مقدمة :
الإنكار حالة نفسيّة (مرض نفسي) يُصاب به الإنسان يحجب رؤية الحقيقة الفعليّة الواقعة تحت سمعهِ وبصرهِ ,ليُثبت بدلها حالة أو مفهوم وهمي ,لكنّهُ يؤمن به!
بمعنى يُنكر يكذب يخدع نفسه أولاً ,وصولاً الى خداع وتضليل الآخرين!
بينما الإسقاط :أن يُسقِط المرء ما يظنّه عيب أو خلل داخله هو نفسه على الآخرين الذين يخالفون رأيهِ أو إعتقادهِ .(ستأتي أمثلة عديدة على ذلك)!
مثال على الإنكار!
يضرب لنا (د.أسواني) مثالاً من تأريخ مصر الحديث نسبياً ,ليفهم القاريء أو مشاهد الشريط معنى الإنكار / (رابط 1)!
كان هناك مؤرّخ إنكليزي إسمه ألفريد باتلر ,عاش بين (1850 ــ 1936) !
نظراً لثقافته وشهرته الواسعة إستعان به خديوي مصر آنذاك (محمد توفيق باشا) لتعليم أولادهِ أو (تأديبهم حسب مفهوم ذلك الوقت)!
من بين الأشياء الغريبة التي جلبت إنتباه هذا الرجل تقليد مصري يُسمى (الدوسة) تقوم به الجماعة الصوفيّة كلّ عام في ذكرى المولد النبوي .
يعملون حلقة ذكر يغنون يرقصون يذكرون الله كثيراً ,طوال الليل الى أن تحصل لهم حالة من التجلّي وشعور بالوجد الإلهي .
بعد ذلك ينام الصوفيون على الأرض متراصين ,ثمّ يأتي شيخ الطريقة الصوفية راكباً حصانه فيّمر عليهم جميعاً أو بالأحرى يدوس عليهم ,لذلك سُميّت هذه العملية الدوسة .يفعلون ذلك مُعتقدين كليّاً أن إيمانهم سيحميهم من أدنى إصابة مُحتملة .وبعد إنتهاء مرور الحصان يبدؤون بالتهليل والتكبير والزعيق لحدوث تلك المعجزة الكبرى كما يتخيلونها!
لكن في الواقع (الذي شاهده باتلر بعينيه) ,أنّ الحصان خلال سيره على الناس كان يهرسهم فيصابون بأضرار بدرجات مختلفة وبعضهم يموت فعلاً تحت حوافر الحصان .وزملاء اللي ماتوا يأخذون الجثث ويخفوها أو يدفنوها سرّاً !
لماذا كانوا يخفوون الجثث (يتسائل الأسواني) ويعود ليجيب :
عشان يأكدّوا حدوث المعجرة!
بالطبع الفريد باتلر لم يستطع السكوت على مثل هذه الجريمة المتمثلة بقتل بعض الناس (رغم كونهم جهلة يفعلون ذلك بمشيئتهم) ,ذهب الى الخديوي ليحكي له عن تفاصيل ماشاهده ويطلب منه تعطيل مثل هذه الإحتفالات الدموية!
لكن الأخير أجابه بأنّه لايستطيع حقاً إيقاف (الدوسة) ,نظراً لأنّ عامة الناس قد صدّقت وآمنت بها ,وتدخله سيبدو كمن يُحارب الإسلام حسب وصفهِ!
على كلٍّ ,تمّ إبطال هذا الإحتفال الديني السنوي عام 1881, ليس بأمر من الخديوي ,إنّما لأنّ شيخ الطريقة (اللي يمشي على الناس بالحصان) مات ,ثمّ في اليوم الذي يليه (بالصدفة البحته) مات الحصان نفسه ,فتطيّر الناس من ذلك . إعتبروها علامة أو إشارة واضحة من الله ليتوقفوا عن ذلك النوع من الإحتفال!
بعد ذلك خرج عليهم الأزهر ببيان ,ملخصه أنّ الدوسة بدعة والبدعة ضلاله تقود الى النار .فعل ذلك الأزهر وهو الذي كان ساكتاً عنهم طيلة السنوات الماضية .
لكن عندما قرّر أهل الدوسة أنفسهم إيقافها ,ظهرت شجاعة وفصاحة الأزهر (الشريف)!
ماذا نستفيد من درس (الدوسة) يتسائل الأسواني ,ثمّ يُجيب:
معناها هؤلاء الناس ليس لديهم أدنى إستعداد لرؤية الواقع كما هو .
بينما لديهم كامل الإستعداد لخداع أنفسهم وتحوير أو تغيير الواقع ليتطابق مع مايعتقدوه من حدوث معجزة دينية .
ولو أنّك قلتَ لهم ليس هناك معجزة في الدوسة ,وأنّ بعضهم مات و(إتفعص) سيقولون لك :أزايّ بقا ؟ ياكافر ياعدو الدين!
أهل الدوسة لايريدون رؤية الواقع ,بل الأوهام التي يعيشون أو يحلمون بها!
الدوسة إنتهت لكن عقلية أهل الدوسة لم تختفي يوماً في بلادنا البائسة!
هؤلاء كُثُر من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ,وهم سبب رئيس في الحضيض الذي سقطنا به جميعاً !
