(دُروبُ الموت 1) من شارع النضال الى الأمن العامة عام1974
    الثلاثاء 22 يونيو / حزيران 2021 - 06:00
    قاسم محمد الكفائي
    المقدمة
    سلسلة حلقات (دروبُ الموت) سأنشرها على هذا الموقع المحترم تباعا فهي تجسد أيامي السود المؤدية الى الموت المحتوم التي عشتها على مراحلَ من حياتي على جغرافيةٍ مختلفة في صراعي مع المخابرات داخل الوطن وخارجه إبتداء من العراق الى إيران والباكستان، ثم كندا. 
    إنها مخاضُ مسيرةٍ خضتُها على دروب الموت أكتبُها اليوم بدمي المَهدور بمحاولات مخابرات صدام ، أو مخابرات كندا، أو بمحاولات (الأشقاء) لأمنحَها هديةً سهلةً لطلاب الحقيقة، وموعظةً لمن أراد الموعظة. كذلك أنا عازمٌ على متابعة كلَّ ما لحقَ بي من أذى نتيجة سلوك وإصرار ومتابعات أجهزة المخابرات الكندية بخطط مختلفة ووسائل خطيرة، وستعرف هذه الأجهزة جيدا أن الضحايا من العرب ليست دائما أغبياء ولا هم عاجزون عن توصيف معاناتهم التي قد تكون أدواتها أقل مستوىً من كفاءة الضحية. هذا ما سنراه لاحقا  بعيدا عن النصيحة الشيطانية التي ترددها مخابرات كندا عندما تكون مُحرَجة، (روح راجع طبيب نفساني)، أو اعتقال الضحية إيداعه مشفى الأمراض العقلية بالقوة كما فعلها من قبل جوزيف ستالين بخصومه ورفاقه السياسيين. الآن أنا أنصحُهم بمراجعة أطباء الإنسانية، إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد لأخذ قبسا من أخلاقهم وفكرهم وإنسانيتهم. سيتعرف القارىء الكريم على جزء من تجربني وصراعي مع المخابرات، وسيعرف أني لا أستحق مثل تلك النصيحة البهلوانية. عسى أن أكون موفقا بالخوض في (دروبُ الموت) مع خالص إعتذاري للمتابعين في حالة النسيان والسهو الذي قد يطرأ خلال نقل الوقائع في جميع الحلقات بذكر الأماكن والمسافات والأزمان والتواريخ، فسنون الماضي والحاضر إلتهمت ثلاثة أرباع المخ يشهد الله. في هذه الحلقات أو ما يتبعها قد أفضح (الأصدقاء) الخونة مهما علا شأنُهم. أرجو متابعة جميع الحلقات دون تقطيع توخيا للفائدة المرجوّة. إنتهت.
    كنتُ غضّا لم أبلغ العشرين من عمري، وليس لي تجربة مع السجون بدوافع السياسة أو غيرها حين أوقفتني سيارة ( فكس واكن، نسميها بالعراقي.. ركَه ) كان فيها إثنان ما عدى السائق، لم أعرفهما وقد نزلا منها، سألاني عن إسمي ولما أجبتهما قال أحدُهم (تفضل إصعد إحنه أمن). كان الوقت ظهرا يوم 17 تشرين الثاني لعام 1974على شارع النضال، أمام كنيسة الأرمن ببغداد. صعدت ُ الى الخلف ولا أدري ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا الإجراء، والى أين ذاهب، وما المصير. لم نذهب بعيدا فكانت وجهتُنا مديرية الأمن العامة عرفتها حين وقفت سيارتُنا أمام البوابة وفتح الحارس جزء منها فتحركت على مسافة قصيرة ليأمرني أحدهُم بالنزول وشدَّ عينَي بقطعة قماش واقتاداني الى طابق علوي فلما دخلتُ الى غرفة المحقق وجلستُ على الكرسي سألني عن إسمي وسكني وتفاصيل عائلتي. لم يدم أكثر من نصف ساعة قال لي تفضل أخرج، ظننت فيه عدالته وإنسانيته حين شكرته على ظنه