"الى أخي الأستاذ فاروق عبد الجبار البصري، أشكرك على إرسال هذه الأغنية التي هي واحدة من مرسولاتك التي تتحفني بها."
استمعت الى أغنية "القنطرة" بصوت ملحنها كوكب حمزة بتوقيع عوده الجميل، والتي خصّ بها الفنان سعدون جابر، وبرغم حبي لهذه الأغنية بالذات إلا أننى أتحاشى سماعها لسبب ذاتي وموضوعي، فهي تنكأ جروحاً غائرة لم تندمل بعد وتثير شجوناً وتقلّب مواجع! وهي من كلمات المبدع المُغيَّب في لبنان إبان أيام الحرب الأهلية، وأعني الشاعر ذياب كزار "أبو سرحان"..
ثانياً: إن أداءها الرائع من قبل كوكب يُفسده صوتُه الذي غدا في السنوات المتأخرة ذا بَحّة مستحكمة جعلته أجشّا، بسب الإفراط في تناول "السوائل" المثلجة وإفراط في التدخين كما صرّح هو في لقاء له مع إحدى الفضائيات العربية!!
ولا بد من وقفة مع الفنان المتميز كوكب حمزة، هو ملحن موهوب وذكي عرف كيف يُخرج الأغنيةَ العراقية من الحالة النمطية وتبعيتها المقام العراقي وبستاته، وأن يمزج بين الأصالة والحداثة.. وأحسب أن الأصالة لها النصيب الأكبر في ألحان كوكب حمزة، وهي تدل على ثقافته الواسعة واطلاعه على شتى فنون وألوان وقوالب التراث الغنائي العراقي..
وأعني بذلك إن ألحانه تضرب في جذور التراث الشعبي الغنائي، من بدوية العتابة والركباني والسويحلي والنايلي.. الى الريفي المتمثل بالأبوذية والموال والمحمداوي.. والمقام العراقي وبستاته، ..بل إنك تجد في الحانه شيئاً من تراث الفرات الأوسط - حيث ولد عام 1937- في إحدى قصباته "القاسم" من أعمال بابل، لذا تجد المستمع المرهف يتحسس لمسات الرَّدات (الترانيم) الحسينية في كربلاء والنجف..وقد تلمس ذلك بوضوح في "القنطرة بعيدة" باستثناء الكوبليه قبل الأخير " لا لا يبرد الصبح..." حيث يصبح التمبو سريعاً لحناً وإيقاعا..
كنت أتمنى لوغنّى هذه الأغنية الفنان فاضل عوّاد، لرخامة صوته ولتلك البحّة الخفيفة التي تزيد صوته شجنا بما يتلاءم مع الجو الميلودي الحزين للأغنية وكلماتها..ولا أقلل قط من صوت الفنان سعدون جابر الذي هو أقرب لأغانٍ من النوع المبهج أو الراقص بالنظر لمسحة معدنية خفيفة تغلب صوته ولا أدل من إبداعه في ما غنّى من قبيل "ياطيور الطايرة"و"يانجوى"..الخ.
يوصَف الفنان كوكب حمزة بأنه مكتشف النجوم وخير من اكتشف هو الفنان حسين نعمة بأغنية "يانجمة" من كلمات الشاعر كاظم الركابي، وهي مستمدة من أغنية عراقية قديمة "مارابط" من الرست وقد أدخل عليها إضافات ولواحق موسيقية بحيث أن من يسمعها من المدينة ومن الريف ومن البادية سيطرب لها وسيحس أنها أليفة على مسمعه..وممن اكتشف أيضا الفنان المأسوف على رحيله المبكر رياض أحمد.. كما أشتهر بلحنه للأغنية سالفة الذكر " ياطيور الطايرة" التي غناها الفنان سعدون جابر من كلمات الشاعر زهير الدجيلي..
أحسب أن كوكباً كان ممن أعطى زخماً لدفع الأغنية السبعينية لتعم العراق ولتلغي الفواصل بين الريف والمدينة والبادية فهي أغنية مستكملة للملامح العراقية بفضل ملحنين آخرين من قبيل طالب القرغولي ومحمد جواد أموري ومحسن فرحان وكمال السيد وحسين السماوي وجعفر الخفاف إضافة لكوكب حمزة وآخرين لا يسعني ذكرهم.. كانت الأغنية السبعينية نقلة منسابة وغيرمنقطعة عن مجمل التراث الغنائي العراقي فقد سمعها العراقيون من أقصى شمال العراق حتى أقصى جنوبه وعبرت الحدود الى الدول العربية بما في ذلك أم الغناء مصر عن طرق العمالة المصرية الواسعة في السبعينيات وما تلاها حتى احتلال العراق..
بدا كوكب متوهجاً في السبعينيات وأراها فورة سنوات إبداعه وزملائه الذين واصلو العطاء ومازالوا نشطين باستثناء من غادرنا منهم، بيد أن كوكباً خَفَت وهجه وشحّ عطاؤه بينما أجد أن الغربة وآلامها يمكنها أن تكون باعثا للعطاء والتقدم لأي فنان أوشاعر..
لأنها غربة أولاً، ولأنها تتيح له أن يتعرف عن كثب على التراث الغني لشعوب البلدان التي عاش فيها سواء كانت أوربيه عند دراسته أو عربية كالشام حيث أقام بها، وكذلك المغرب ذات التراث الموسيقي الأندلسي حيث النوبة والطبوع والموشح والمالوف والملحون وجميع الفنون التي تحمل مصطلح "الشعبي" بكل تلاوينه.. ناهيك عن التراث الموسيقي الأمازيغي الذي هو منجم غني لم تستخرج فنونه لحنا وإيقاعا من لدن الفنانين العرب..
11 سبتمبر/أيلول 2021