قراءة في كتاب نبيل الربيعي (المسيحيون في العراق بين عراقة التاريخ وأزمات التهجير)
د. نصير الحسيني
المسيحيون في وادي الرافدين لهم تاريخ موغل في القدم، ويمثل جزءاً من حضارة وتاريخ العراق عِبرَ عصوره المختلفة، ويتحفنا الباحث الجاد نبيل الربيعي بمؤلفه الجديد (المسيحيون في العراق.. بين عراقة التاريخ وأزمات التهجير)، متنقلاً بين عراقتهم التاريخية وأزمات التهجير التي عانو منها نتيجة تقلبات الوضع السياسي المعقد في العراق عِبرَ التاريخ، ورسم كتابه في ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة وأكثر من (250) مصدر ومرجع جمعها في 258 صفحة من الحجم الوزيري.
تناول الربيعي في الفصل الأول الجذور التاريخية للديانة المسيحية في بلاد الرافدين، ومنهجهم اللاهوتي، والثالوث المقدس، وبحث عن السيد المسيح (ع)، وتطرق الربيعي إلى مفاهيم التنزيه، والتشبيه، وصفات الله عندهم، وحرية الإنسان، فضلاً عن التوحيد، إضافةً إلى النسطورية، واليعقوبية، والملكية.
ثم يتطرق الباحث في الفصل الثاني من كتابه إلى العبادات، والصلاة والأعياد، والصيام والفرق المسيحية، والأناجيل الأربعة، والأناجيل المنحولة، والطوائف المسيحية في العراق. تمثل الصلاة في المسيحية صلة الشخص بالله، وتتلخص في القول صفحة 40: (فمتى صليت فادخل إلى مخدعكَ وأغلق بابكَ وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك في الخفاء يجازيكَ علانيةً). وتكون الصلاة بطهارة القلب والتطهير من الشهوة، وغض البصر والابتعاد عن (الحسد والكره، والحقد، والكبرياء، والغيرة، والغش، والخداع، والكذب وإلى غير ذلك. ثمَ يعرج إلى أعيادهم الطقسية عبرَ سبعة أزمنة تختلف في مدتها، ومن أعيادهم: عيد الميلاد، وعيد معمودية يسوع في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، وعيد الفصح (البباسكا) عيد القيامة، وغير ذلك من الأعياد، ويتطرق إلى الصيام – والصيام في المسيحية يعد فترة انقطاع عن الشهوات الجسدية والروحية، وينقسم الصيام إلى الصوم الكبير، ويتم صيامه قبل عيد القيامة، والصوم الصغير ويتم قبل عيد الميلاد. ويمثل الصوم عمل تعبدي وليس فريضة، والهدف منه التذلل والتواضع بين يدي الله.
وكسرً في الفصل الثالث من كتابه على الكنائس والأديرة في العراق والأقوام التي تبنت المسيحية مروراً بالتبشير، وعلماء مملكة حدياب، ويذكر الباحث في صفحة 65 يقول: (انتشرت الأديرة في أواخر القرن الرابع الميلادي في أطراف العراق، وقادها عراقيون ربطوا بين الإيمان والعلم)، ويمر الباحث على بعض الكنائس، مثل كنيسة بابيرا، وكنيسة قصر سويج، ومصيفنة، وخربة دير سيتون، وبازيان، والخضراء، وكنيسة مار جرجيس، والطقوس الدفينة، والعبيد، والبو عجيل، وعُمر كسكر، وسواها من الكنائس والأديرة المختلفة والمتناثرة في العراق.
ويعرج الباحث نبيل الربيعي في الفصل الرابع على المسيحية في ظل الإسلام، وما تلاه من عصور وصولاً إلى العهد الجلائري، ويذكر دورهم الثقافي في الأدب والترجمة وإلى غير ذلك من الاهتمامات. ويشير في صفحة 125 إلى بعض ما أشارت له المصادر المسيحية التي أهملها المسلمون لأسبابٍ عديدة منها بسبب كتابة موروثهم باللغة السريانية. ثم يتطرق إلى علاقتهم بالإسلام، وصلتهم مع نبي الرحمة محمد (ص)، ثم ينحو إلى وضعهم في عهد الخلفاء الراشدين، والأمويين، والعباسيين، وبعدها إلى درجاتهم الكنسية حسب لوائح الكنيسة الشرقية.
يتناول الربيعي في الفصل الخامس المسيحية في ظل الدولة العثمانية وحالهم وطوائفهم ومعالمهم الاجتماعية ومكانتهم في دستور عام 1874م، ودورهم في التعليم، وأماكن تواجدهم، ويمر على المسيحيين في الموصل، ويعدها من المناطق المهمة للمبشرين المسيحيين، ويتحدث عن دور الكنيسة الشرقية وواقع طوائفها.