الحسن بي ثم نهضت وأنا معصوب العينين ظنا مني ببلادة أن وُجهتي الخارج. كان عنصر أمن واقفا الى جانبي، مسكني من كتفي وقال... تفضل، نزلنا السلّم ومشينا أكثر من دقيقتين وإذا بالسجان يفتح باب سجنه ويدفعني بيده الى الداخل بعد رفع قطعة القماش من عينَي. مشهد لم أئلفه من قبل حين رأيت قواطع السجن الضيقه، ثلاثة أو أربعة غرف صغيرة جدا في كل جهة وفيها أعداد من المساجين الرجال لا تتناسب وذلك المكان الضيق. كعادتهم يسأل السجناءُ ضيفَهم الجديدعن سبب الإعتقال وغيرها من الأسئله. فلما عجزت عن الإجابه بعضُهم شكك والآخر تعاطف بصمت. أتذكر بعد يومين إستدعوني للتحقيق فعرفت في ذلك اليوم أني في الشعبة الخامسة بتهمة الإنتماء الى (الأخوان المسلمين). كان المحقق يهددني أكثر مما يستجوبني، فصرخ بوجهي وطلب مني الإعتراف بينما ترتجف كلُ أعضائي وأنا مشدوه لا أعرف ما هو الرد سوى أني أدفع الشبهة بالقسم ونقاء الضمير، وأقول له...نعم سمعت عن هذا الكيان ولا أعرف تفاصيله. بعد ان طلب مني أن أفكر نادى على عنصر أمن ليأخذني الى السجن. فلما دخلت الزنزانة إلتفَّ من حولي السجناء فكانوا طيبين، ويتشاركون المعاناة. طوال الليل أنا أفكر وأحاول أن أتذكر ما هو السبب الذي دفعهم لاعتقالي فلم أحظى بنتيجة. في صباح اليوم التالي إستدعوني الى نفس المحقق ولما سألني فيما لو فكرت لأقول الحقيقة أجبته بأن ليس لي إرتباط ولا يمكن أن اتورط بهكذا فعل. صرخ بوجهي ونهض فتناول الكيبل بيده وضربني ما استطاع حتى تورمت أكتافي وأصابع يدي. بعدها رجعت الى سجني بأمر منه. بعد أكثر من يومين إستدعوني للتحقيق في مكان أرضي ذقتُ فيه الفلقة التي هي أكثر إيلاما. بقيت أتردد على المُحقق وأعود الى الزنزانة وتمنيت في حينها لو أكون فعلا متورطا بالتهمة الموجَهة ضدي. بعد أيام نقلوني من زنزانتي الى زنزانة أخرى تقابلها تماما ومستقلة وجدت فيها شاب طيب الخلق قال عن نفسه رجل أمن يعمل في هذه الدائرة لكنه مُعاقَب إداريا بسبب مخالفة وسيخرج بعد أيام، خلال تعارفنا وحديثي معه نصحني أن أتكلم الحقيقة عند مثولي أمام المحقق وسيساعدونني لصراحتي. تمنيتُ أمامه أن أكون مذنبا لأكون صريحا، وعرفتُ في حينها أني في وضع امتحان خطير. لم يمض علي أكثر من خمسة أيام أعادوني بعدها الى الزنزانة العمومي بينما قضى ذلك الشاب مدة العقوبة وخرج من السجن بحسب فصول المسرحية. (هذه الأيام الصعبة كانت البوابة الأولى التي أدخل من خلالها الى باحة عالم المخابرات فاستقبلتها بكفائتي وليس بمزاجي، وكنت أحس أن هذا العالم هو أوسع مما نتفهمه نحن عامة الناس، وفيما بعد عرفته أنه عالم الجنة والنار).
    بعد انقضاء تلك الأيام القليلة في تلك الغرفة شعرت بشيىء من التحسن في تعامل المُحقق الذي عرَّفني بنفسه في المرة الأخيرة التي صعدت فيها الى غرفته في الطابق العلوي (الرائد هادي ليس بالضرورة أن يكون إسمه الصحيح). بعد قناعته بسلامة قضيتي نصحني هو بنصف جملة قال بلهجته : مِن تحكي بينْ الناس لا تخربط. وقال... المرة الثانية لو توصل لهنا ما تخرج. 