***
الإسقاط النفسي:
psychological projection
هذه وسيلة دفاعيّة في علم النفس ,يلجأ إليها المرء عندما يشعر بداخلهِ أنّ ما يؤمن به أو يعتنقه أو يفعلهُ ,هو شيء خاطيء وخطير قد يودي الى التهلكة أو الفشل!
لذا يقوم بإسقاط تلك التهمة على الشخص المقابل الذي لايعتنق فكرتهِ أصلاً!
مثال : في قضية جزيرتي (تيران وصنافير) المصريّتان التي وهبها السيسي لدولة أخرى هي السعودية .السيساوية سيقولون للرافض أنتَ خائن ,لماذا ؟
لأنّهم في داخلهم يفهمون أنّ قبولهم التخلّي عن جزء من أرض مصر لدولة أخرى هو فعل خيانة وطنية ,لذا (وبسبب ولائهم للسيسي) سيقومون بإسقاط
تهمة الخيانة على الآخر المقابل الرافض للفكرة أصلاً !
مثال آخر : هو سدّ النهضة الأثيوبي على نهر النيل الأزرق!
هذا مثال فيه كمية رهيبة من الإنكار والإسقاط وإخفاء الجثث!
إثيوبيا كانت قد وقعت بعض الإتفاقيات مع مصر منذ 1902 بأنّ لا تبني سدّاً على النيل الأزرق دون موافقة مصر نفسها!
حصل الكثير من التقصير خلال فترات الحكومات المتعاقبة في مصر .
لكن الأسوء حصل عام 2015 عندما وقعّ السيسي مع رئيس وزراء أثيوبيا إتفاق مباديء يعترف بموجبه بحق أثيوبيا في بناء السدّ ,سدّ النهضة!
كذلك إعترف بحقّها في تشغيل السدّ بإرادة منفردة وليس بموافقة مصر!
كما تضمنّ هذا الإتفاق مادة تقول : لو أرادت أثيوبيا زيادة كميّة الماء المُخزّن في السدّ فعليها إخطار مصر بذلك!
(يا جماعة هناك فرق بين الإخطار والموافقة ,يقول الأسواني .الإخطار لا يستوجب الموافقة ,إنّما هو مجرد بلاغ لمن يهمه الأمر)!
كذلك هناك بند في الإتفاق يقول : في حالة نشوء مشكلة ما ,لايمكن الذهاب الى تحكيم دولي دون أن يجتمع الطرفان ويوافقان على ذلك!
(طب أثيوبيا حتروح معايا إزاي إذا كنت عاوز أشتكيها؟ يتسائل الأسواني)!
بعد كلّ هذا الكلام الموّثق نجد المدافعين عن السيسي يُنكرون ويُسقطون ويخفوون الجُثث ,كي لا يظهر السيسي كأنّه مُقصّر على الأقل ,هذه تسمى عبادة الزعيم!
***
الخلاصة :
علاء الأسواني يورد أمثلة عديدة على فكرة الإنكار أو إخفاء الجثث (حسب طريقة الدوسة الصوفيّة) .كحادثة المنشية (المزعومة) عام 1954 في الإسكندرية لإغتيال جمال عبد الناصر .كذلك حرب اليمن وإرسال عبد الناصر لـ 70 ألف جندي مصري من خيرة القوّات ,إنتهت بقتل آلاف منهم ثمّ الإنسحاب .تلك العملية كانت سبب مهم من أسباب هزيمة (نكسة) 5 حزيران 1967 أمام إسرائيل!
كذلك من الأمثلة الوحدة مع سوريا وما حدث خلالها من كبار ضباط الجيش المصري وقرارات التأميم وما شابه ,كل هذا قاد الى فشل الوحدة وفضّها ,لكن إخوتنا الناصريين (يقول الأسواني) مازالوا ينكرون ذلك ويخفوون الجثث!
ثمّ يضيف : يقول هؤلاء المنكرون أنّ الإمبريالية هي التي تقف وراء كلّ الإخفاق والفشل والهزائم التي لحقت بنا على طول الخط .ثمّ يجيب هؤلاء :
لكن الإمبريالية ليست مَن عيّنَ (عبد الحكيم عامر) قائداً للجيش وهو لا يصلُح ولم يتعلّم من العسكرية شيء من ساعة ما كان رائد .ومش الإمبريالية اللي كانت تجيب له ستات عشان يقضي معاها وقت ظريف ,بل المخابرات المصرية ذاتها هي التي فعلت .ومش الإمبريالية اللي علمته على المخدرّات ...الخ!
خطورة عملية الإنكار والإسقاط وإخفاء الجثث تقود الى ما يلي :
تمنع المحاسبة ,فلو كان (عبد الحكيم عامر) حوسب أيام فضّ الوحدة مع سوريا ,ربّما لم تكن هزيمة حزيران بذلك الشكل المهول!
الإنكار والإسقاط يقود الى الديكتاتورية التي تقود بدورها الى الكوارث من جميع الأنواع .كلّ شيء في حياتنا يصبح في الحضيض ,لا حريات سياسية لا شفافية حتى علماؤنا يهربون الى الخارج بل يصل التخلف حتى الى الفن والرياضة!
الديمقراطيّة هي الحلّ!!!
***
الروابط :
1 / هل انتَ من أهل الدوسة؟ علاء الاسواني ,ندوة نصف ساعة!
2 / إخفاء الجُثث في سدّ النهضة! علاء الاسواني ,ندوة نصف ساعة!
رعد الحافظ
20 ــ 07 ــ 2021