سقوط الحضارة الغربية، الذي تنبأ به كتاب وفلاسفة، على مدى قرن كامل، وحتميته لم ولن يتحقق. كما أن الحضارة الغربية تكتسب منذ يومها زخما وقوة أكبر وفهما أعمق من الكثيرين، على الرغم من كل المعوقات والتراجعات التي تشهدها حاليا على أكثر من صعيد.
ما لا يود البعض إدراكه، أن حضارة اليوم هي حضارة العلم والعالم أجمع، بعكس كل ما سبقتها من حضارات.
فالحضارة البابلية أو المصرية أو الفارسية أو العربية وغيرها كانت في جل جوانبها حضارات محلية خاصة بشعوبها، مقتصرة على من يتكلمون لغتها، ولم تنتقل، بعلومها وفنونها للدول الأخرى. فقد مات مثلا سر تحنيط الموتى أو بناء الاهرامات مع سقوط الحضارة المصرية، لفشلها في نقلها للغير، أو تدوينها بطريقة آمنة وصحيحة. أما حضارة اليوم فهي عالمية بجدارة، ومنفتحة وهي تقريبا بتصرف الجميع ولمصلحتهم، ويمكن لأية جهة، من خلال الشبكة العنكبوتية، فهم أسرار صنع الكثير من الأسلحة والأدوية والاسرار والفنون الهندسية وغيرها الكثير، فهي غربية عالمية وليست أميركية أو فرنسية أو بريطانية، ولذا استعانت الصين وكوريا واليابان وغيرها بها، وقامت بتقليدها، والتفوق عليها في بعض الميادين.
هذا التداخل العلمي بين الكثير من دول العام أعطى حضارة اليوم حصانة من الفناء، فأسرارها اصبحت في متناول الجميع، كما أن المعاهد العلمية تنتشر خارج الدول الغربية، وعلى امتداد الكون، من البرازيل مرورا بجنوب أفريقيا وإسرائيل وسنغافورة وكوريا والصين وروسيا ودول عديدة أخرى. ولو دققنا فيما تتضمنه طائرة الإيرباص مثلا من تقنيات عالية لاستغربنا من عدد الدول التي ساهمت في صنعها. وعندما تشتريها الكويت مثلا، وتضع علمها عليها، فهي تشتري كما هائلا من العلم البشري، الذي وضع بتصرفها، وفيه تتجسد حضارة العصر الحديث، التي تنتقل بكل أسرارها المصنوعة في دول عدة ليد غيرها دون حواجز! كما بإمكان أية دولة اليوم شراء حقوق صناعة أي نوع من الأدوية، أو الأمصال، او المحركات. كما أن الحضارة الغربية هي التي اقنعت دولا كثيرة، مثل اليابان وكوريا، بالتخلي عن الكثير من أساليب عيشها، وحتى قديم فلسفاتها، وتبني الحضارة الغربية رقما وشكلا وحتى «خلقا». وبقيت الصين تقاوم ذلك ولكنها مجبرة على أن تتماشى مع النمط الغربي السائد في وقت ما، علما بأنها تدين بكامل تقدمها الصناعي والزراعي والحربي لأدوات وتقنيات وعلوم الحضارة الغربية.
***
نعيد التذكير بأن الصين ستصبح يوما الدولة الأقوى، اقتصاديا، وربما عسكريا، ولكن ليس بإمكانها الحلول محل الحضارة الغربية، فهذا أمر يتعلق بأمور خطيرة وكثيرة ومنها المزاج والذوق العام لغالبية شعوب العالم.
فبخلاف الدول التي تدور في فلك الثقافة الصينية، بشكل أو بآخر، كتايوان وسنغافورة، فإن بقية دول العالم لا يمكن أن تنسجم أو تتقبل الثقافة الصينية، مع العلم بأن الصين، ولأسباب سيرد ذكرها تاليا، ليست مهيأة أصلاً لأن تكون دولة رائدة ثقافيا أو فنيا أو أدبيا، فمهما قدمت وقويت فستعجز دائما في أن تعطي البشرية «باخ» أو «بيتهوفن» أو «إرنست همنغوي» أو متحفا مثل اللوفر، أو لوحة كالموناليزا، أو مسرحا كشكسبير، وكاتبا مثل تولستوي أو فكتور هيغو، أو فلاسفة كفولتير، وروسو، وعشرات آلاف الشخصيات والآثار والإبداعات المماثلة الأخرى، فجميعها نتيجة كم هائل من الحرية، والصين لا تتحمل، لا اليوم ولا في الغد، هذا الكم المطلوب من الحرية، لتصبح، ثقافيا، جزءاً من الحضارة البشرية، بمعناها الحالي.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw