القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون (القسم الثاني)
    الجمعة 16 أبريل / نيسان 2021 - 14:25
    د. حسن الياسري
    رئيس هيئة النزاهة الأسبق
    القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون
    في المحكمة الاتحادية العليا
    - دراسةٌ دستوريةٌ تأصيليةٌ معززةٌ بتجارب المحاكم الدستورية في العالم -
    سلسلةٌ من أقسامٍ خمسةٍ

    القسم الثاني

    التفسير الدستوري لإطلاق وصف (الخبراء)
    على ممثلي الفقه الإسلامي في المحكمة الاتحادية العليا

      ١٣ نيسان ٢٠٢١
               بغداد

      كنَّا قد تحدثنا في القسم الأول -بأجزائه الثلاثة- عن الحجَّة الأولى التي استند إليها القائلون بعدم جواز دخول فقهاء القانون وخبراء الفقه الإسلامي في المحكمة الاتحادية العليا، وهي المتعلقة بإطلاق الدستور اسم (المحكمة) عليها. وقد أثبتنا بالأدلة الدستورية -الدولية والمحلية- عدم صحة هذه الحجَّة وسقوطها في الاستدلال. واليوم سنتطرق لبحث الحجَّة الثانية.  

    ثانياً: الحُجَّة الثانية :

     استعمال الدستور مصطلح أو وصف(خبراء الفقه الاسلامي) :

      يدَّعي البعض أنَّ استعمال الدستور مصطلح (خبراء الفقه الاسلامي)على ممثلي الفقه الإسلامي في المحكمة الاتحادية العليا يدلُّ على أنهم ليسوا أعضاءً أصيلين في المحكمة، بل هم مجرد خبراء فنيِّين أو مستشارين. وفي الحقيقة إذا كان بعض المتذرِّعين بالحجَّة الأولى -المذكورة آنفاً- مقتنعين بحجتهم ، فإني أحسبُ أنَّ المتذرِّعين بالحجة الثانية ليسوا مقتنعين بها في داخل أنفسهم ؛ لسذاجتها وسطحيتها !! 

    مناقشة هذه الحجَّة :

       بادئ ذي بدء لا بدَّ من التنويه مجدداً بأنَّ مرام الدراسة يكمن في الردِّ على مَنْ يقول إنَّ الدستور في المادة (٩٢) لم يقبل بدخول فقهاء القانون وخبراء الفقه الإسلامي في المحكمة الاتحادية العليا بوصفهم أعضاء أصلاء ،بل بوصفهم مستشارين وخبراء فنيِّين. وفي الوقت الذي نحترم فيه الرأي الشخصي مهما كان، مادام رأياً شخصياً مجرَّداً ؛ بيد أننا لا نقبل أن يتمَّ القفز على الدستور ، وتأويله بحسب الأهواء والرغبات، والادعاء عليه بما ليس فيه ؛ وعليه فالردُّ هو على هذا الاتجاه ، وليس على الرأي المجرَّد. مع الإشارة بأنَّ ردنا لا يُمثِّلُ ميلاً لطرفٍ على آخر، أو مجرَّد تبنٍِّ لرأيٍّ شخصيٍّ ، بل هو إيضاحٌ للرأي العام حول موقف الدستور الحقيقي الذي تلاعب به الذين لا يعلمون !! ومنوهين أيضاً بأنَّ ردنا يقتصرُ على الأبعاد الدستورية فحسب، ولا علاقة له بالطروحات السياسية المتعلقة بالموضوع، كأنْ يقول أحدٌ إنَّ دخول هؤلاء الخبراء سيحول البلد إلى دولةٍ دينيةٍ مثلاً، إذ يعدُّ هذا الطرح سياسياً ولا علاقة له بالدستور. وعلى الرغم من عدم صحة هذه المقولة من أساسها، وعدم معرفة قائليها بالفروقات بين الدولة الدينية والدولة المدنية من الناحية الدستورية، بيد أننا سنقتصرُ على بيان حكم الدستور ولا شأن لنا بالطروحات السياسية في هذه الدراسة. وربما تسنح فرصةٌ أخرى للحديث عن ذلك.

