د. ميسون البياتي
يتشدق أردوغان دائماً أن سياسة بلاده هي سياسة مباديء لا سياسة مصالح . في هذا المقال سنثبت العكس . من المعلوم أن حكومة أردوغان تتصرف على أنها حكومه اسلاميه بتوجه إخواني , والأمر ليس صحيح , فالسلطان العثماني الجديد يتخذ من المظاهر الدينيه وسيله لتأسيس إمبراطوريته من جديد على حساب جيرانها بالتوسع على اراضيهم وولاء مواطنيهم , فاتحاً دياره محلاً لإقامة اخونجية المنطقه الهاربين من حكوماتهم , وبعضهم حتى دون وثائق رسميه , وفاتحاً لهم الإذاعات ليهاجموا بلدانهم وحكوماتهم وأمدهم بمختلف أنواع الدعم ليعودوا الى بلدانهم مقاتلين, وها هي دول الشرق الأوسط برمتها .. أي منها لم تصله طموحات السلطان صاحب المباديء والدين ؟ العراق , سوريا , لبنان , مصر , ليبيا , مشيخات الخليج أم أين ؟
ثم فجأة إنقلب السلطان على الإخوان فأغلق محطات بثهم وأمر بترحيلهم وجعلهم يتراكضون باحثين عن ملاجيء جديده , ولكي نفهم الموقف بتبرير معقول علينا النظر الى الموقف من ناحية مقدار خدمة هذا الإنقلاب لمصالح أردوغان التي تتعارض تماماً مع المباديءالتي يدّعيها
كلنا نتذكر موقف جو بايدن أثناء حملته الإنتخابيه وتوعده الإطاحه بمحمد بن سلمان بسبب مقتل خاشقجي أو على الأقل تحجيمه وإحاطته بعزلة تامه بسبب ضلوعه بجريمة نكراء مست شخصاً مقيماً على الأراضي الأمريكيه , بعد وصول بايدن الى البيت الأبيض بأيام معدودات صمت , ثم تغيرت نبرته من رفض محمد بن سلمان , الى الحديث عن العلاقات المشتركه بين بلاده والمملكه العربيه السعوديه , وهنا يكمن مربط الفرس كما يقولون
جمال خاشقجي وهو إخواني سعودي , كانت تربطه علاقه وثيقه مع الإخواني المصري أيمن نور رئيس حزب الغد وحزب غد الثوره , مقيم على الأراضي التركيه ويعتبر تقريباً رئيساً للجاليه الإخوانجيه المصريه المقيمه في تركيا عدد أفرادها يتجاوز 7 آلاف شخص
عند مقتل خاشقجي توجه أيمن نور ووثق شهادته في إحدى المحاكم التركيه عن فحوى حديث هاتفي دار بين خاشقجي ومساعد محمد بن سلمان المدعو سعود القحطاني , الحديث فيه تفاصيل كثيره وتهديد بالقتل تلقاه خاشقجي بما يبرهن أن محمد بن سلمان ضالع في عملية القتل وأنها لم تقع دون علمه وأمره
تلقف أردوغان هذه الشهاده , ونتذكر جميعاً كيف تعامل الإعلام التركي مع قضية خاشقجي وكأن السلطان العثماني هو ولي الدم , مهاجماً حتى الرئيس الأمريكي ترامب على تهاونه في إتخاذ موقف صارم ضد الجريمة البشعه التي هزت ضمير الإنسانيه , ومراهناً على موقف الرئيس المقبل بايدن وهو يتوعد بالإنقضاض على محمد بن سلمان حال وصوله الى البيت الأبيض
وصل بايدن الى البيت الأبيض وكان عليه تنفيذ وعوده الإنتخابيه , فتم فتح ملفات قضيه خاشقجي جميعها في السعوديه وتركيا والولايات المتحده وتم العثور على الشهاده ( الذكيه ) التي وثّقها أيمن نور في المحاكم التركيه لينتقم بها لصديقه القتيل من قاتليه , والتي ستؤدي في النهايه الى قلب الطاوله على رأس اخونجية مصر وطردهم من تركيا
