الشماعات التاريخية
    الأثنين 2 أغسطس / آب 2021 - 08:19
    د. خالد منتصر
    كاتب مصري
    لاحظت أثناء بحثى فى موضوع الفتنة أن كل كتب التاريخ التراثية اتهمت شخصاً واحداً بأنه السبب فى كل تلك الدماء التى أريقت، الشخص هو اليهودى الذى أسلم فى ما بعد «عبدالله بن سبأ».

    عقلى لم يقتنع بأنه من الممكن أن يتسبّب شخص مهما كان شريراً فى خداع كل هؤلاء الصحابة، والوجود فى البصرة والكوفة ومصر ومكة والمدينة وصنعاء.. إلخ، لتخطيط الدسائس ووضع المؤامرات وكأنه سوبرمان! سكننى يقين بأن مشكلتنا هى فى الجبن من مواجهة أنفسنا بأخطائنا، وأن سبب تخلف أى أمة أو شعب أو تجمع بشرى هو قدرة أبنائه على تبرير أخطائهم وتخدير ذاكرتهم، والالتفاف والمراوغة واختراع الأسباب والحيل، إنها الشماعة التى نعلق عليها خطايانا لذلك لا نتعلم، وإذا لم نتخلص من مرض الشماعة التاريخية المزمن لن نتعلم. تخيل كتب التاريخ تتّهم عمار بن ياسر بالتآمر مع عبدالله بن سبأ لإحداث الفتنة وقتل عثمان، بل وصل الأمر إلى أن عمار هو نفسه «ابن سبأ»! عمار بن ياسر، الأيقونة التى تحمّلت العذاب، والذى قال عنه الرسول إن قاتليه هم الفئة الباغية، وتتهم أبا ذر الغفارى بالتهمة نفسها، وهو القامة والقيمة التى نذرت نفسها للفقراء، كل هذا للوصول إلى أن تلك الفتنة مؤامرة خارجية.

    الكلام نفسه الذى تردده أمتنا لتفسير كل عثراتها وتأخرها عن باقى الأمم، المؤامرة الخارجية الصهيونية العلمانية الماسونية.. إلخ، كل زمن نخترع عبدالله بن سبأ جديداً لكى نجعله شماعة، ونفضّل أن نكون مخدوعين ساذجين على أن نكون مخطئين.

    طه حسين كان من أوائل الشجعان الذين واجهوا ظاهرة الشماعة التاريخية، لذلك سأظل أعتبر هذا العملاق هو أبوالتنوير فى العالم العربى، وأن إجهاض مشروعه التنويرى الفكرى كان مطلوباً وبشدة من تيار الفاشية الدينية التى سيظل طه حسين هو أكبر وأخطر عدو لهم حتى وهو فى قبره، ماذا قال العظيم طه حسين فى كتاب «الفتنة الكبرى» عن شماعة عبدالله بن سبأ، اسمعوا واعوا، قال:

    «وأكبر الظن أن عبدالله بن سبأ هذا -إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً- إنما قال ما قال ودعا ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يُثِرها. وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا فى أمر عبدالله بن سبأ هذا؛ ليُشككوا فى بعض ما نُسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليُشنعوا على علىٍّ وشيعته من ناحية أخرى؛ فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودى أسلم كيداً للمسلمين. وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة! وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم فى أمر عثمان وفى غير أمر عثمان!

    فلنقف من هذا كله موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكْبِر المسلمين فى صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت أمه سوداء، وكان هو يهودياً ثم أسلم، لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً. ثم أتيح له من النجاح ما كان يبتغى، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرَّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

    هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغى أن تُقام عليها أمور التاريخ».

    تعالوا نقرأ طه حسين مرة أخرى لنرمى كل شماعات التاريخ فى البحر، ونبدأ فى التعلم من أخطائنا ولا نستكبر أو نتعالى.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media