    وعموماً ،يمكن القول -بصدد الحجَّة الثانية- بكل صراحةٍ إنَّ هذه الحجَّة أهونُ من بيت العنكبوت، وهي لا تصدر عن متخصِّصين بطبيعة الحال. وإنَّ الدستور والقانون يرفضانها البتة. ودونكم الأدلة : 

    1ـ ما سنعرضه لاحقاً من أدلةٍ كثيرةٍ مستقاةٍ من الدستور تتعلق بالأدلة التي نستند إليها. وبإيجازٍ نقول -على أمل أن نستكمل العرض التفصيلي لاحقاً في القسم الثالث- إنَّ الدستور كان واضحاً في صياغته حينما قال : ((تتكون المحكمة الاتحادية من عددٍ من القضاة، وخبراء الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون..)) ؛ لأنَّه استعمل مصطلح أو مفردة  (تتكون) في العديد من النصوص، التي تدلُّ على المساواة في التأليف. وبحسب صياغة النص فتوليفة المحكمة هي ثلاثيةٌ على قدم المساواة. ولو كان المراد منهم مجرد مستشارين لما حصل ذلك الخلاف الحاد بين أعضاء لجنة كتابة الدستور على إدخال هؤلاء في المحكمة من عدمه ؛ الأمر الذي أفضى إلى حصول بعض التنازلات من بعض الأطراف في سبيل تمرير النص، كما أدى إلى اتفاقهم في وقتها على ضرورة سنِّ القانون المتعلق بالمحكمة بأغلبية الثلثين ، خلافاً لكل النصوص الأخرى. إذ لو كان المراد منهم مجرَّد خبراء فنيِّين فعلامَ هذه الأغلبية المعقدة التي تسببت في فشل البرلمان في سنِّ هذا القانون لدوراتٍ أربع ،وعلامَ كل هذه الخلافات في وقتها ؟!!

     ثم إنَّ أية محكمة بإمكانها أن تستعين بالخبراء الفنيِّين دون حاجةٍ إلى نصٍ في القانون ، وفي الدستور من بابٍ أولى. فهل مثل هذا الأمر يحتاج نصاً صريحاً بكونهم أعضاءً أصيلين لكي تستطيع المحكمة استشارتهم !! وغير ذلك من الأدلة التي سنعرضها بالتفصيل في القسم الثالث إن شاء الله.

    2ـ ويبقى السؤال قائماً لدى المتابع المنصف :

      لماذا إذاً استعمل الدستور مصطلح (خبراء الفقه الإسلامي) مع أنه يقصد أنهم أعضاء أصيلون في المحكمة وليسوا مجرد مستشارين ؟ ألم يكن بالإمكان استعمال مصطلحاتٍ أخرى، مثل: "فقهاء الشريعة ، علماء الدين، رجال الدين، ونحو ذلك" ؟؟ وللإجابة عن هذا السؤال نورد الآتي : 

    أـ بدايةً نؤكدُ مرةً أخرى أنَّ من حقِّ الدستور ممثَّلاً بالسلطة التأسيسية، أن يستعمل المصطلح الذي يراه موافقاً للمصلحة. وهكذا تميل بعض الدساتير لاستعمال بعض المصطلحات الدستورية غير المتداولة أو غير المعروفة. فمثلاً إنَّ السلطة التنفيذية مصطلحٌ معروف في الدساتير، لكن الدستور اللبناني لم يستعمل هذا المصطلح المتعارف عليه، بل استعمل مصطلح (السلطة الإجرائية).وهكذا السلطة التشريعية، فهو مصطلحٌ معروف لا يحتاج تفسيراً، لكن بعض الدساتير العربية تُطلق على هذه السلطة مصطلح (السلطة الاشتراعية).كما أنَّ الدساتير تختلف في تسمية مجلس النواب (مجلس العموم ، المجلس الشعبي، الجمعية الوطنية ، المجلس الوطني..)، وفي تسمية المجلس الثاني (مجلس اللوردات، مجلس الشيوخ ، مجلس الأعيان ، مجلس الاتحاد ، مجلس الولايات ..). وأكثر من ذلك كله قلنا آنفاً إنَّ الوزير في أميركا هو (سكرتير)، ورئيس الوزراء هو المصطلح المتعارف عليه بين الدساتير والدول، لكن الدستور الألماني يصفه بـ(المستشار) -المادة 62 من الدستور الألماني لعام 1949-؟!!.

     وبناءً على هذا يكون من حقِّ الدستور أن يستعمل مصطلح(خبير الفقه الاسلامي) بدلاً من المصطلحات الأخرى ؛ لمصلحةٍ يراها هو ، فـ (لا مشاحة في الاصطلاح) . 

