ألعراق وألطريق إلى ألتحضر.. ألجزء ألثاني: ألثورة ألتنويرية
    الخميس 27 مايو / أيار 2021 - 09:17
    د. غانم المحبوبي
    قبل ألخوض في تفاصيل ألطريق ألمؤدي إلى ألتحضر وكيفية بنائهِ ومتطلباته علينا أولاً أن نعرف ما معنى ألتحضر وما هيَ مقوماته، حتى يتسنى لنا أن نختار شكل ألتحضر ألمطلوب لأرض ألرافدين. أولاً، يجب أن نميز بين ألتحضر وألتمدن. فألتمدن هو ألتغير ألذي يُعْنى بألمعالم ألمنظورة لمجتمع ما وألتي بدورها تعكس للناظر روح ألعصر من عمران وإدارة وتكنولوجيا متطورة في مجالات ألحياة كافة. أما ألتحضر فهو ما يخص ألميزات ألغير منظورة للإنسان وليس ألمكان ألذي يحيط بألإنسان. أي ما يُعْنى بمستوى ألرقي في ألثقافة ألمجتمعية وألمبادىء ألإنسانية وألأخلاقية للمجتمع علاوة على ألمستوى ألعلمي وألتكنولوجي للفرد ألمواطن. لذلك يصح لنا ألقول أن ألتحضر هو أرقى مرحلة من ألتمدن، فكل مجتمع متحضر هو مجتمع متمدن وليس بألضرورة كل مجتمع متمدن هو متحضر.

    لو تجاوزنا سلسلة ألحضارات ألإنسانية ألقديمة، إن كانت قبل ألتأريخ أو في ألقرون ألوسطى وألتي كان للعراق فيها ألمشاركة وألأثر ألأكبر، بدأت ألثورة ألمعرفية وألعلمية في أوروبا في حوالي سنة ١٥٠٠م مؤسسةً لحضارة ألعولمة ألحالية (secularism). شملت هذه ألحضارة في بادىء ألأمر شعوب أوروبا قبل أن تَنتشر في جميع أنحاء ألعالم. خلال ألقرن ألماضي تأثرت شعوب ألعالم بهذا ألتغير ألحضاري ألكبير وتبايَنَ تجاوب هذه ألشعوب مع ألحضارة بشكل كبير جداً مما يدعو إلى ألتأمل. فبينما نرى شعوباً تَبنتْ ألحضارة ألجديدة بشكل كامل مما جعلها تنافس دول ألمنشأ ألأوروبي كأليابان وكوريا وروسيا وألصين، هناك شعوبٌ بقيت في سباتٍ ليس فقط خارج ألتحضر بل خارج ألتمدن، وخير مثال على ذلك ومع شديد ألأسف، جميع ألدول ألعربية بشكل عام وألعراق بشكل خاص. وإذا توقف ألأمر لحد ذلك لربما بقيَ لنا بصيص أملٍ في مواكبة ركب ألتحضر. ولكن ألتأمل ألجاد لما يجري ألآن من تغير جوهري في مختلف مجالات عالمنا في هذا ألقرن نلاحظ أن نتيجة لحاجات ألشعوب لتنمية وإدارة إقتصاداتها وسباقها ألمتواصل لطلب ألمعرفة وألعلوم وألتكنولوجيا وخصوصاً بعد ثورة ألإتصالات أدى بعالمنا ألكبير أن يصبح ما يُسمى بألقرية ألكونية. في هذه ألقرية، جميع سكانها ألمتحضرين يسعون ليل نهار ليدلوا بدلوهم نحو إقامة حضارة جديدة كونية ليس لها عرق أو لغة أو دين أو جغرافية أو حتى ثقافة مجتمعية خاصة لتحل محل ألحضارة ألحالية ألأوربية. وكمثال بسيط على ذلك هو لغة وطريقة إستعمال ألكومبيوتر. لذا يتوجب على كل شعب كألعراقي وألذي يتطلع لحيزٍ وإن كان صغيراً جداً في ركب ألحضارة ألكونية ألقادمة عليه أولاً أن يُقَيمَ نفسه حق تقيم، إستعداداً لثورة تنويرية جذرية وجريئة لإعادة ألنظر في ألتراث وألثقافة ألمجتمعية ألحالية. ثم يدرس مستلزمات ألتحضر ألمتوفرة في ألعراق، مقارنةً بتجارب ألشعوب ألمتحضرة ويتفهم قيم ألعصر كمواكبة ألعلم وألتفاعل ألإيجابي مع باقي ألأمم بمقياس إنساني واقعي حضاري.

