د. ميسون البياتي
منذ 30 حزيران 1977 وحتى اليوم كل خميس تنطلق تظاهره نسويه حاشده في ساحه ( بلازا دي مايو) / بوينس آيرس / الأرجنتين للمطالبه بمعرفة مصير 30 ألف شخص تم اعتقالهم من مظاهره ضد الحاكم العسكري خورخي رافائيل فيدلا فتم اعتقالهم وإخفائهم
ساحة بلازا دي مايو واقعة أمام القصر الرئاسي ( كاسا روسادا ) في مدينة بوينس آيرس جلست فيها السيدات لتقديم التماس لعودة أبنائهن المختفين وظهورهم على قيد الحياة , في البدايه كن يجلسن فقط لكن الحاكم ضاق برؤيتهن فطردتهن الشرطه من الساحة العامه
في سبتمبر 1977 ومن أجل إتاحة الفرصه لأنفسهن لمشاركة قصصهن مع الأرجنتينيين الآخرين ، قررت الأمهات الانضمام إلى رحلة الحج السنوية إلى القديسه لوجان التي تقع كنيستها على بعد 30 ميلاً خارج بوينس آيرس . ومن أجل تتميز أنفسهن بين حشود الحجيج ، قررت الأمهات ارتداء ( قماطات ) أطفال بيضاء كغطاء للرؤسهن , هذا القماط يستعمل حتى اليوم شعار للجمعيه . وبعد الحج قررت الأمهات الاستمرار في ارتداء القماطات خلال اجتماعاتهن ومظاهراتهن الأسبوعيه في الساحه وأضفن عليها تطريز أسماء أبنائهن عليها ثم قمن بعد ذلك بطبع صورهم عليها وكتبن : أعيدوهم لنا وهم على قيد الحياة
لمعرفة سبب إختفاء 30 ألف شاب من الأرجنتين عام 1977 علينا التعرف على ( العمليه كوندور ) وهي حمله قامت بها الولايات المتحده الأمريكيه في قارة امريكا اللاتينيه هدفها الإرهاب السياسي وإستخدام إرهاب الدوله اللاتينيه لكسر شوكة المواطن اللاتيني واغتيال المعارضين لنفوذ الولايات المتحده في القاره اللاتينيه , ونظراً لسرية العمليه ، فإن العدد الدقيق للوفيات التي تُعزى مباشرة إلى عملية كوندور موضع خلاف كبير. تشير بعض التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 60 ألف حالة وفاة يمكن أن تُنسب إلى كوندور ، 30 ألف قتيل منهم في الأرجنتين ، 30 ألف مختفي , و 400 ألف سجين
قدّم عالم السياسه الأمريكي ( جيه باتريس ماكشيري ) الرقم 402 ألف قتلوا في عمليات كوندور في عموم القاره اللاتينيه , في مصدر نشره عام 2002 ، أما في مصدر آخر نشره عام 2009 عن أولئك الذين " أرسلوا إلى المنفى " و " تم اختطافهم " وتعرضوا للتعذيب والقتل في دول حليفه أو نُقلوا بشكل غير قانوني إلى بلدانهم الأصلية ليتم إعدامهم فهم بمئات الآلاف منهم المنشقين واليساريين وزعماء النقابات والفلاحين والكهنة والراهبات والطلاب والمدرسين والمثقفين والمقاتلين المشتبه بهم
تصف وكالة المخابرات المركزيه العمليه على أنها جهد تعاوني بين أجهزة مخابرات العديد من دول امريكا اللاتينيه لمكافحة الإرهاب والتخريب , اعضاء كوندور الرئيسيين هم حكومات الأرجنتين وتشيلي وأوروغواي وباراغواي وبوليفيا والبرازيل ثم انضمت الإكوادور والبيرو في وقت لاحق إلى العملية أما حكومة الولايات المتحده فقدمت التخطيط والتنسيق والتدريب على التعذيب والدعم الفني والمساعده العسكرية إلى المجالس العسكريه لهذه الدول خلال إدارات جونسون ونيكسون وفورد وكارتر وريغان , وكان الدعم يقدم من خلال وكالة المخابرات المركزيه بشكل مباشر