ويلتفت الباحث إلى معالمهم الحياة الاجتماعية العراق ويقول في صفحة 218: (عندما جاء عبد المجيد عام 1856م أصدر مرسوماً تضمنت بعض فقراته نصوصاً في حقوق الطوائف غير المسلمة وفي مقدمتها اليهود والنصارى)، ثم يوضح الباحث دور دستور عام 1874م الذي أدخل مفاهيم الديمقراطية الجديدة أبان حقبة الدولة العثماني.
ومن المسائل المهمة التي يعرج عليها الربيعي مذبحة الأرمن في عهد السلطان عبد الحميد، حيث يقول في صفحة 235 بين عامي 1894م و1896م حدثت سلسلة من المذابح الدينية من قبل قوات الدولة العثمانية ضد كل من الأرمن والآشوريين المسيحيين والمعروفة باسم المجازر الحميدية، ويختم فصله بدورهم في التعليم وأماكن تواجدهم في العراق.
ويتطرق الباحث في الفصل السادس "إلى مسيحيو العراق في العهد الملكي وما عانوه من اضطهاد فضلاً عن اضطهاد الآشوريين في العراق، ويلتفت إلى معركة ديروان وهي قرية تقع على المثلث الحدودي بين (تركيا، سوريا، العراق)، ويصف ما جرى فيها من سفك للدماء، وتهجير، وإلى غير ذلك من المحن التي لاقوها. ومن ثم يكشف الربيعي الغطاء عن مجزرة سُميل التي وقعت في زاخو عام 1933م.
ويتحدث الباحث عن دورهم النيابي لاحقاً وأبرز النواب المسيحيين في المجلس النيابي، ويقلب بعض من أوراقهم مثل ثابت عبد النور والخوري يوسف خياط الموصلي وسليمان غزالة ويوسف غنيمة ويوسف عبد الأحد، ورزوق غنام وسليم حسون ويوسف حبيب ، ويوسف سركيس ورفائيل بطي، ويعقوب مراد الشيخ ووديع جبوري وتوفيق السمعاني وعبد الأحد عبد النور، ومتي فتح الله سرسم، وحنا خياط ونجيب الصائغ وعزت مراد الشيخ ويوسف رسام ولطيف حكيم.
ويكسر الربيعي فصله السابع عن مسيحيي العراق في العهد الجمهوري، حيث يمر على حركة الشواف في الموصل، والمسيحيون في العهد العارفي وما تلاه من عهود مجحفة بحقهم، ويلتفت إلى مذبحة صوريا عام 1969 في عهد حكومة البعث، ويختم فصله بما عانوه من حيف وصولاً إلى عام 2003م، حيث الاحتلال الأمريكي للعراق.
ويرسي الربيعي قاربه البحثي في فصله الثامن عن المسيحيين بعد عام 2003م، والأزمات الكبرى التي عانوا منها من اختطاف وتهجير وعبث عناصر داعش الإرهابي بمدينتهم الموصل، وصولاً إلى زيارة البابا الأخيرة إلى العراق. ويعدد الربيعي عدد الكنائس والمزارات التي فجرت قبل منتصف عام 2014م وعدد القتلى المسيحيين، وعدد النازحين والتهجير وما عانوه من تطهير عرقي.
صدر الكتاب عن دار الفرات للثقافة والإعلام بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر عام 2021، ويعد الكتاب التاسع عشر للباحث الربيعي بعد إصداره مجموعة غير قليلة من الكتب، تناول فيها تاريخ يهود العراق، وتاريخ الديوانية واعلامهم، وتاريخ الصابئة المندائيين في العراق، والديانة البابية والبهائية، فضلاً عن أنه كتب عن عدد غير قليل من الأعلام مثل الشيخ إبراهيم القطيفي، وأنور شاؤول فضلاً عن كتابه التوثيقي عن الانتفاضة الشعبانية في الديوانية، وعن الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية وسواها من المؤلفات التي تهتم بالجوانب التاريخية والدينية؛ وإلى غير ذلك من البحوث الكثيرة التي تهتم بكتابة وارشفة تاريخ الأقليات في العراق.
أبارك للباحث نبيل عبد الأمير الربيعي هذا الإنجاز، ومما يجدر الإشارة إليه أن للربيعي مجموعة مخطوطات تنتظر عرس ظهورها.
العراق- الحلة – الأول من تموز 2021