    قد تختلف أشكال ومستويات ألحضارة من زمن إلى آخر، ولكن مستلزمات أو مُقَومات ألتحضر تبدوا هيَ نفسها وأول عامل فيها وأهمها هو ألإنسان. ليس ألمقصود بألإنسان هنا هو ألعرق أو ألدين أو أللون أو مكان ألتواجد بل ما يحملهُ  ألإنسان من معرفة وأخلاق ومبادىء إنسانية. إنْ توفرَ ذلك ألإنسان ذو ألمعرفة ومفاهيم زمننا ألمعاصر وألمناسبة للتحضر تأتي ألعوامل ألأخرى وألكثيرة لمساعدة هذا ألإنسان في ألتغير ألحضاري. ولغرض ألمثال بدون ألخوض في ألتفاصيل، تعتبر ألموارد ألطبيعية كألمياه وألأرض ألخصبة ومصادر ألطاقة وألموقع ألجغرافي وألمناخ كعوامل ضرورية للتحضر وألتطور بألإضافة إلى شعور ألإنسان بألأمن وألأمان. ولهذا نستطيع أن نستنتج أن ألعامل ألرئيسي ألمشترك لتأخر ألشعوب ألعربية وجميعها مسلمة عن ركب ألحضارة يجب أن يكمن في طبيعة ألإنسان ألعربي ألمسلم ومنه ألعراقي، لأن أغلب ألعوامل أو ألمقومات ألأخرى إن لم نقل جميعها متوفرة وخصوصاً في ألعراق. فإن قبلنا هذا ألإستنتاج فإن أول محطة على طريق ألتحضر للعراق هي، وأقولها للمرة ألثانية، ألحاجة إلى ثورة فكرية تنويرية مشابهة لما حصل في تجارب جميع ألشعوب ألمتحضرة كتجربة عصر ألنهضة في أوروبا أو ألثورة ألثقافية في ألصين أو ألثورة ألعلمانية في تركيا أو ألثورة ألشيوعية في روسيا وغيرها. نحتاج إلى مثل هذه ألنهضة ألتنويرية أولاً لتقييم أنفسنا وإعادة ألنظر في ألمفاهيم ألمجتمعية ألسائدة في ألعراق ومعالجتها بشكل جذري وجريء قبل ألثورة ألتعليمية وألتثقيفية للمجتمع. يقول ألدكتور حسين ألهنداوي(1) "لا نهضة ولا تحرر بل لا تحضر بدون حركة تنوير جريئة وحرة لا تُقَلد أحداً". وبصوتٍ أعلى يقول ألإمام علي (ع) "لا تعلموا أولادكم على طباعكم فإنهم مخلوقين لجيلٍ غير جيلكم"، وحسبنا قول ألله تعالى "إن ألله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم". وهذا يعني إننا بحاجة ماسة إلى ثورة فكرية تردم موروثنا ألتأريخي ألراكد في أذهاننا منذ أربعة عشر قرناً. 

