يعد ميرزا محمد حسين النائيني (1239-1315 هـ) أحد المراجع الدينية التي تلي المراجع الثلاثة لحركة المشروطة في النجف. ولعبت آراؤه دوراً مهماً في تعزيز وجهات نظر أنصار حركة الدستور (المشروطة)، وإنعكست هذه الآراء في مؤلفه المعروف "تنبيه الأمة في وتنزيه الملة" الذي صدر في عام 1288هـ (1909 م). وقد أوضح في هذا المؤلف: إن الاستبداد الديني هو في واقع الحال حكومة استبدادية له سمة مشتركة مع الأنظمة الاستبدادية الشائعة في العالم. ولكن أؤلئك الذين يرتدون لباس الدين ويعرفون أنفسهم كرجال دين في المجتمع، ويبدون وجهة نظرهم بإسم الدين أمام أمة جاهلة ليس لديها أي إطلاع بشؤون الدين، فهم يهدفون إلى فرض الطاعة على أفراد المجتمع".
وتتضاعف أهمية وجهات نظر النائيني هذه عندما نعلم أنه ينفي تماماً موضوعة ولاية الفقيه، على غرار معاصره الملا محمد كاظم الخراساني (1218 - 1290هـ) الذي قدم هو الآخر الدعم لحركة المشروطة بإعتبارها الأداة الفعالة لمواجهة ظلم وإستبداد الشاه.
وعرّف ميرزا محمد حسين النائيني الفرق بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني في أمرين:
1- الاستبداد الديني هو وليد تفسير الدين، ولكن سائر أشكال الإستبداد الأخرى ليست على هذه الشاكلة.
2-في أنظمة الاستبداد الأخرى ، يتم استخدام القوة والسيف والعسكر فقط ، ولكن في الاستبداد الديني ، يتم استخدام "الخداع والتدليس" أيضاً.
ومن وجهة نظر النائيني، يستخدم أرباب الاستبداد الديني قوة التزوير والخداع لسلب عقول الناس وضميرهم وقلب الحقائق رأساً على عقب في أعينهم.
إن أؤلئك الذين لا يعتبرون أن تشكيل الحكومة الدينية والاستبداد الديني على أساس نظرية الفقيه المطلقة، بعد الثورة التحررية الشعب الإيراني ضد النظام الملكي الاستبدادي، هو نتيجة "الخداع والتدليس"، ما عليهم إلاّ أن يلقوا نظرة على أول لقاء صحفي لآية الله الخميني أجرته مراسلة صحيفة لوموند الفرنسية لوسين جورج بتاريخ السادس عشر من أيار عام 1978.
ويورد إبراهيم يزدي في المجلد الثالث من مذكراته فقرات من هذا اللقاء الصحفي ويشير: "وهكذا توجه صادق قطب زاده ولوسيان جورج ... إلى النجف في العراق من أجل إجراء لقاء صحفي مع الخميني. وقام صادق قطب زاده بكتابة أسئلة لوسيان جورج و أجاب السيد الخميني على الأسئلة بعد التشاور مع قطب زاده. لقد كانت هي المقابلة الأولى للزعيم الراحل للثورة مع أشهر صحيفة أوروبية، وربما كانت هي المرة الأولى التي يفصح زعيم الثورة الخميني خلالها عن مواقف الثورة ومطالب الشعب الإيراني على نطاق واسع في الصحافة الغربية المرموقة. ولقد جذبت المقابلة الكثير من الاهتمام، ثم نُشرت الترجمة الإنجليزية لهذه المقابلة لأول مرة في صحيفة الغارديان اللندنية ومن ثم في صحيفة لوس أنجلوس تايمز، التي حصلت على 11000 دولار لقاء نشر المقابلة"، حيث نشرت الصحيفة المقابلة كإعلان عندما رفضت صحيفة نيويورك تايمز نشرها ".
في هذه المقابلة تحدث آية الله الخميني عن كل شيء ما عدا الحديث عن حكم رجال الدين وسلطة ولاية الفقيه المطلقة. فقد اعتبر أن الشاه منفذ السياسة الإمبريالية، وحاول إبقاء إيران في دائرة التخلف. وإن نظام الشاه هو نظام دكتاتوري. وقد تم تدمير الحريات الفردية والانتخابات الحقيقية والصحافة والأحزاب في ظل هذا النظام. ويجري فرض النواب من قبل الشاه خلافاً للدستور. كما يحظر عقد الإجتماعات السياسية والدينية. وينعدم استقلال القضاء والحرية الثقافية على الإطلاق. ولقد اغتصب الشاه السلطات الثلاث".
