ملاحظة حول قوله تعالى : (نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم..) - البقرة 223
    الأثنين 26 يوليو / تموز 2021 - 12:44
    آية الله الشيخ إياد الركابي
     [المعلوم  من لغة الكتاب المجيد  إنها  لا تقبل الترادف  ،  وإن اللفظ   فيها   له   معناً  واحداً لا يتعدآه إلى غيره]   ، و قد فصلنا الكلام في ذلك فلا نعيد  ،  ومن أراد  مزيد بيان  فليراجع  ذلك  في محله    . 
        
      [كذلك   و لا يقبل  الكتاب  المجيد   التأويل  الزائد  أو  الفائض عن الحد ،   والذي   يكون عبئاً  على   ظاهر الكلام  ومعناه   فيخرجه  من سياقه  الذي ورد فيه  أو أراده ]   ، و السياق  :  هو -  وحدة الموضوع   -  المشار إليه   في  النص  ليكون  في  نسق واحد  مع ما قبله  وما بعده  ،   ومن لوازمه  عدم  الإخلال  بالمعنى ولا بالمبنى  الذي وضع له أو إليه      . 
    و لكي نفهم  النص  مورد البحث  ، يلزمنا  النظر  في السياق  الذي ورد فيه  والنظر   بما  قبله   ، يقول الله  تعالى    : - (   ويسألونك  عن المحيض ، قل هو أذى فأعتزلوا النساء في المحيض  ،  ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين  )  -  البقرة 222   ،   وأصل السؤال  هنا  يتمحور في صحة   العلاقة  الجنسية   مع  النساء  أيام  المحيض   -  متى وكيف  -    ؟    ،   فكان النهي  في الحالين  وإن ذلك ممنوع  وغير جائز  -  أي أن   العلاقة   الجنسية   بين  الذكر  والأنثى  أيام المحيض  غير جائزة  -   ،    مع الإحتفاظ   بضميمة  التصريح   بالجواز مطلقاً  في غير ذلك   ،   طبعاً  هذا  يكون    - بشرط   تحقق  معنى الطهارة  للمرأة   من الحيض - ،   والطهارة : -  هي  الشرط  الموضوعي اللازم  لصحة  العلاقة  الجنسية  -  ،  وهذا ما دلَّ  عليه  أخر النص  حيث قال     :  -  إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين -  ،  وعموم  الجملة الخبرية   بيان  وتعريف   بأهمية    التوبة  والطهارة  كموضوع  في صيغة الجمع   ،   فالتوبة   قيل   في شأنها   :  
        أن يكون المُراد  منها   متعلقها   الدال على  مخالفة  النهي  الوارد  في صدر النص   ،  أو   أن يكون   المُراد  من  النهي  الوارد   هو    الإمتثال لله   وطاعة  أمره   ، وهذا  هو الذي يحبه  الله  ويريد    .       
    ونفس الشيء  يُقال بالنسبة لمفهوم : -  إن الله يحب المتطهرين -   ، فالطهارة  هنا  مطلوبة  بذاتها  لذاتها   والتأكيد من الله عليها لأهميتها  ،  والإشارة  إليها  تأكيد  على أن  : - صحة العلاقة من صحة الطهارة -     ،  وهذه  الجدلية مضطردة ولازمة : أعني  إن   صحة العلاقة  هذه مرتبطة   بصحة  طهارة المرأة  من الحيض  ،  و لفظ الطهارة  إن جاء مطلقاً  دل على  العموم  في  كل  أمر ونهي  أو شأن من شؤون الحياة  المادية والمعنوية   ،   فمثلا ً  حينما  يقول الله  تعالى  : -  كتاب مكنون لا يمسه إلاَّ المطهرون -   الواقعة  79   ،   فهو هنا  لا يريد   طهارة  البدن  أو الجسد    بل  يريد  الطهارة الذاتية  (  المعنوية )    مع أهمية الأولى    ،   فالطهارة المعنوية  تعني الصفاء  من الإنحراف والزيغ والنفاق  ،  و الطهارة  في جميع  الأحوال   لازمة  من لوازم الحياة   ،  وهي هنا   جعلها  الله  واجبة  في صحة  العلاقة  الجنسية  وما يستتبع ذلك  من أثار ونتائج     
     . 
