د. ميسون البياتي
هذه الحكايه ذكرتني بالأستاذ العلاّمه الدكتور محمد أركون رحمه الله . عام 2000 انا كنت أستاذ مساعد في كلية الآداب والعلوم الإجتماعيه جامعة السلطان قابوس في مسقط / سلطنة عمان , كنت أدرّس مادة مذاهب أدبيه للطلاب , وصل الى الجامعه كأستاذ زائر العلامه الأستاذ محمد أركون واتحفنا بمحاضره لا تنسى عن المحكي والمسكوت عنه بين السياسة والدين بدأها منذ أيام كان الملك هو الإله , الى منح الألوهيه الى رب غير مرئي , ولغاية منح الحاكم بعض صلاحياته الى شخص يسمى رجل دين , ثم بداية الصراع بين الحاكم ورجل الدين فوق رؤوس الخلق الى يومنا هذا
حين انتهت المحاضره كانت لنا لقاءات موسعه مع الدكتور , حينها سألني : من أي بلد أنتِ؟ قلت من العراق فقال إن العراق مركز الأرض , إرسمي خطاً على الخارطه ما بين شمال غرب اوربا الى جنوب شرق آسيا أو آخر من جنوب غرب افريقيا الى شمال شرق آسيا فسيمران بالعراق . العراق منطقة إحتكاك حضاري , يمر منه اللصوص والمحتالون الدوليون . ويمر منه العابرون منهم من يرحل ومنهم من يستقر , ولذلك في العراق أعراق وديانات ومذاهب ومعتقدات قلما توجد في بلد غيره , يتعارك على خيراته اللصوص وتهب عليه بين الحين والحين رياح مسمومه قادمه من أقصى الأرض
تذكرت هذا اللقاء ومادار فيه وانا أنوي أن احدثكم عن صيني إستقر في العراق وتآمر على دولة المسلمين . هذا الشخص يدعى ( الرابان بار ساوما ) عاش خلال القرن13 وكانت ولادته في بيجين عاصمة الصين الحاليه عام 1225 لعائله صينيه مسيحيه نسطوريه من طائفة الإيغور , أصولهم تركيه ويعتبرون من تركمان الصين
بعمر مبكر جداً كان حلمه ان يصبح راهباً يمضي حياته في القدس , ولهذا فبسرعه تعلم بعض المسائل الدينيه وإصبح معلمأً دينياً وإكتسب لقب رابان من هذا العمل
عام 1260 قرر الرحيل الى القدس والعيش فيها وكان برفقته تلميذه ماركوس , سافرا أولاً الى مدينة كاوشانغ الصينيه وطلبا المساعده من تجارها الموسرين فجمعا بعض الحيوانات والسجاد والحبوب وبعض قطع العمله
سافرا بعدها الى مملكة خوتان وهي مملكه بوذيه قديمه واقعه مباشرة بعد صحراء تاكلاماكان الصينيه , الصحراء ملحيه قاحله وخاليه من الحياة تماماً قطعاها بكل مشقه , حين وصلا الى مملكه خوتان كانت الحرب مشتعلة فيها فغادراها بسرعه متجهين الى مراغه على ضفة نهر صوفي چاي الواقع في شمال غرب ايران , يتكون سكان مراغه في الغالب من الأذربيجانيين الإيرانيين الذين يتحدثون اللغه الأذربيجانيه . تبعد 130 كيلومترا عن تبريز ، أكبر مدينه في شمال غرب إيران , في مراغه ذهبا لمقابلة البطريارك ( دنها الأول ) رئيس الكنسيه المسيحيه الشرقيه الذي كانت تربطه علاقه جيده مع الأمير المغولي أرغون حاكم ايران البوذي
قام البطريارك دنها الأول بتكريس ماركوس أسقفاً تحت إسم ( يهب الله الثالث ) وأرسله الى الكنيسه النسطوريه في الموصل
توجه الرابان بار ساوما الى بغداد التي كانت ساقطه تحت الحكم المغولي منذ عام 1258 في طريقه الى القدس , لكن أخبار الحروب الصليبيه التي إمتدت حملاتها منذ نهاية القرن 11 وحتى الثلث الأخير من القرن 13 أعاقته عن الوصول إليها فبقي في بغداد عدة سنوات
يحمل المغول عقدة كبيره من المسلمين بعد هزيمتهم في معركة عين جالوت عام 1260 قاد المعركه من جانب المسلمين سيف الدين قطز , ومن جانب المغول قادها كتبغا , كان المغول معتدين بقوتهم بعد إسقاط بغداد والمملكه الخوارزميه والدوله العباسيه , لكن معركة عين جالوت أصابتهم بخيبه كبيره دفعت الحاكم البوذي المغولي للتفاهم مع البطريارك دنها الأول اثناء معمعة الحروب الصليبيه لعقد تحالف مغولي مسيحي مع ملوك اوربا لدحر المسلمين
تم الإتصال بالرابان بار ساوما وإحضاره من بغداد وتكليفه بهذه المهمه الدبلوماسيه , وتحميله كمية كبيرة من المال يرافقه عدد كبير من الرهبان والمترجمين . توجهوا او الى القسطنطينيه ( إسطنبول ) وصَلّوا في كنيسة آيا صوفيا ثم إنطلقوا الى صقليه التي انفجر فيها بركان جبل إتنا فغادروها على عجل الى باريس فإستقبلهم الملك فيليب الرابع بحفاوه وأجزل لهم العطاء والهدايا
من باريس انتقل الرابان بار ساوما الى بوردو التي التقى فيها بالملك الإنكليزي إدوارد الأول الذي أقام مأدبة كبرى على شرف وصول الوفد
في طريق العوده مر الوفد في روما وتلقى مباركة من البابا نيكولاس الرابع , بعدها عاد الرابان بار ساوما الى بغداد التي عاش فيها حتى وفاته عن عمر 75 عام
لم تنجح وفادة الرابان الى اوربا لعدة أسباب , فقد كان ملوك اوربا في قمة أمجادهم وهم يدعون مطالبتهم بالقدس ولا يريدون ان يقاسمهم أمجادهم أحد , وكانوا يعتبرون أنفسهم موحدين ومسيحيين مخلصين لا يمكن أن يتحالفوا مع ( وثني ) في حروبهم ( المقدسه ) , وكانوا يتطيرون من هزيمة المغول أمام المسلمين ولا يريدون مشاركتهم كفأل سيء
الكثيرون سمعوا عن ماركو بولو ورحلته من أوربا الى الصين , لكن لا أحد تقريباً يعرف عن الرابان بار ساوما رغم أنه كتب ووثق كل خطوة قام بها من الصين الى اوربا , وكانت رحلته تسبق رحلة ماركو بولو بحوالي نصف قرن , ولا أحد يعرف أيضاً أن الرابان مدفون في بغداد
د. ميسون البياتي