولية بعد حالات الفشل الذريع لبرامج التكييف الهيكلي وتنامي حركات الاحتجاج الاجتماعي في الدول التي طبقت هذه البرامج. وأكثر التعاريف وضوحا تلك القائلة بأنه "التحولّ إلى آليات السوق مع تجاوز الانعكاسات الاجتماعية السلبية لهذا التحول, وخاصة ما يتعلق منها بعمليات الإفقار والتهميش والبطالة". ويرى آخرون أنه "تشكيلة اجتماعية تعطي أهمية أساسية لقوانين السوق القائمة على العرض والطلب, وهذه التشكيلة تتأقلم مع قوانين السوق إذا كانت جيدة وتحاول تعديلها إذا كانت سيئة". ويمكن أن ندمج التعاريف السابقة في تعريف شامل يبين مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي على أنه نظام اقتصادي يقوم على أساس تدخل الدولة المتوازن في الحياة الاقتصادية بما يضمن حرية السوق من جهة, والعدالة الاجتماعية من جهةٍ ثانية, والحرية والديمقراطية السياسية والاقتصادية من جهة ثالثة.
    نتائج التحليل والتطبيق لاقتصاد السوق الاجتماعي
    أولاً- اقتصادُ السوق الاجتماعي يحتوي على دور مختلف للدولة، وهذا لا يعني أن الدولة ليس لها دور, ولكن دورها مختلف عما هو عليه الحال في الاقتصاد التعددي، فهو راعِ فقط للقضايا الاجتماعية، وموجّه لمسارات العملية الإنتاجية ونواحي التنمية البشرية والتكنولوجية، كما أنه يعّد أداةً لمحاربة الفساد، وإعادة تدريب القوى العاملة وتأهيلها لمشاريع استثمارية جديدة عن طريق التدريب التمويلي، بدلاً من تسريحها تعسفياً بصفتها أحد أسباب الركود والخسارة، إلى جانب استمرار دور الدولة في مراقبة آليات السوق والتدخل عندما يعجز الاقتصاد الحر عن تأدية مهمته بما في ذلك تسوية المشكلات الاجتماعية والانحياز لتحقيق مكاسب للطبقة العاملة. 
    ثانيا- اقتصادُ السوق الاجتماعي هو اقتصاد توافقي, حيث إنه يجمعُ بين نقيضين هما: عدالة اجتماعية أكبر وفعالية اقتصادية أكثر، وهذا يتطلب سياسة اقتصادية واضحة ومرنة تنطلق من مصلحة المواطن، وجوهر اقتصاد السوق الاجتماعي هو محاولة للجمع بين قوانين الاقتصاد الحر، كما عرَّفتها الرأسمالية، وبين مبادئ تناقضها ومن ثمَّ تتعلق بالجانب الاجتماعي في النظام الاشتراكي، حيث تحتل مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والضمانات الصحية والتعليمية المرتبة الأولى في سلمّ الاهتمامات. 
    ثالثاً- لفظ الاجتماعي المرتبطة باقتصاد السوق الاجتماعي، تعني عند (الألمان) التعويض ضد البطالة والتأمينات الصحية وبرامج التشغيل "التأهيل الحكومية"، إلا أنها قد تعني في معظم الاقتصاديات العربية البيروقراطية دون مراعاة للجانب الاقتصادي منها، تمويهاً لأشكال الضبط البيروقراطية للسوق والاحتكار السلطوي للفساد والنهب. 
    رابعاً- إن نجاح تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي في تحقيق النمو الاقتصادي مرهون ببعض الشروط لتحقيق التوازن المطلوب، فمعظم الاقتصاديات العربية تعاني انخفاض معدل النمو الاقتصادي، وازدياد معدلات البطالة، ومعدل النمو السكاني، ومن ثمَّ انخفاض مستوى الدخل القومي والدخل الفردي، وسوء توزيع الثروة، والفساد، والبيروقراطية، وتردي الواقع الخدمي, مما يعزز الحاجة الماسة للتطبيق.