    لكي تكون ألبداية صحيحة، علينا أن نفهم ونقر بأن ألإنسان هو سيد ألأرض وهو ألذي يُشَرِفُ ويُكرمُ ألأوطان وليس ألعكس كما يُشاع. فألأرض وُجدَت لخدمة ألإنسان ووطن ألإنسان ألحقيقي هو ذلك ألمجتمع ألذي يمنحهُ أمانَهُ وكرامته وإستقراره بغض ألنظر عن موقعهِ ألجغرافي. فبعد إسترجاع وتبني ألهوية ألعراقية ألرافدينية (وكما بينا ذلك في ألجزء ألأول من هذا ألموضوع)، على ألعراقيين أن يستعدوا لتغير مهم وجريء في جميع مجالات ألحياة وألمفاهيم ألسائدة حول هذه ألمجالات. في هذا ألمقال، سوف أكتفي بمثالين فقط، ألأول هو وجوب إبدال مفهوم ألقومية ألعربية (Nationalism, PanArabism) بألوطنية أو ألمواطنة ألعراقية (Patriotism). يكون ألغرض من ذلك لتحقيق أهداف متعددة أهمها ألإكتفاء بألهوية ألرافدينية كما أشرنا في ألجزء ألأول وإقتصار ألولاء إلى ألعراق فقط لتركيز ألجهود من أجل تحقيق مصالح ألعراق ألوطنية. في هذا ألصدد، لابد لنا أن نؤكد وبشكل واضح لا يدعو إلى ألشك إن تأييد ودعم ألشعوب ألمضطَهَدة، بغض ألنظر عن إنتمائها ألقومي أو ألديني، من أجل تحقيق حريتها وإسترجاع حقوقها هو مبدأ إنساني لا يمكن ألتخلي عنه. إن ألدعوة لمثل هذا ألتغير وإن كان جريئاً ليس صعباً بل على ألعكس هو ما يَحضى بدعم ألمجتمع ألدولي ألمتحضر، لأن ألدعوة إلى ألقومية تعتبر شكلاً من أشكال ألعنصرية وذلك لتقاطعها مع فكرة ألتعايش ألسلمي ألعالمي. ولدعم صحة هذا ألتوجه، لم تشهد تجارب ألشعوب على حضارة معاصرة مبنية على أسسٍ قومية عرقية بل على ألتسامح وألإنفتاح وألتعاون بين مختلف ألأمم وألأعراق داخل ألوطن ألواحد وظمن ألعالم أجمع لتحقيق ألمصالح ألوطنية لكل شعب. يقول ألأستاذ عدنان محسن في كتابه(٢) "دول ألتعددية، كإستراليا وكندا ونيوزيلندا، هي أكثر إستقراراً سياسيا من غيرها، تلبي طلبات ألأغلبية وبشكل قانوني من أجل ألسلام وألأمن ألمجتمعي". كذلك يقول غوستاف لو بو أحد مُفكري علم ألإجتماع في عصر ألنهضة ألفرنسي في كتابه(٣) "لا توجد أعراق صافية في ألبلدان ألمتحضرة بل هناك ألعرق ألتأريخي"، ويقصد هنا بألعرق ألتأريخي أي ألهوية ألثقافية ألمجتمعية ألمتراكمة عبر ألتأريخ نتيجة للتعددية وليس ألعرق ألبايولوجي.

    أما ألمثال ألثاني وألذي يجب إعادة ألنظر فيه ألا وهو ضرورة ألتخلي عن ألتبجح بألأمة ألإسلامية أو بما يُسمى بألخلافة ألإسلامية. كما قُلنا في ألجزء ألأول، إعتناق ألإسلام من قبل أغلبية ألعراقيين شيء رائع ولا غبار عليه لكن ألدين ألصحيح في ألجوهر وألشكل ألعام ما هو إلا مصدر أساسي للإيمان بألتوحيد وأليوم ألآخر وإقرار نبوة ألرسول (ص) وألسلوك ألأخلاقي ألإنساني للفرد. لا يوجد في أي دين برنامج عملي لإدارة دولة عصرية متحضرة لذلك لا يوجد مثال عملي تأريخي أو حاضر لحضارة مبنية على أسسٍ دينية، ولم يُنشِيء ألدين حضارة مدنية على ألإطلاق. لم يسعى ألأنبياءُ ولم يقيموا دولاً وممالك ولم يُنَصِبوا أنفسهم ملوكاً أو أمراء بل كانوا مصلحين للأخلاق ومراجع روحانيين. ولهذا، لم تكن ألإمبراطورية ألرومانية "ألمسيحية" أو ألعربية "ألإسلامية" إلا قوتين إمبرياليتين شموليتين إستخدَمَتا ألصبغة ألدينية لأغراض توسعية سُلطوية. وتأكيداً على ذلك نرى في أوج شموخ ألإمبراطورية ألعباسية وعصرها ألذهبي كان ألفرد ألعادي (ألرعية) ودافعي ألضرائب (ألجزية) من ألموالين وأهل ألكتاب وغيرهم وألمحاربين وألمفكرين وعلماء ألفقه ومفسري ألقرآن وكتاب ألسيرة وألأحاديث كانوا من أعراقٍ وأجناس وأديان وأوطان مختلفة أُجبروا على ألرضوخ وألتعايش تحت حكم ألعرب وبغطاء أسلامي. وبإجراء مقارنة علمية بسيطة يتضح لنا أن ألدين ألصحيح وألحضارة شيئان مختلفان ولا أقول متناقضان، لا يشتركان إلا في تنمية ألسلوك ألأخلاقي ألسليم للفرد وهذا فقط ما تحتاجه ألحضارة من ألدين. فبينما أساس ألدين هو ألإعتقاد في ما هو فوق ألطبيعة (ألروحانيات) نرى في أسس ألحضارة هي ألمعرفة وألعلم ألمُثْبتُ مختبرياً وبطرق ألبحث ألعلمي ألمعروفة للباحث. وبينما يصبُ جُلُ إهتمام ألدين على أحداث ألماضي وسيرة ألأنبياء وألرسل وألصالحين في أزمان خلت لأغراض ألتشريع وألعبادات وألإقتداء بتعاليمهِ، تهتم ألحضارة في أحداث ومتطلبات ألحاضر بل وتسعى لإيجاد ألسبل لتحقيق ألإزدهار للإنسان فيما بعد ألحاضر أي ألمستقبل. وألأهم من ذلك هو أن غاية ألأنسان من ألدين هو تأمين عاقبة ألإنسان بعد ألموت وتجنب عقاب ألآخرة بينما تكون ألغاية ألأساسية وألوحيدة للحضارة هي تحقيق ألحياة ألآمنة وألمزدهرة للإنسان قبل ألموت. وأخيراً، فإن ألمرجعية ألأخلاقية وألرقابية ألدينية في سلوك ألإنسان هي ربانية ألمصدر نزلت على شكل وصايا وآيات محكمات بينما إقامة وإدارة وديمومة ألحضارة تتم عن طريق قوانين وتشريعات بشرية تتناسب مع روح ألمكان وألزمان. فعلى مَن يريد ألتحضر للعراق أن يعطي ألأولوية لمتطلبات ألحضارة من ألمعرفة وألعلم وسيادة ألقانون وألسلوك ألأخلاقي للمواطن. 