    فيما تقدم    كنا   قد  اشرنا  إلى   معنى و مفهوم   -  سياق النص  -  الذي ورد فيه ومعه   قوله  تعالى  :  - نسائكم حرث لكم  فأتوا حرثكم أنى شئتم   ...-  ،   ولفظ  النساء  إن جاء  هكذا معرفاً   فيكون  بمعنى  : -   جمع إمرأة     -   ،   وأما القول :   بأن  النساء  تأتي من  النسيء  الذي هو الزيادة  أو هو التأخير    ،  على وزن فعيل  ويكون  مصدرا   ، قال تعالى  : - (  إنما  النسيء زيادة في الكفر )  -  التوبة 37  ، فهذا  القول   لا يستجيب  للمعنى الذي يتحرك فيه النص  ويريده  ،  والتعليل المتأخر  بأن  النساء إنما سميت  كذلك   لأنها تأخرت في الخلق  من بعد خلق الذكور ،  تعليل  متهافت  لا يصمد  امام  البحث والتدقيق  ،   بدليل أن  الأناث  لم تأت  متأخرة  من جهة  الخلق   بعد الذكور  ،  والمعلوم  من جهة النصوص  والآيات  المجيدة  :  إنما تحدثت عن الخلق كوحدة واحدة  غير مجزئة أو منفصلة  شملت  أسم الجنس آدم   ،   ولذلك  جاء  أصل الخلق   تحت مسمى واحد  هو -  آدم  كما قلنا   ،   قال تعالى : -  إنا خلقناكم  من ذكر وأنثى -   الحجرات  13  ،   وقال تعالى : -  وبدأ خلق الإنسان من طين -  السجدة 7  ،  وقد ورد  في  خطبة الوداع   قوله  : -  كلكم لآدم  وآدم من تراب -   ،  أي إن الخلق في أصله عبارة عن مخلوق واحد أو من جنس واحد  متشكل  من  ذكور وأناث  وبأصناف وألوان متعددة     ،  وآدم   هذا  كما قلنا هو  أسم جنس  يشمل  الذكور والأناث  على حد سواء  ، فهما  إذن  من مادة  واحدة  وليس هناك  تقابل في الخلق كما تقول بعض مرويات أهل الكتاب  عن  حواء  في البيَّن  ،   وأما القول  :  بأن  الأناث  خلقت بعد  الذكور  فهذا القول مردود  من جهتي النص والإعتبار   ،  والأخبار الواردة في هذا الباب لا تصمد أمام النقد والتحليل      . 
      ويجب التنويه   هنا  إلى  أن  لفظ   -  النساء –  إذا  جاء معرفاً  فهو يعني   خصوص الأناث  حصراً   ولا يشمل الذكور ،  و هذا رد على ماذهب إليه البعض   ممن تأولوا   قوله  تعالى :  -  الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض -  النساء 34  ،   جاعلين  وظانين   خطأً  بان  لفظ   -  النساء   -  هنا  يعني الذكور والأناث  معاً ،   وهذا  كما ترون  وهمُ  ومخالفة صريحة   منهم  للسان  العرب   ،  نعم  يصح هذا  منهم   فيما  لو كان  لفظ  -  نساء -  جاء    منكراً ، فالتنكير في لغة العرب  يدل على العموم  والإطلاق   ،  وعبارة  - (  أو نسائهن )  -  مثلاً  حين تأتي  هكذا  ،  فإنها   تكون  عامة مطلقة  .    
      ولو سلمنا بمقالتهم   هذه  وأخذنا  بها   فهذا يعني  دحض   لما قلناه  سابقاً  وإلتزمنا به  من مبادئ  وأولويات  ،  حول  :  
    1 -   نفي القول بالترادف  في  الكتاب المجيد . 
    2 -   ونفي  التأويل الزائد والفائض عن الحد  . 
      والراجح  هنا  في هذا النص  - إن  لفظ  النساء   -  يعني  خصوص الزوجات  وليس  معنى النسيء  كما نُسب هذا القول إلى بعضهم    . 
    ونعود  لنسأل  و ما معنى  الحرث  في النص    ؟  ،  ولماذا أستخدم  هذا اللفظ هنا  ؟  ،   يقول العرب :   إن  الحرث  من  حرث يحرث  حراثة   ،  على وزن فعل يفعل فعلا  ،   وهو فعل  يقوم به  الإنسان  حين يريد  أن يزرع  شيئاً ما    ،  أي  إنه  الفعل الذي به  تصير  الأرض صالحة للزراعة  أو يجعلها كذلك   ،  كان هذا هو الحيز الذي تستخدم فيه الكلمة   ،  ولكن  اللفظ  توسع  في  الأستخدام  تبعاً لجملة أستخداماته  الحياتية  ،   وقد   جيء به هنا  لوجود علاقة ذهنية  ومعنوية معه في الدلالة    . 