    ب ـ  ثم إنَّ السبب الأهم في استعمال هذا المصطلح يكمن في حساسية (الشيعة)؛ ذلك أنَّهم يُدقِّقون كثيراً في استعمال مصطلح (فقيه الشريعة الاسلامية)،إذْ يعني -من وجهة نظرهم-  أنْ يكون مرجعاً، أو مجتهداً في الأقل، له القدرة على الفتيا واستنباط الحكم الشرعي، فهذا هو الفقيه بحسب المنظور الشيعي. وما عداهما مِّمن كان أدنى مرتبةً فهم ليسوا بفقهاء، وإنْ حازوا مائة شهادة دكتوراه. وبهذا الوصف (مرجع أو مجتهد) لن يكون بالمقدور تحقيقه؛ ذلك لأنَّ فقهاء الشيعة يرفضون الدخول في مؤسسات الدولة التنفيذية وغيرها، وينحصر عملهم في الحوزة العلمية الشريفة ومراكز العلم -أؤكد أنَّ الحديث هو عن المرجع والمجتهد فحسب وليس عن أي معمَّمٍ بحساب الناس-.وليس الأمر هكذا في الفقه (السنِّي)، إذ ليس لديه هذه الحساسية في الدخول في مؤسسات الدولة المختلفة، كما هو معروف للجميع، كما أنه يتسامح -على مستوى العموم لا الكلية- في استعمال مصطلح (الفقيه).

      وعليه فإنَّ عدم دخول الشيعة في المحكمة يعني تعطيل النص؛ لذا بحثوا عن مصطلحٍ آخر غير مصطلح (الفقيه) ، فكان ثمة مصطلحان آخران :(علماء الدين) و (رجال الدين)، وكلاهما قد يعطيان انطباعاً مغايراً لما يريده المؤسِّسون، فضلاً عن حساسيتهما وما قد يُسبِّبانهِ من فهمٍ مغلوطٍ لدى الرأي العام ؛ فكان مصطلح (الخبير في الفقه الاسلامي) هو المصطلحُ الأوفق بالاستعمال، وبخاصةٍ إنَّ الدستور قد حدَّد معالم المصطلح ، إذ جَمعهُ مع فقهاء القانون والقضاة، فهو شخصٌ متبحرٌ في الفقه الاسلامي وإنْ لم يكن فقيهاً.

      وأكادُ أجزم أنْ لو استعمل الدستور مصطلحاً آخر ،كفقيه الشريعة الاسلامية مثلاً ، لما زال الخلاف ؛ لأنه ليس اختلافاً موضوعياً ينطلق من أسسٍ موضوعيةٍ ؛ وآية ذلك أنَّ الدستور أطلق وصفاً في غاية الاعتبار والقيمة على عضو المحكمة القانوني ، وهو (فقيهٌ قانوني). وإنا لنعلم أنَّ فقهاء القانون مصطلحٌ يعرفه حتى الأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وإنَّ هؤلاء الفقهاء لا يكادون يمثلون وسط آلاف القانونيِّين سوى القلة القليلة ، التي لا أبالغ إذا قلت إنها لا تتعدى أصابع اليدين. ومع هذه القيمة السامية لـ (فقهاء القانون ) التي تمثل أقصى ما يمكن أن يصل إليه القانوني في مسيرته (أستاذاً كان أو قاضياً أو محامياً أو حقوقياً)، ومع إطلاق الدستور عليهم وصف(فقهاء) وليس (خبراء ) ، ومع ذلك لم يبقَ أحدٌ من الذين خاضوا في الموضوع في وسائل الإعلام -من قضاةٍ ومحامين ومحللين..- إلا وقالوا إنهم مجرد خبراء فنيِّين ومستشارين ، وينبغي أن تقتصر المحكمة على القضاة فحسب ، وكأنهم لا يميزون بين الخبير الفني وفقيه القانون ، وكأننا لسنا في محكمةٍ دستوريةٍ بل في محكمة أحوال شخصية ونريد تحديد مهر المثل، بكل هذه السذاجة !!

    فإذا كانت صفة (فقيه القانون) لم تشفع ولم تُزِل الخلاف ، فكيف بـ (خبير الفقه الإسلامي)!! وكل هذا يدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّ القضية -كما ذكرتُ آنفاً - ليست مرتبطةً بالنصِّ وتفسيرهِ، بل بالأهواء والرغبات الشخصية. وليت شعري أي وضعٍ بائسٍ هذا الذي يعيشه البلد مع هذه الجعجعة !!!

    وتأسيساً على ما تقدَّم يتبيَّن بطلان هذه الحجَّة ، وأنْ لا أساس لها من الدستور والقانون ؛ استناداً لما ذكرنا في أعلاه ، وبلحاظ ما ذُكر آنفاً في الأجزاء المتقدمة ،فضلاً عمَّا سيُذكر لاحقاً في القسم الثالث.

      وبعد أن أبطلنا الحجَّتين اللتين يستند إليهما الفريق المعارض ، سنقوم في القسم الثالث إن شاء الله بعرض الأدلة الأخرى الساندة للرأي الذي طرحناه ، الداعم للدستور، والذاهب إلى أنَّ المحكمة هي توليفةٌ ثلاثيةٌ. وستلاحظون أنها أدلةٌ مستقاةٌ من الدستور ومن تجارب المحاكم الدستورية الدولية. 


     
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media