بنهاية الحرب العالميه الثانيه أعلنت الولايات المتحده الى جميع الدول الأوربيه الإستعماريه قارتي افريقيا وأمريكا اللاتينيه قارتين مقفلتين أمام نفوذها وحدها ومنذ ذلك الحين عمت الإنقلابات العسكريه في دول هاتين القارتين أما لطرد مستعمر أوربي والحلول محله , أو لتدمير ما تبقى من منشآته ومؤسساته بعد رحيله , أو من أجل إلهاء شعوب القارتين بهموم حاكم ذهب وحاكم أتى كي لا تسترد انفاسها وتعي مصالحها وتبقى محكومة لمن يشفط خيراتها من خارج الحدود . جميع السياسيين مدعومون في هذه الدول , اليمينيون واليساريون , وبين فترة واخرى يتم ضرب أحد الطرفين بالآخر , يأتي يساري يقال أنه قام بالإصلاح حتى بات البنك الدولي يستدين من البرازيل وعلى حين غره يعلن عن إفلاس البرازيل ويفضح الرئيس المصلح أنه كان يتقاضى الرشوه , يحتل البلاد عسكري يميني متطرف فيطيح بالعباد قتلاً وتنكيلاً .. وهكذا تدور الأمور في حلقة مفرغه
الحكومه العسكريه الأرجنتينيه إعتبرت هؤلاء النسوه ( مخربات سياسياً ) السيده ( أزوسينا دي فينسنتي ) مؤسسة الجمعيه تم إختطافها وتعذيبها ثم قتلت ورميت جثتها في البحر . الراهبتان الفرنسيتان ( أليس دومون ) و ( ليوني دوكيه ) اللتان دعمتا الحركه تم قتلهما بأمر من الرئيس خورخي رافائيل فيديلا , المضحك في الأمر أنه بعد إنتهاء عملية كوندور تم إعتقاله ورميه في السجن مدى الحياة بتهمة قمع المتظاهرين خلال فترة العمليه
في عام 1983 ، بدأ ضباط سابقون في الجيش والشرطه بالكشف عن معلومات حول بعض انتهاكات النظام لحقوق الإنسان ، اعترف الجيش بأن أكثر من 9 آلاف من المختطفين ما زالوا في عداد المفقودين ، لكن أمهات المفقودين يؤكدن إن عدد المفقودين يزيد على 30 ألف وكان العديد منهم من طلاب المدارس الثانويه والشباب المهنيين وعمال النقابات المشتبه في معارضتهم للحكومة وكانوا جميعاً دون سن 35 عام واستغرق الأمر حتى عام 2005 لتحديد الحمض النووي للعديد من المقابر الجماعيه والرفات البشريه لاستخراجها و دفنه , السيده ( أزوسينا دي فينسنتي ) مؤسسة الجمعيه التي رميت جثتها في البحر لها قبر رمزي في ساحة بلازا دي مايو نفسها
اليوم ، تنخرط الأمهات في النضال من أجل الحقوق الإنسانيه والسياسيه والمدنيه في أمريكا اللاتينيه وأماكن أخرى من العالم , السيدات المسنات ذوات الشعر الأبيض يتم دفعهن على كراسي متحركه للمشاركه في مظاهرة الخميس في ساحة بلازا دي مايو ويعتبرن هن رائدات الجمعيه , أما الشابات حديثات الإنتساب للجمعيه فيعملن جميعاً كناشطات في مجال حقوق الإنسان والمراقبه للمحافظه على الحريات
الموضوع مؤلم بلا شك , لكن الإنسان يجب أن يواصل الحياة ولا ينسى المطالبه بحقوقه ووقف حد لما يتعرض له من ويلات ومصائب
د. ميسون البياتي