    نعم هناك  ثمة علاقة   بين لفظ الحرث  وما تتطلبه صحة  العلاقة الجنسية   ،  وإذا  كان  المدلول  العام  للفظ -   حرث  -  يشير  إلى ما يكسبه  المرء من غلال   ،   فإنه حتماً  لا يشير  إلى  الغلال  نفسها   كما توهم البعض    ،   ونفهم ذلك  من قوله تعالى   : -  ويحكمان  في الحرث  إذ نفشت فيه غنم القوم -  النساء  78  ،  فالحرث هو تسوية الأرض لتكون صالحة للزراعة    ،   وأما  الغلال  فهو ما ينتج  من هذه الأرض بعد حراثتها     ،  قال  تعالى  : -  ومن كان يريد  حرث  الدنيا -  الشورى 20  . 
       ولا بد  من الإشارة  إلى أن  اللفظ   إنما  جيء به  كصفة مشبهة   من باب الإستعارة والمجاز     ،  وهو تشبيه بلاغي  وظف هنا   فيما يحصل  للرجل  و المرأة حال القيام  بالعلاقة الحميمية  ،  والصفة المشبهة في لغة  العرب  جرى  توظيفها بكثافة   ،  وهكذا فعل  الله  حينما جعل فعل   المزارع  حين يسقي  زرعه  بالماء  شبيهاً  لما يفعله الذكر  بالأنثى   ،  قال تعالى : -  أن أغدوا على حرثكم -  القلم 22  ،  أي تابعوا مصدر رزقكم ومايؤدي إلى نمائه وكثرته ،   وحين يأتي الله بهذا اللفظ  فهو يريد  بيان الغاية من العلاقة  الجنسية بين الذكر والأنثى وما ينتج عنها ،  فهي بمثابة الزرع في المكان المهيء والمناسب لذلك  ،  ولا يخلو الكتاب المجيد من أدوات التشبيه والمجاز تلك  ،  لما لها  من  أهمية  في  تحرير الكلام  وإخراجه من سكونه ونمطيته المملة  ،  كما هي  عادة الجمل  و الألفاظ المباشرة ،   و التشبيه  ليس قياساً   قال  دريد  بن الصمة ذلك    ،  فيكون -  الحرث  -  لفظ جيء به  هنا  من باب الإستعارة والمجاز  ،  وكما قلنا في البدء  :  بأن النص  222 من سورة البقرة   ،   قد  ركز على مفهومي  النهي   أيام المحيض  والإباحة  عند الطهارة   ،  بحيث جعل  من الإباحة  رهنا   بصحة متعلقها وهو الطهارة  ،  ثم جعل ذلك بمثابة الأذن العام   لما يؤدي إليه الفعل  وما ينتج عنه من نسل وذرية بشرطها    ،  إذن هو نهي من جانب  وتقرير من جانب أخر  فيما تصح   به  العلاقة الجنسية  وفيما لا تصح   به   . 
      وإعتبار  لفظ -  أنى شئتم -   إستثناءاً  منقطعاً   دالاً على الحصر  في الحيز والمكان الذي يكون منه النسل والذرية ،  وليس هو إجازة للفعل من القبل والدبر   ،  كما ذهب إلى ذلك نفر من المتفقهة على قول بالكراهة  ،  أو كما هو  مذهب  بعض  الطوائف وممن هم في صنفهم وشاكلتهم   من الشواذ  ،   و قاعدة النهي والمنع  التي نتبناها  قياسها تام  يشمل  كل ما سوى المباح    من العلاقات الجنسية  المنصوص عليها   . 
