د. غانم المحبوبي
لو تَمَعَنا في خارطة ألعراق السياسية (geopolotical) في محوريها الداخلي والخارجي، لوجدنا ما يميز العراق عن بقية، وعلى الأقل، الدول العربية هي صفة التعددية ذات الإختلاف الحاد. فمن الناحية الجغرافية يحيط بالعراق أربعة أقطاب ذات أصول أو أعراق ومعتقدات فكرية ودينية (مذهبية) متناحرة منذ مئات السنين ولحد الآن، ألا وهي الفرس الشيعة من الشرق والترك والتركمان السنة من الشمال والعرب السنة المعتدلة من الغرب والعرب الوهابية المتطرفة من الجنوب. هذا الفخ الجغرافي المتشنج ما كان له إلا وأن يعكس صورتَهُ المتناحرة في داخل المجتمع العراقي، أضف إلى ذلك وجود القوميات والأديان الأخرى كالأكراد والمسيحيون والآشوريون والمندائيون والأيزيديون وغيرهم. كما بينا في مقال سابق، التعددية المتعايشة سلمياً (multiculturalism) هي من السمات الحسنة للمجتمعات المستقرة المتحضرة لما تنتجهُ من تراكم حضاري مهم. ولكن، في حالة التعددية المتخاصمة أي غير المتعايشة على أساس المواطنة ضمن الدستور والقانون فلا بُدَ لهذه الحالة أن تؤدي إلى مجتمع متناحر تسوده الفوضى وفقدان الأمن كما هو الحال في العراق الحالي. لماذا أدت تعددية العراق لهذا الناتج السيء هو سؤال الإجابة عليه بالتفصيل خارج موضوعنا الحالي ويستحق أن نتناوله بمقال كامل آخر. أما ما يهمنا ألآن هو التأكيد على أن الحرية غير المنضبطة في ظلِ دولة ضعيفة الفكر والإرادة والقوة هي من أهم ما يؤدي إلى الإنفلات الولائي والأمني وهذا ما يتجسد ألآن في واقع العراق حيث تواجد المجاميع أو ما يسمى بالمليشيات المسلحة "المنفلتة" سواء كانت مرتبطة بولاء داخلي، عشائري كان أم مناطقي أو أجندات سياسية داخلية أو خارجية وما تقوم به من أعمال تقوض هيبة الدولة.
لماذا نشأت هذه المليشيات؟ بإختصار، يعيش العراق ومنذ أكثر من أربعين عام في سلسلة من الحروب والأزمات الحادة أدت الى تراجيديا التدهور والإنحطاط في الدولة والمجتمع العراقي مما جعل كل فئة من فئات التعددية العراقية تشعر بألخوف وألريبة من الآخر وفقدان الأمن. وعندما تكون الدولة ضعيفة وفيها مَن هوَ في موقع القيادة ويشارك الشعب بمخاوفه والريبة من الآخر، فلا يجد المواطن العراقي خياراً غير الإبتعاد عن مفهوم الولاء للمواطنة العراقية بل اللجوء إلى ذاته ومناطقيته وما يحميه ظمن معتقده الديني او القومي. ولكي يحافظ المواطن على ويحمي خصوصياته ومقدساته ويثبت تواجده وقدرته على ارضه توجبَ عليه ان يأخذ زمام المهمة الأمنية على عاتقه وذلك بتشكيل المجاميع المسلحة، وفي حالات كثيرة بمساعدة الدولة نفسها او مراكز الإستقطاب الإقليمي من دول الجوار أو الدول الأخرة المتنفذة. هذه المجاميع لا تثق بالدولة ولا تَكُن لها الولاء لذلك لا نجدها تنقاد لها في عملياتها المسلحة والعسكرية بل بما تملي عليها معتقداتها ومصالحها الخاصة ولا يهم ان كان مصدرها من داخل العراق أو خارجه.