وتابع الخميني قائلاً: "إن المجتمع الذي نفكر في إقامته، سيتمتع الماركسيون في ظله بحرية التعبير عن أنفسهم؛ لأننا واثقون من أن الإسلام هو الحل لتأمين حاجات الناس. وإن إيماننا لقادر على مواجهة أيديولوجيتهم. في الفلسفة الإسلامية، ومنذ البداية ، أثير موضوع أولئك الذين أنكروا وجود الله. لم نحرمهم أبداً من حريتهم أو نؤذيهم. فكل فرد يتمتع بحرية التعبير عن رأيه، ولكن ليس له الحرية في التآمر".
أما فيما يتعلق بقضية دور المرأة في المجتمع، فأشار آية الله الخميني: "أما بالنسبة للمرأة ، فإن الإسلام لم يعارض حريتها أبداً، بل على العكس ، فقد عارض الإسلام مفهوم المرأة كسلعة وأعاد لها كرامتها. المرأة متساوية مع الرجل. والمرأة مثل الرجل تتمتع بحرية اختيار مصيرها وأنشطتها ؛ لكن نظام الشاه هو الذي يحاول منع النساء من التحرر بإغراقهن في أمور غير أخلاقية. إن الإسلام يعارض ذلك بشدة. إن النظام الملكي، بالطبع ، دمر وداس على موضوعة تحرير المرأة مثل الرجال. وتمتلأ السجون الإيرانية بالنساء ، شأنهم في ذلك شأن الرجال. وهذا هو المكان الذي تتعرض فيه حريتهن للتهديد والمخاطر. إننا نريد تحرير النساء من الفساد الذي يهددهن ".
في نهاية هذه المقابلة، وبعد 14 عاماً من الصمت ، يذكر آية الله الخميني حتى أن الدستور الذي صدر من قبل حركة المشروطة ، بشرط تعديلها ، يمكن أن يشكل أساس الدولة والحكم التي نوصي به.
هل يعتقد القارئ أن الخميني باستخدامه لغة غير تلك اللغة في هذه المقابلة، سيكون من الممكن تشكيل خطاب حديث للثورة الإيرانية وانتصارها في نهاية المطاف؟
هل يعتقد القارئ أن آية الله الخميني كان يؤمن حقاً باللغة والأدب المستخدم في هذه المقابلة، أم أنها فقط مرحلة يجري بعدها الانتقال إلى إرساء قاعدة ولاية الفقيه عبر هذا الخطاب؟ وهل أن صنّاع هذه اللغة يستخدمون أداة الخداع فقط لتمرير خططهم؟
- وهل أن هذه النية والعزم على الغش موجودة منذ البداية في سر قائد ومؤسس الجمهورية الإسلامية، أم أنها خلقت وفرضت عليه حفاظاً على وحدة الوطن والثورة؟
- وهل يمكن لنظام تم إنشاؤه بهذه الطريقة من الخداع والغش أن يعتبر نظاماً إلهياً ومقدساً؟
-وهل من الممكن قانونياً وحتى فقهياً إعتبار مقاومة نظام تم تشكيله بالخداع والحيل هي مقاومة غير شرعية تواجه بعقوبات دنيوية قاسية، كما هو الحال الآن حيث يتعرض الناشطون السياسيون والمدنيون في سجون إيران الإسلامية ومعتقلاتها إلى أقسى العقوبات؟. في حين أن آية الله الخميني نفسه ذكر في نهاية عام 1978 في نوفل لوشاتو أمام تجمع للطلاب الإيرانيين المقيمين في الخارج، "إن الثورة على السلطان الجائر واجب شرعي إلهي".
وأخيراً ، إذا كانت هذه الشروط قد فُرضت على آية الله الخميني ورجال الدين رغماً عن ميولهم وإرادتهم ، فهل هم على استعداد لتهيئة الظروف والأمكانيات التي التي بموجبها إعادة زمام الحكم إلى الشعب، أي إلى أصحاب القرار، وعودة رجال الدين إلى واجبهم ودورهم الإرشادي في الشؤون الدينية؟ الدور نفسه الذي أكده آية الله الخميني في أكثر من 286 مقابلة في باريس أمام العالم.
وبحسب المذهب الذي يعتنقه رجال الدين الإيرانيون في عصر الحضور، فإن "العصمة" هي شرط من شروط الإمامة والقيادة، ولذا فإن الحاكم غير المعصوم يعتبر حاكماً جائراً، وإن تدخله في شؤون الحكم هو غير شرعي وضرب من الإغتصاب، وإنه غير مأذون من قبل " الإمام الأصل" وغير شرعي في عصر الغيبة. وعليه، فإن الهيئة الحاكمة غير شرعية، وليس لها الحق في الحكم، وسيكون للمواطنين الحق في التمرد على مرحلتين من "الإنكار والرفض" لقبول حكمه و "النضال والانتفاضة ضده".
بقلم الكاتب الإيراني مصطفى قهرماني
المصدر: موقع ايران-امروز
ترجمة عادل حبه