      ولا يجوز  بحال إعتماد  - التأويل الزائد والفائض عن الحد  -  في إعتبار  معنى   النساء في النص 223 من سورة البقرة هو النسيء ، لأن ذلك  تأويل وتبرير  ومماطلة  لا تخلو من عناد  ،  كذلك  ولأن ذلك  لا يستقيم  مع  طبيعة النص ومُراده  ، ولو تتبعنا مجرى سير قوله تعالى  : -  إنما النسيء زيادة في الكفر -  البقرة 37   ،  فإننا سنجد هذا  القفز  على المعاني والألفاظ  لا لسبب وجيه  إنما لمجرد المخالفة  ، وهذا  كما ترون  غير لائق  من جهتي  العقل والنقل   ،   كذلك هو خلاف صريح لكتاب الله ولسانه العربي المبين   ،     وأما  التعليل   الذي ذهبت  إليه طائفة من المسلمين   في   معنى   قوله   -  أنى  شئتم    -   فلا يصح  مطلقاً  مع   -  الكيف -   ،   والذي  يخرج معنى الطهارة من مضمونه   ومعناه   الذي وضع له    ،  وقد أخطأ   أبن كثير  في تبنيه  وروايته  لبعض  الأخبار  في هذا الشأن  ،   كما أخطأ الكثير من المتفقهة ومن رجال الدين الذين نعرفهم   ،  في إعتمادهم  على أخبار  ومرويات  عارية من الصحة  سنداً ودلالة  ،   وما قيل في صحة سندها  فهو تبرير  من جهة الوضاعين    وما كان يُراد من تلك الأخبار     ،  ولم يتفرد  أبن كثير في ذلك بل هي أخبار وجدناها  عند البخاري وفي الكافي  وفي كثير من الكتب   التراثية  ،  وعليها   أستندت فتاوى  البعض  من  المتفقهة  ممن  أفتوا  وقالوا بذلك    !!  ،  وللمثال  مارواه  البخاري  في ذلك   ،  قال  حدثني يعقوب ، قال حدثنا أبن عُليَّه  ، حدثنا إبن عون عن نافع قال : - قرأت ذات يوم ( نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم )  ، فقال إبن عمر :  أتدري فيم نزلت  ؟  ،  قلت  : لا قال ، نزلت في إتيان النساء في أدبارهن -  ،  قال الطحاوي  : حكى لنا محمد بن عبدالله بن عبد الحكم ، أنه سمع الشافعي يقول : -  ما صح  عن النبي  في تحليله ولا تحريمه شيء ،  والقياس  أنه حلال ، وقد روى ذلك أبوبكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي  عن أبي العباس الأصم سمعت محمد بن عبدالله بن عبدالحكم سمعت الشافعي يقول ، فذكره قال أبو نصر الصباغ  .    
    ومارواه  الطبري   قال   :   -   حدثني يعقوب  ،  قال حدثنا هشيم ،  قال أخبرنا ابن عون عن نافع قال  : كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم ،  قال  :   فقرأت ذات يوم هذه الآية     -  نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ  -     ،  فقال   : أتدري فيمن نزلت هذه الآية  ؟   قلت  :  لا  قال نزلت في إتيان النساء في أدبارهن   -  ،    والمثير ان كتب الرجال  أعتبروا  هذه الرواية صحيحة سنداً  ،  لأن  رواتها  من الثقات   ،  فيعقوب  هذا  هو  :   -    الحافظ أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي البغدادي    ،   قال عنه أبو حاتم  : صدوق   ، وقال النسائي  : ثقة   ، وذكره ابن حبان في الثقات  ، وقال الخطيب   : كان ثقة متقناً صنّف المسند   ، وقال مسلمة   :     كان كثير الحديث ثقة    ، وأما هشيم فهو :     هشيم بن بشر بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية    ،  وهو من الثقات الأثبات عند أهل السنة وممن اتفق الستة على إخراج حديثه   ، وابن عون هو   :     عبد الله بن عون بن أرطبان المزني الخزاز البصري      ،  وهو كسابقه من الثقات الأثبات عندهم   ،    وهو  ممن اتفق أهل الصحاح  على إخراج حديثه   ،   أما نافع فهو مولى ابن عمر   ،   وقد وصفوه بأنّه ثقة ثبت فقيه   ،   وهو كالذين سبقوه ممن اتفق أصحاب الصحاح الستة على إخراج حديثه. 
    والخلاصة : إن تفسير الكتاب المجيد وقع فيه خللا كبيرا ، من خلال الإعتماد الساذج على مرويات وأخبار تتعارض وصريح الكتاب ، والمؤسف ان بعض من الفقهاء قد أفتى بالجواز من غير حتى ان يدقق أو يبحث أو يناقش ، إنما أسترسل في النقل عن الغير دون متابعة أو تصحيح وتدبر ، ومن هنا فقد أصاب الكتاب ما أصابه من تفاسير أوهنت الناس وشتت عليهم المعقول من المعاني ، وفي ملاحظتنا هذه أردنا التنوية والإشارة إلى إمكانية وضع حد لهذا التسويف ، وهذا الإعتماد على أهل التراث من غير نظر وتأمل ، وغايتنا هي البيان ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، وما توفيقنا إلاَّ بالله ..

     
    آية الله الشيخ إياد الركابي  
    16 ذي الحجة 1442 هجرية  
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media