    قد يتسائل ألقارىء، ماهي ألعلاقة ألعملية وأللوجستية بين هذا ألطرح وما يحدث ويحتاجه ألعراق في واقعهِ ألحالي؟ أقول، إن لهذا ألموضوع وضروف ألعراق ألحالية علاقة كبيرة وأساسية جداً يجب أخذها بنظر ألإعتبار. في ألعراق ألحالي خلط كبير بين مفاهيم ألإنتماء ألقومي وألديني وما يتطلبه من سلوك وطقوس من جهةٍ ومقومات سياسة ألدولة ألمتحضرة وإدارة مجتمعها من جهة ثانية. فعلى سبيل ألمثال لا ألحصر، عندما نقرأ دستور ألدولة ألعراقية نشُم فيه رائحة ألدولة ألمدنية ألديموقراطية وربما ألدعوة إلى ألعلمانية، بينما أغلب إن لم تكن جميع ألأحزاب ألسياسية ألمتنفذة وألحاكمة ذات هوية قومية ودينية بل وحتى طائفية. قد نجد ألعذر لنبرر لهذه ألأحزاب عندما تأسست في وقتٍ لتقود ألنضال ألسلبي لإستعادة حقوقها من نظام دكتاتوري عنصري وطائفي ولكن لا مبرر لها بل من ألخطأ ألكبير أن تستمر هذه ألأحزاب بهذا ألشكل وهي ألتي تقود ألآن إدارةَ دولة مدنية علمانية. على ألسياسيين ألعراقيين أن يعوا أن شكل ومحتوى وأغراض أحزابهم لم تعد تصلح للمرحلة ألحالية وعليهم إن أرادوا مواصلة عملهم ألسياسي أن يعيدوا تشكيل أحزابهم بهوية وطنية عراقية ممن يؤمنون حقاً بألمواطنة ألعراقية فوق كل إعتبار وببرامج سياسية وإقتصادية وإجتماعية جديدة على أسس علمية مهنية، وإلا فجزاهم أللهُ مِنا كل خير وليفسحوا ألمجال لغيرهم من شباب ألجيل ألجديد. وبإختصار شديد، لا يمكن للعراق أن يتحضر وعلم ألجمهورية لم يزل بمضمونه ألعنصري ألشوفيني ثم أضيفت له عبارة ذات مسحة دينية خُطَتْ بيد مَن أحبطَ تحضر ألعراق، لا لغاية دينية صادقة بل لحقدٍ وإغاضةٍ لبعض دول ألجوار. ولتوضيح بعض ألسبل وألحلول ألعملية ألمطلوبة لتحقيق ألتغير ألجذري ألمنشود لتحضر ألعراق، يرجى متابعة ألجزء ألثالث وألأخير من هذا ألموضوع.

    ألمصادر:
    ١. في مقالٍ نُشِرَ في جريدة ألمدى ألإليكترونية في نيسان ٢٠٢١
    ٢. عدنان محسن، The global patriot، USA, Amazon، ٢٠١٩
    ٣. غوستاف لو بون، سيكولوجية ألجماهير، دار ألساقي، ٢٠١٣  

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media