أ. د. محمد الدعمي
تنهبت الإدارات الحكومية في بعض دولنا (ولو في وقت متأخر نسبيًّا) لأهمية الخبرات المتراكمة للمتقاعدين، خصوصًا المتقاعدين من القيادات الوظيفية خاصة. وقد شهدت عقود الحروب والمواجهات العسكرية (في العراق على سبيل المثال) بواكير هذا الاهتمام، خصوصًا بضباط الجيش المتقاعدين، إذ تأسست لهم جمعيات وروابط كانت ذات أثر لا بأس به على مستواهم المعيشي وعلى سير أحداث الارتطامات العسكرية بأنواعها.
أذكر مرة، عندما كنت خدمت عضوًا في (بيت الحكمة) البغدادي، أن التقيت لواءً في الجيش العراقي. وقد سألته أثناء حديثنا العابر، عمَّا يتميَّز به الجيش آنذاك، فقال إن الجيش العراقي جيش مهم عالميًّا، وإن تجاربه في "حروب الجبال” لعقود متعددة لا مثيل لها في تواريخ الجيوش العالم الأخرى. وهو بذلك كان يشير إلى ما قد سُمِّي حقبة ذاك بــ”حركات الشمال”، أي العمليات العسكرية في شمال العراق الجبلي الصعب المراس، وذلك لمواجهة "حرب العصابات”، لمحاربة "المتمردين”، كما كان يطلق عليهم، وذلك لأنهم اتخذوا من وعورة المناطق الجبلية ملاذات، أو منطلقات لشن الهجمات على الوحدات العسكرية هناك، خصوصًا قَبل أن يتم حل القضية الكردية بالوسائل السلمية والديمقراطية (والحمد لله). وإذا كنت أن أفتخرت بهذا الإنجاز الذي حدثني به هذا الضابط الكبير المحترم آنذاك، فإني قد تنبهت إلى أهمية عدم التفريط بخبرات ضباط الجيش الكبار المجربين بعد إتمامهم خدمتهم وإحالتهم على التقاعد.
لهذه الأسباب، تأسست في العراق جمعية مفيدة، مختصة بهذه الفئة العسكريين المجربين، وذلك تحت عنوان "المحاربين القدماء”، بقصد الحفاظ على شكل من أشكال الاتصال والارتباط بهؤلاء العسكريين المتمرسين. ربما كان هذا ما حدث كذلك في دول عربية أخرى ضمن إقليمنا المضطرب، كمصر وسوريا، من بين سواهما من دول الإقليم.
بَيْد أن رصد ومتابعة المتقاعدين (مدنيين وعسكريين) مهم للغاية، ليس فقط بالنسبة للعسكر، ولكن كذلك بالنسبة للمدنيين الذين خدموا في كافة دوائر الدولة المختصة. قد تنبهت لهذا الأمر الإدارات الحكومية في عدة دول عبر العالم، وذلك عبر تشكيل ما سُمِّي بدوائر "الاحتياطي الاستراتيجي”، أجل العناية في كوادر الدولة الرفيعة والأكثر تجربة ناجحة: لذا، تم جمع هذه الكوادر المهمة في دائرة حكومية مختصة ارتبطت بأعلى مراكز صناعة القرار، وذلك على سبيل الاستعانة بخبراتهم في مختلف الحقول، كالطبية والتجارية والإقتصادية والإدارية. وهكذا رفد هؤلاء "المتقاعدون” بلدانهم بأفضل خبراتهم، بدلًا عن الانتظار لأجيال حتى يكتسب جيل جديد تالٍ خبرات توازي خبراتهم. والحق، فإن هذا هو "رأس المال” المتراكم الحقيقي، إذ لا يرمى المتقاعد على رفوف الماضي المنسي: فتتم عملية الاستعانة به في حالات الطوارئ وعند الحاجة، كي لا تهدر كفاءاتهم على نحو غير مجدٍ.
أرى أن هذه المبادرة مفيدة للغاية على مستوى الجامعات العربية على نحو خاص، حيث لا يطلّق الأستاذ المتقاعد صفوف الدراسة ثلاثًا، إذ ينبغي أن تقوم القيادات الجامعية باستدعائه لإلقاء المحاضرات في مجال تخصصه لفائدة الأجيال الجديدة الصاعدة التي لا بُدَّ أن تكون في أمَسِّ الحاجة لخبرات هؤلاء الأساتذة ولعلومهم الدقيقة التخصص، وذلك مقابل مردودات مادية واعتبارية يمكن أن تديم الصلة بين الأستاذ وكلِّيته وقسمه العلمي طوال حياته.