بالتمعن بشهادة أيمن نور تم سؤال محمد بن سلمان ومساعديه عن سبب هذا الإمعان في القتل الذي تعرض له القتيل والسبب في خنقه وتقطيعه وحرقه وإخفاء ما تبقى منه , فكان الرد أن مجموعه من أمراء آل سعود كانوا قد وجهوا رساله الى الرئيس الأمريكي ترامب يعترضون فيها على تولي محمد بن سلمان عرش البلاد خلفاً لوالده , ونظراً لأن حساسية الموقف تمنعهم من إيصال الرساله بأنفسهم , قاموا بتسليمها الى جمال خاشقجي الذي سلمها بدوره الى إدارة البيت الأبيض
حال تسلم ترامب الرساله , سلمها بيد صهره كوشنر الذي لم يتوانَ عن ركوب طائرة حِمل تجاريه متوجهاً الى الرياض التي وصلها عند الرابعة صباحاً وهو يحمل رسالة الأمراء الى محمد بن سلمان الذي إستشاط غضباً فإعتقل أبناء عمومته في فندق الريتز تحت شعار الإصلاح ومحاسبة الفاسدين وأمر بقتل حامل رسالتهم الى البيت الأبيض , ولهذا اتصل به سعود القحطاني يهدده بأشد العقاب
عند تكشف علاقة ترامب وصهره كوشنر بعملية القتل أصبح الأمر أكثر تعقيداً , لأن فتح النار على محمد بن سلمان لا يمكن أن يتم دون فضح علاقة الرئيس السابق وصهره بالموضوع , ودون إتهامهما بتسريب أوراق رسميه سُلمت الى البيت الأبيض وأدى التسريب الى إلحاق جريمة نكراء بشخص مقيم على أراضي الولايات المتحده
الحق والإنسانيه وغيرها من الشعارات لا تهم أحداً حين تتهدد المصالح , الآن بايدن ينظر الى الأمر من زاوية الصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي , وأمن البلاد الداخلي الذي تهدد قبل أيام من قبل مناصرين للرئيس السابق وتوقع الأسوأ فيما لو تمت جرجرة الرئيس السابق الى المحاكم بتهمة الإخلال بما في عهدته من مستندات وما تبع ذلك , عندها قرر بايدن طي صفحة جمال خاشقجي والحديث عن المصالح المشتركه التي تربط واشنطون بالرياض
بوصولنا الى هذه النقطه أدرك السلطان العثماني أن الوضع في السعوديه والإمارات ( باقي ويتمدد ) لعشر سنوات مقبله على الأقل . وأردوغان الذي كان إعلامه قد وضع ( ما صنع الحدّاد ) على علاقته مع السعوديه أيام أزمة المرحوم خاشقجي , عليه أن يسترد علاقته معها ومع الإمارات الآن , لأن هذه العلاقه تعني مئات المليارات خلال عدة سنوات , فبدأ بالتقرب الى حكومة مصر لأنها ومن أجل مصالحها يمكن أن تفعل المستحيل , أدسم عطاء لن ترفضه الحكومه المصريه هو وقف دعم أخوانيها ودفعهم خارج تركيا , وهكذا كان . ثم وقعت المصالحه الخليجيه مع قطر لتتساعد قطر مع مصر في إعادة العلاقات التركيه السعوديه , قطر الإخوانيه أعلنت عدم رغبتها إحتضان الإخوان المطرودين من تركيا مراعاة لعدم إشعال الموقف مع مصر من جديد وكما حصل حين دعمت اخونجية مصر أيام حكم مرسي
متابعة الإعلام المصري وهو يتحدث عن حكمة وشجاعة وعظمة حكومته التي جعلت الحكومه التركيه تنقلب على الإخوان من أجل المحافظه على علاقات متينه بين البلدين ,لاتقبل الشك أنه اعلام لايمتلك أي بعد نظر لأن عليه التريث والإنتظار لحين انهاء مصر دور الوسيط بين تركيا والسعوديه والإمارات , فالصراع على النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط بين مصر وتركيا تحول الى صراع مسلح على الأراضي الليبيه , والطمع بالنفط والغاز ممكن جداً أن يعيد الإخوان الى تركيا بعدما أُخرجوا منها , كل شيء جائز في عالم يدّعي الديمقراطيه والإسلام والمبادي لكن التي تحكمه فعلاً هي : المصالح
د. ميسون البياتي