وإذا رجعنا الى أحداث ٢٠١٤، سنشهد ولادة مجموعتين مسلحتين كبيرتين تشترك في دوافعها لحماية نفسها وفرض نفوذها ولكنها على طرفي نقيض في أحقيتها وشرعيتها وتمسكها بالمواطنة العراقية. المجموعة الأولى هي عصابات داعش المجرمة بحق الإنسان والحضارة وألتي سببت الكثير من الدمار وزهق الأرواح، بدوافع سياسية ولكن بغطاء عنصري طائفي بغيض. برأي الخاص، إن من أروع ما انجزه العراقيون منذ ٢٠٠٣ ولحد ألآن هو الدعوى الرائدة لتحشيد الشعب (الفتوى الجهادية الكفائية) من أجل الدفاع عن الوطن ضد عصابات داعش القبيحة وألإستجابة الطوعية الباهرة من قبل المواطنين لولادة المجموعة الثانية أو الحشد الشعبي المسلح وتضحياتهم بألغالي وألنفيس حتى تحقيقهم النصر. وألذي توج هذا الحدث الرائع هو قرار مجلس الشعب والدولة بعدم حل أو إلغاء هذا الجهاز الأمني العقائدي المهم وعدم تركه منفرداً كقوة شعبية مقوضة لقوى الأمن الوطنية بل وتوافقاً مع فحوى الفتوى الجهادية دمجه إليها مما وهب الفائدة لكل الأطراف. ولكن، يجب علينا أن لا نقدس الأشخاص من الحشد الشعبي مهما بلغوا من النزاهة والتقوى إذ ليسوا هم سوى أشخاص كبقية الناس وليسوا بملائكة. لهذا وجب على الدولة أن تتصدى لكل من يخرج منهم عن القانون وتعالج الأخطاء كحالات منفردة وعدم تعميم الفعل الشاذ على جميع من ينتسب إلى هذه المؤسسة المهمة. كذلك يجب على الدولة والشعب أن ينتبهوا للمحاولات المشبوهة والمستمرة للإسائة إلى العراق وللحشد الشعبي بألذات من أي جهة ومن ظمنها الأفراد أو الجماعات التي تسعى لتحقيق أهداف خاصة لا تصب في المنفعة العامة للوطن عن طريق تشكيل ميليشيات مسلحة أخرى وتحت غطاء الحشد الشعبي، مما يستوجب التصدي لهذه الميليشيات؟
كيف التصدي لهذه المجاميع المسلحة؟ بالتأكيد إن كل فئة من فئات المجتمع العراقي سوف تقيم شرعية تواجد هذه الميليشيات، بناءاً على آراء ومصالح خاصة تعكس حالة الإستقطاب الحاد في مفهوم المواطنة عند هذه الفئات المتعددة. فهناك من يدعم او على الأقل يتعاطف مع قسم من هذه المجاميع المسلحة على أنها مقاومة عقائدية شريفة وربما مقدسة في دفاعها عن تربة الوطن والعرض والمقدسات وما إستخفافها بأوامر الدولة، ومن وجهة نظرها، إلا هو من صغائر الأمور قياساً بأهدافها العقائدية الكبيرة. من جهة أخرى، هناك من يذهب بعيداً في الإتجاه المعاكس ليُجَرِم هذه المجاميع لا بإعتبارها وحدها فقط خارجة على القانون بل بتعميم مثل هذا التجريم على كل فصائل الحشد الشعبي، وإن هو حالياً جزءاً من قوى الأمن العراقية الرسمية وحسب قانون من مجلس النواب العراقي. وكمثال على ذلك، في مقال له نُشر في "المثقف" بعنوان "هل الحشد الشعبي للعراق أم على العراق؟" يقول الدكتور كاظم حبيب "إن مهمات الحشد الشعبي بميليشياته الولائية، التي تشكل ٩٥٪ من قوام هذا الحشد غير الشعبي والمرتبطة عضوياً بالأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية ... هي الهيمنة الكاملة والفعلية على محافظات العراق في الوسط والجنوب وبغداد ... وبالتالي ممارسة عمليات التهديد والإبتزاز والإختطاف والإعتقال والتعذيب والقتل وفق ما يرد لها من أوامر (والمقصود من إيران)". وبين هذين القطبين المتطرفين في الرأي نسمع صوتاً آخر بينهما يتسم بشيء من الإعتدال كما جاء في مقال الدكتور عبد الخالق حسين بعنوان " أسلم طريق في مواجهة المليشيات المنفلتة" والمنشور في "المثقف"، " كذلك يجب التأكيد على التميز بين الحشد الشعبي الحقيقي الذي تأسس إستجابة لفتوى السيد السيستاني كما ذكرنا، والذي تم دمجه مع الجيش بقانون، حيث يأتمر بأوامر القائد العام للقوات المسلحة، وبين الميليشيات الحزبية الطائفية وبغطاء الحشد الشعبي." إن مثل هذه الآراء وإن إستحقت الإحترام والأخذ بنظر الإعتبار لكنها، وبرأي الخاص لا تُمثل الرأي الوطني العام لأنها تبقى آراء شخصية تستند على دوافع حزبية، ايديولوجية، وقد تكون قومية عرقية أو دينية طائفية أو غيرها ما لم تُدعم بتحليل وأدلة علمية ومُقنعة يتقبلها المواطن المُحايد والمتطلع لإستقرار البلاد الحقيقي، وهذا ما سنتناوله في القسم الثاني لهذا الموضوع.