    تحررتُ من سجن مديرية الأمن العامة مقابل القصر الأبيض، ومنها نقلتني نفس السيارة (الركَة) أو تشبهها الى سجن للشرطة، بقيت لأكثر من عام ما بين سجن الشرطة في بغداد الى سجن دهوك وزاخو كان الرائد ناجي     ( حكم دولي في لعبة كرة القدم ) هو المشرف على ملفي، وأتذكر الملازم ثامر والنقيب إبراهيم زينل. كذلك الإنضباط فيصل (رياضي أول على العراق في تحطيم قطع الطابوق المنضّدة فوق يعضها بيده الحديدية ). كذلك رئيس عرفاء زوير وغازي ومحمود..أبلغوني بالإبعاد الى زاخو على الحدود مع تركيا من جهة إبراهيم الخليل. وصلتُ الى دهوك ثم زاخو مرورا بسميل والسليفاني الى الكلي ثم مدينة زاخو قبل أن أبلغ مناطق السندي وجبال كاني ماسي وشرانش.فتسلم كتاب الإبعاد نقيب الشرطة خالد (أعتقد هو من بغداد وتعاطفه معي يدل على نفوره من الوضع السياسي القائم). 
    غادرتُ زاخو نهائيا في منتصف عام 1977 فكانت تجربة مرّة مع أني أحسبها مرحلة نضال خارج إرادتي. السبب الحقيقي عرفته في سجن الشرطة ببغداد أن المدعو قاسم من قضاء المحمودية هو الذي كتب تقريره ضدي مفاده أني أنتقد الحكومة والإشتراكية. في تلك المرحلة من عمري وبتلك الثقافة الضعيفة التي لا أتحمل فيها مسؤولية زلاّت لساني ما كنت أحسب أن الكلمة العفوية تُنقل بتلك الطريقة، وتودي الى التعذيب أوالموت، مع أن تلك السنين كان فيها بعضُ انفراج. أعود الى زنزانتي في الأمن العامة...أتذكر فيها أخوين إثنين ( قمة في الخلق وطهارة الأصل ) من مدينة الناصرية متهميَن بقتل عنصر حزبي في مدينتهما وأتذكر أنهما محكومان بالإعدام. وفيها صحفي إسمه كما أتذكر علي الحلي أو حسين الحلي كان نحيفا جدا وهو شاب هادىء الطبع ينادي عليه السجان فيأخذه الى المُحقق، ويعود الينا هادئا والدم يسيل من قدميه وجسمُه يرتعش.
    كاكه حمه صالح شنق نفسه بحمامات الزنزانه بقميصه ذات اللون السمائي فوجده بعضُ السجناء معلقا. حمله السجانون ببطانية ووضعوه مسجىً أمام باب الزنزانة. أيضا من الذين عرفتهم كان سجينا إيراني شاب طائش عبرَ مياه نهر الكارون كما اعتقد من جهة عبادان مثلا الى جهة البصرة وقبض عليه حرس الحدود العراقية.
    وفي أحد الأيام دخل علينا رجلٌ وقور جدا، تقرّب مني قبل غيري وخصّني بحقيقة قصته أنه يعيش في بريطانيا لعقود وتم اختطافه في لندن ثم نقلته مخابرات السفارة الى بغداد، فطلب مني حال خروجي من السجن نقل رسالة شفوية الى بن خالته أو بن خاله تاجر قماش في سوق الديوانية أسمه نعمه هاشم أو بالعكس لأخبره بوجوده في معتقل الأمن العامة. فعلا خرجتُ من السجن وذهبتُ ببلادتي وعفويتي الى هذا التاجر في محل عمله، وحين دخلتُ عليه وأخبرته صعق الرجل وذُهل وبقى متحيرا كيف يتعامل معي رغم أني أعطيته الأمان. 
    في تلك الزنزانة أخبرني الأخوان الإثنان من الناصرية أن الشيخَ عارف البصري ورفاقَه الكرام حسين جلو خان ونوري طعمة وعماد التبريزي كانوا نزلاء هذا الموقف، فلما أحيلوا لمحكمة الثورة حُكِم عليهم بالإعدام قبل شهرين أو ثلاثة من وصولي لتلك الزنزانة. تأثرتُ في حينِها وتمنيتُ لو التقيهم وأتعرف عليهم. وقد أشادا بخلق وشجاعة هذه الكوكبة وأكدا على شجاعة ولباقة السيد عماد التبريزي. 
    من الذكريات الجميلة التي مرّت كالحلم أتذكر منها يوما كنت بصحبة والدي صليتُ خلف الشيخ عارف البصري في مسجده في الكرادة ببغداد في مطلع السبعينات.. الى حلقة ثانية قادمة.

    قاسم محمد الكفائي 
    Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada

      
       
      

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media