    ووفقاً للتصورات المطروحة، نرى ضرورة سن قانون يتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، يأخذ بعين الاعتبار مفهوم اللامركزية الاقتصادية والذي يضمن مشاركة اجتماعية واقتصادية أفضل للجماعات والأفراد الذين يواجهون عقبات مختلفة للوصول إلى سوق العمل والسلع والخدمات التي ينتجها الاقتصاد التقليدي. ولا نشك في أن القانون الخاص بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني من شأنه أن يعمل على إيجاد طرق لتمكين الفئات المهمّشة، مثل النساء في المناطق الريفية والأشخاص ذوي الإعاقة. وبالتالي، يلعبُ الاقتصادُ الاجتماعي والتضامني دورا في تعزيز الإدماج الاجتماعي للناس، من خلال توفير النفاذ المستدام إلى سوق العمل، إضافة إلى التعليم والصحة والسكن. مع الاشارة الى أن الاستبعاد من سوق العمل يعرّض الافراد للفقر المدقع، وتدني جودة الحياة، وضعف الثقة في النفس، وتهديد الكرامة الإنسانية. لذلك تمثل المشاركة النشطة للأشخاص المهمّشين في تنظيمات الاقتصاد الاجتماعي، خطوة رئيسية في مكافحة الاستبعاد الاجتماعي وتحقيق مستوى معيشي لائق. 
    علاوة على كل ذلك، يتعين على الحكومات اتخاذ جميع التدابير اللازمة بسرعة واعتماد نهج وطني قائم على البرامج المستهدفة لدعم التكامل الاجتماعي والاقتصادي للفئات المهّمشة من ناحية، ومن ناحية أخرى، يتعين إنشاءُ حوافز ضريبية لتشجيع الجهات الفاعلة الخاصة، على الاستثمار في الاقتصاد الاجتماعي والتضامن. علاوة على ذلك، يجب على الجهات المعنية إنشاء الإطار المؤسساتي اللازم وإنشاء التسهيلات الإدارية بغرض الحصول على التراخيص وفتح الحسابات المصرفية، وتقديم المزيد من الدعم لنظام تمويل المشاريع الصغرى. ولا ريب في أن هذه التدابير تجذبُ الاشخاص المنخرطين في الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي، وتمكنها من تنفيذ مشاريع صغيرة أو متوسطة بطريقة منظمة، الى جانب جذب أكبر عدد ممكن من المواطنين، وضمان آليات التدريب والتعلم المناسبة لهم. 
    أخيرًا، ولتعزيز التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، يجب على السلطات إطلاق مبادرات لتسهيل إنشاء ونمو مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، إذ غالبًا ما تكون هذه المؤسسات هي الخيار الوحيد للمجتمعات المهّمشة، حيث يميل المستثمرون من القطاع الخاص إلى التخلي عنها لأسواق أكثر ربحية أو مناطق أقل نائية. فضلاً على ذلك، يمكن للمؤسسات الاجتماعية دعم واستكمال تدابير السياسة العامة والمساهمة في تماسك المجتمع أثناء التحولات الهشة، لأنها أعمال متميزة ذات قيمة مضافة حقيقية، اضافة الى زيادة الفوائد المالية، وتطوير مشاريع اجتماعية ذات معنى، وتشكيل الشبكات وعمليات التخطيط الاستراتيجي، من خلال تحفيز المناقشات بين صناع القرار والمواطنين، وكذلك وسائل تحسين روافد الحياة، وتوسيع الوصول إلى المعلومات والخدمات، وتشجيع مجتمع أكثر عدلاً وتوازنًا اجتماعيًا. 
    اذن... يمكن للاقتصاد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، أن يلعبا دوراً هاماً في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية المستقبلية للبلد، خاصةً عندما تكون البداية صحيحة، ويتم تقديم الفوائد والنتائج المقصودة، بشكل صحيح، للشرائح الاجتماعية قاطبة، نظرًا لأن الاقتصاد الاجتماعي القائم على التضامن يشجع العدالة الاجتماعية، باعتباره حلقة مهمة يمكّن المستبعدين من التشاركية، ومن سماع أصواتهم، ويسمح بالتوزيع العادل للثروة، ويعزز وصول الجميع إلى الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها التعليم والصحة والاستقرار والأمان والعيش المحمود.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media